التحصين من كيد الشياطين

خالد الجريسي ت. غير معلوم

التحصين من كيد الشياطين

تصانيف

التحصين من كيد الشياطين تأليف د. خالد بن عبد الرحمن الجريسي

صفحة غير معروفة

مقدمة الْحَمْدُ للهِ بَارِئِ الْبَرِيَّاتِ، عَالِمِ الظَّوَاهِرِ وَالْخَفِيَّاتِ، سُبْحَانَهُ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَحِلْمًا، نَجَّى بِرَحْمَتِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَجَابَ بِلُطْفِهِ دُعَاءَ الْمُضْطَرِّينَ، وَأَوْهَنَ بِعِزَّتِهِ كَيْدَ الْكَافِرِينَ، وَأَضْعَفَ بِجَبَرُوتِهِ كَيْدَ الشَّيْطَانِ الْمَهِينِ، وَأَبْطَلَ بِقُدْرَتِهِ عَمَلَ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ؛ فَأَضَلَّ سَعْيَهُمْ، وَأَزْهَقَ بَاطِلَهُمْ، وَكَشَفَ السُّوءَ عَنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ. أَحْمَدُهُ تَعَالى حَمْدًا كَثِيرًا، وَمَا يَفِي بِمَحَامِدِهِ التَّحْمِيدُ، وَأَشْكُرُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ شُكْرًا وَفِيرًا، أَبْتَغِي بِهِ مِنْ فَضْلِهِ الْمَزِيدَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْقَائِمُ حَقًّا بِنُصْرَةِ التَّوْحِيدِ، أَحْمَدُ النَّاسِ لِرَبِّهِ المَجِيدِ، الْمَاحِي كُفْرَ كُلِّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، الحَاشِرُ يُحْْشَرُ عِنْدَ قَدَمَيْهِ الْعَبِيدُ، الْعَاقِبُ فَلاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَلاَ مَنَاصَ مِنِ اتِّبَاعِهِ لِطَالِبِ النَّجَاةِ وَلاَ مَحِيدَ، الْمَحْفُوظُ حَقًّا بِدِرْعِ الْعِصْمَةِ لاَ بِدِرْعِ الْحَدِيدِ، الْمَنْصُورُ بِرَبِّ الْعِزَّةِ سُبْحَانَهُ لاَ بِعَدَدٍ مِنْ خَلْقٍ وَلاَ عَدِيدٍ، قَصَمَ اللهُ تَعَالَى عَدُوَّهُ بِالرُّعْبِ وَالْوَعِيدِ قَبْلَ قِتَالٍ وَعُدَّةٍ وَتَجْنِيدٍ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُْمِّيِّ صَاحِبِ الْوَجْهِ الأَْنْوَرِ وَالْجَبِينِ الأَزْهَرِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْغُرِّ الْمَيَامِينَ، أُولِي الْفَضْلِ الْمَدِيدِ وَالْقَوْلِ السَّدِيدِ، وَعَلَى

1 / 3

إِخْوَانِهِ النَّبِيِّينَ، وَآلِ كُلٍّ، وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ؛ المُقْتَدِينَ بِهُدَاهُمْ، وَالْمُقْتَفِينَ أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَوَالَتْ فِتَنُ الأَْعْمَالِ الْبَاطِلَةِ عَلَى قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ، وَعُرِضَتْ عَلَيْهَا كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، وَزَاغَ كَثِيرٌ مِنْهَا عَنِ الْحَقِّ، وَكَثُرَ اشْتِغَالُ النَّاسِ بِمَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ، وَبَاعُوا آخِرَتَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ، وَأَعْرَضُوا عَمَّا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ، وَاسْتَبْدَلُوا الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَصَارَتْ طِلَسْمَاتُ السَّحَرَةِ الأَْشْرَارِ، وَتَعَاوِيذُ الْكَهَنَةِ الْفُجَّارِ، مُقَدَّمَةً لَدَيْهِمْ عَلَى كَلاَمِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ الأَْبْرَارِ ﷺ مَا تَعَاقَبَ لَيْلٌ وَنَهَارٌ، رَأَيْتُ أَنَّ مِنْ وَاجِبِي، مَحَبَّةً ِلأَهْلِ الإِْسْلاَمِ وَذَبًّا عَنْ حِيَاضِهِ الْمُطَهَّرَةِ، أَنْ أُبَيِّنَ عَوَارَ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلاَلِ، وَقَدِ اسْتَفْحَلَ خَطَرُهُمْ وَاسْتَشْرَى كَيْدُهُمْ، وَكَادَ - لَوْلاَ لُطْفِ اللهِ بِهذِهِ الأُْمَّةِ الْمُكْرَمَةِ - أَنْ يَدُكَّ حِصْنَ تَوْحِيدِهَا، وَأَنْ يَزِلَّ قَدَمَهَا بَعْدَ ثُبُوتِهِا، فَإِنَّكَ تَكَادُ لاَ تَجِدُ بَيْتًا أَوْ نَادِيًا إِلاَّ تَعَلَّقَ أَهْلُهُ شَيْئًا وَلَوْ خَيْطًا، أَوْ تَمَسَّكُوا بِأَهْدابِ مُشَعْوِذٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَأَقَلُّهُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَرَؤُوا فُنْجَانًا، أَوِ اسْتَبْشَرُوا بِمَطْلِعِ نَجْمٍ، وَتَشَاءَمُوا بِأُفُولِهِ، أَوْ كَرِهُوا رَقْمًا وَأَحَبُّوا آخَرَ، حَتَّى صَارَتْْ «مَوَاقِعُ الْفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِهِمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ» (١)، لِذَلِكَ كُلِّهِ فَقَدِ اسْتَخَرْتُ اللهَ تَعَالَى فِي إِجَابَةِ مَنْ دَعَانِي لِبَيَانِ مَا يُحَصِّنُ الْمُؤْمِنَ وَيَكْفِيهِ - بِإِذْنِ

(١) جزء من حديث أخرجه البخاري، كتاب أبواب فضائل المدينة، باب: آطام المدينة، برقم (١٨٧٨)، عن أسامة بن زيد ﵄، ومسلمٌ؛ كتاب: الفتن، باب نزول الفتن كمواقع القطر، برقم (٢٨٨٥)، عنه أيضًا، والقَطْر: هو المطر.

1 / 4

اللهِ - مِمَّا قَدْ يَضُرُّهُ مِنْ عَيْنِ عَائِنٍ، أَوْ حَسَدِ حَاسِدٍ، أَوْ كَيْدِ سَاحِرٍ، أَوْ مَسِّ شَيْطَانٍ، أَوْ اسْتِعَانَةِ كَاهِنٍ فَاجِرٍ بِجِنٍّ كَافِرٍ، وَغَيْْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُورِثُ ضُرًّا بَالِغًا مِنْ عَمَلِ شِرَارِ الْخَلْقِ وَأَعْدَاءِ الْحَقِّ، قَاصِدًا كَشْفَ أَحْوَالِهِمُ الْمَشِينَةِ وَأَعْمَالِهِمُ الْمَهِينَةِ، مَعَ بَيَانِ مَا رَجَحَ مِنْ أَحْكَامِ هَؤُلاءِ وَأَعْمَالِهِمْ فِي الشَّرِيعَةِ الغَرَاءِ المُبِينَةِ، مُسْتَعِينًا بِاللهِ تَعَالَى، مُسْتَهْدِيًا بِكِتَابِهِ الْمَجِيْدِ، وَمُسْتَنِيرًا بِمَنَارِ السُّنَّةِ العَلِيَّةِ، وَجَوَامِعِ كَلِمِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ ﷺ، جَامِعًا مِنْ مَعِينِ ذلِكَ كُلِّهِ رُقًى مَشْرُوْعَةً - إِنْ شَاءَ اللهُ -، سَائِلًا اللهَ الْمَلِكَ الْعَلاَّمَ أَنْ يَجْعَلَهَا سَبَبًا مُبَارَكًا لِدَفْعِ الضُّرِّ بِإِذْنِهِ عَنِ الأَْنَامِ، وَأَنْ يَتَقَبَّلَهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَيُنْبِتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا، فَيَضَعَ لَهَا قَبُولًا في قُلُوبِ عِبَادِهِ الأَْخْيَارِ، وَيُكَفِّلَهَا أَهْلَهَا مِنَ السَّادَةِ الأَْبْرَارِ. هَذَا، وَقَدْ سَمَّيْتُ كِتَابِيَ هَذَا - بِحَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ - «التحصين من كيد الشياطين»، وَجَعَلْتُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ - بَعْدَ الْمُقَدِّمَةِ - مُرَتَّبَةٍ عَلَى النَّحْوِ الآتي: * الفصل الأول: ... بيان ألفاظ ومصطلحات مهمة. * الفصل الثاني: ... التحصينات الواقية. * الفصل الثالث: ... أنواع الأمراض بعامةٍ، وأصول التداوي المشروع. * الفصل الرابع: ... التداوي بالرقى المشروعة. * خاتمة

1 / 5

وَلَقَدْ عَلِمْتُ - خِتَامًا - أَنِّي أَدْلُو بِدَلْوٍ أَنْزَحُ بِهِ مَاءَ بِئْرٍ كَادَ مَاؤُهُ أَنْ يَنْضَبَ، لِكَثْرَةِ مَا نُزِحَ، وَأَجُولُ فِي مَيْدَانٍ صَالَ فِيهِ فُرْسَانٌ أَعْلاَمٌ لاَ يُشَقُّ لَهُمْ غُبَارٌ، إِلاَّ أَنِّي - مَعَ ذَلِكَ - أَحْبَبْتُ أَنْ أَنْزَحَ وَلَوْْ َقَطْرَةً، وَأَنْ أَصُولَ وَلَوْ جَوْلَةً، مُتَحَرِّيًا لأَِثَرِهِمْ، مُتَّبِعًا سَنَنَهُمْ، رَاجِيًا - إِنْ شَاءَ اللهُ - اللَّحَاقَ بِرَكْبِهِمْ. د. خالد بن عبد الرحمن الجريسي

1 / 6

الفصل الأول بيان ألفاظ ومصطلحات مهمة

1 / 7

بيان ألفاظ ومصطلحات مهمة تمهيد: تَرِد على مسامع المسلم المعاصر ألفاظٌ ومصطلحات، يألف سماعها في المجالس العامة والخاصة، وفي المحاضرات العلمية والندوات التلفازية، ويتجاذب الناس أطراف الحديث بها ويتشوّف كثير منهم - كبيرهم وصغيرهم - إلى معرفة المزيد عنها، فينبري إذ ذاك ثلة من القوم لتصدُّر الحديث بشأنها، فيتلقَّوْنه بألسنتهم، فيهرفون بما لا يعرفون، وقد صار حال الناس في ذلك بين مقلٍّ ومُكثِر؛ فهذا جاهل بحقيقتها، وذاك له أَثارة مِنْ علمٍ بها، وذلك عالم بخفاياها لكنه قد أمسك عن التحدث بشأنها، أو قلّ تعرضه لبيانها، وهي بلا ريبٍ حديث الناس على مدار الساعة، وغالبًا ما يكون للجهلة - الذين امتهنوا الشعوذة، واستساغوا التدجيل - قصب السبق في الحديث عنها، فتنجذب إليهم قلوب العامة، بل وبعض الخاصة، يُغدِقون عليهم بعض ما حازوه من فُتات الدنيا، ومع أن ضر هؤلاء الدجاجلة أقرب من نفعهم، لكنك تلقى تهافت الناس على دُورهم منقطع النظير، حتى إنك قد تجد من لم يمسه ضُرٌّ، يُقبِل عليهم طالبًا نفعًا بهم، فيهرعون إذ ذاك إلى اهتبال هذه الفرصة السانحة، فيستخِفُّونه، ويصنعون له التمائم والحُروز ويحضِّرون له - بزعمهم - الأرواح الخيِّرة لتساعده، فيكون بعدها في ضَنْك العيش؛ تتجاذبه شياطين الإنس والجن، حتى يأذن الله تعالى بفَكاكِه من ذلك.

1 / 9

لذا، وجب على المؤمن أن يكون على بينة من الأمر، فيحذر هؤلاء ويتقي شرهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بمعرفة ما بيَّنَتْه الشريعة الإسلامية من حقائق هذه الأمور، والتي سأسعى - جاهدًا إن شاء الله - إلى استقصائها وبيانها بعون الله تعالى، وهي مصطلحات وَفّت الثلاثين لا يَحْسُن بمسلم الجهلُ بها. هذا، ولا تتناول هذه المباحث بيان هذه المصطلحات لغة، حيث إن المقام لا يتسع لذلك، والغرض بيان حقائقها لتبصير المسلم المعاصر بها، ولتحذيره مما قد يضره منها، وهي إجمالًا: الجن - المس - الاستعانة - المَنْدل - الزَّار - قياس الأثر - العرافة - الكهانة - التنجيم - قراءة الزهر المرقَّم - علم الأسارير - قراءة الفنجان - الضرب بالحصى - الخط بالرمل - حساب الطالع - حساب السُّبْحة - الحسد - العين - السحر - الطِّلَّسْم - النَّفْث - النفخ - الهمز - النَّزْغ - الرَّكْضة - الرَّبْط - التِّوَلة - النُّشْرة - التميمة - التحضير. ١- الجنّ (١): هم خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الله تعالى، خَلَقهم سبحانه لعبادته كالإنس، قال تعالى: [الذّاريَات: ٥٦] ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *﴾، وهم يوافقون البشر بأوصاف، ويفارقونهم بأوصاف (٢) . أما موافقتهم للإنس فبأنهم: ١- مكلفون بالتكاليف الشرعية.

(١) انظر في هذا المبحث كتاب: عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة. د. عبد الكريم عبيدات، الباب الأول من ص (٣) إلى ص (٧٦) . (٢) ستأتي - إن شاء الله - أدلة هذه الأوصاف بعد تمام ذكرها.

1 / 10

٢- يسكنون هذه الأرض. ٣- يأكلون ويشربون. ٤- يتناكحون ولهم ذرية. ٥- يُنسَبون إلى أقوامٍ وعشائرَ وقرابات. ٦- ينتسبون إلى أديان مختلفة، فمنهم المؤمنون [وهم درجات في الصلاح]، ومنهم الكافرون. ٧- ... لهم أوصاف مشتقة من أحوالهم، فكما يقال للإنسي: شيطان لكثرة شقوته وإضلاله لبني جنسه، يقال للجني كذلك، وكما يقال طُفَيْلِيٌّ للإنسان إذا كَثُر اعتمادُه على غيره، يقال للجني إذا اتصف بذلك: تابع، وهكذا ... ومن أوصافهم المشتهرة العِفْريت: وهو القوي الداهية، والخابل وهو الذي يتسبب بالجنون لإنسي، والغُول وهو الذي يَكْثُر تشكُّلُه بصور كثيرة، ليُفْزِع الناس، والزَّوْبعة، وهو من أكثر الجن شوكة وقوة، ومنهم الغوّاص وهو من له قدرة فائقة على الغوص لاستخراج مكنونات البحار من حُلِيٍّ وغيرها، ومن ذلك أيضًا: البنّاء، وهو: من يتصف بالمهارة النادرة في فن البناء. والله أعلم. ٨- ... ينتسبون إلى أوطانٍ، منها: الجزيرة (١)، ومن مدنها:

(١) هي: جزيرة أَقُور، وهي تقع بين دِجْلة والفُرات، مجاورة للشام، وسميت بالجزيرة لكونها بين دجلة والفرات، ومن أمهات مدنها حَرّان والرُّها والرقة ونصيبين. انظر: معجم البلدان للحَمَوي (٢/١٥٦) . والمقصود بالجزيرة - حاليًا -: هي المنطقة الواقعة بين نهرَيْ دجلة والفرات، ويُطلق عليها أيضًا الجزيرة الفراتية ونصيبين من مدنها، وهي مدينة تركية عامرة الآن، وتقع شمال شرق سورية مباشرة، وجنوب غرب تركيا.

1 / 11

نَصِيبين، وفيها جن هم نِعْمَ الْجِنُّ (١)، وهم سادات الجن، ومن أوطانهم أيضًا نِينَوَى (٢)، وهكذا. وأما مخالفتهم للإنس فبأمور منها: ١- ... أن أصل خِلْقتهم من خالص اللهب. ٢- ... أنهم يتميزون بقدرات فائقة، منها: سرعة الحركة في التنقل، والقدرة الهائلة على إنجاز الأعمال الشاقة، والقدرة على التشكل بصورة ذي روح كإنسان أو حيوان، علمًا أن الصورة التي يتشكّلون بها تصير حاكمة عليهم، فلو فُرِض تشكُّلُهم بصورة إنسي ثم طُعِن هذا الإنسي بخنجر مثلًا، فإن الجني يموت بسبب ذلك، بخلاف تشكُّل الملائكة ﵈، فإن الصورة لا تحكم عليهم (٣)، وهم باقون على عظم خِلْقتهم وقوتهم كما قبل التشكل. ٣- ... أنهم ثلاثة أصناف: - صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء. - وصنف متشكلين بحيات وكلاب.

(١) كما وصفهم بذلك رسول الله ﷺ، فيما أخرجه البخاري؛ كتاب: مناقب الأنصار، باب: ذِكر الجن، برقم (٣٨٦٠)، عن أبي هريرة ﵁، ومسلم - بنحوه -؛ كتاب: الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح والقراءةِ على الجن، برقم (٤٥٠)، عن ابن مسعود ﵁. (٢) وهي قرية الرسول يونس بن متى ﵇، بالموصل. انظر: معجم البلدان (٥/٣٩١) . (٣) ودليل حكم الصورة على الجن عند تشكلهم على صورة ذي روح، قوله ﷺ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَآذِنُوهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» أخرجه مسلم، برقم (٢٢٣٦)، عن أبي سعيد الخدري ﵁. وأما دليل عدم حكم الصورة على الملائكة _ت، قوله تعالى حكاية عن ضيف إبراهيم ولوط _ث: [هُود: ٨١] ﴿قَالُوا يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ...﴾ .

1 / 12

- وصنف يحلُّون ويظعنون، يصعدون وينزلون حيث يشاؤون. ٤- ... أنهم لا تمكن رؤيتهم على صورتهم الحقيقية. ٥- ... أنهم لم ينبّأ منهم أحد، ولم يكن منهم رسول، فأنبياء البشر ورسلهم ﵈، هم أنبياء ورسل للجن كذلك. ٦- ... أن من طعامهم اللحم الذي يجدونه عند العظم، وأن علف داوبهم يجدونه عند الروث، يحل لهم ذلك كلُّه إذا ذكروا اسم الله عليه. ٧- ... يسكن الشياطين منهم - والعياذ بالله - في الأماكن المهجورة والحُشُوش (١)، ويسكنون الأسواق لكثرة ما يكون فيها من التبرج، والغش، والأَيْمان الكاذبة، عياذًا بالله تعالى. * وهاك - أخي القارئ - أدلةً على مجمل ما سبق ذكره من صفات الجن ما وافق منها صفاتِ الإنس وما خالف، مرتبةً بحسب إيرادها السابق إن شاء الله: ١- ... هم مكلفون - كالبشر - مأمورون بأداء الطاعات منهيون عن مقارفة المعاصي، وأدلة ذلك عديدة، منها قوله تعالى: [الذّاريَات: ٥٦] ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *﴾، وقوله سبحانه - حكايةً عن نفر منهم أنصتوا لتلاوة مباركة من النبي ﷺ: [الأحقاف: ٣١] ﴿يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *﴾، قال الإمام الشوكاني ﵀ في تفسيره للآية

(١) الحُشوش، ومفرده حَش أو حُشٌّ وهو: البستان من نخيل متكاثف بعضه على بعض، وكذلك يطلق على المَخْرج (مكان قضاء الحاجة)؛ لأنهم كانوا يُبعِدون إليه، يقضون عنده الحاجة. انظر: مختار الصحاح مادة (حَشَشَ) .

1 / 13

الكريمة: (في هذه الآية دليل على أن حكم الجن حكمُ الإنس في الثواب والعقاب والتعبُّد بالأوامر والنواهي) . اهـ (١) . مسألة: هل أرسل الله إلى الجن رسلًا منهم أم لا؟ ولا يَرِد على ما سبق الاحتجاجُ بمعنى قوله تعالى: [الأنعَام: ١٣٠] ﴿يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا﴾ . فإن ظاهر معنى الآية أفاد أن لهم رسلًا من جنسهم، كما أن للإنس رسلًا من جنسهم. لكن الراجح في ذلك عند أهل العلم أنه لم ينبأ منهم أحد ولم يكن منهم رسول، وقد استدلوا على ذلك بأدلة عديدة، منها: قول الله تعالى: [يُوسُف: ١٠٩] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ...﴾ . وقوله تعالى: [الفُرقان: ٢٠] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ﴾، وقوله ﷿: [العَنكبوت: ٢٧] ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ . وفيه تصريح بأن كل نبي بعثه الله بعد إبراهيم ﵇ فهو من ذريته. وقال النبي ﷺ: وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ (٢) .

(١) انظر: فتح القدير، للإمام الشوكاني (٥/٢٦) . (٢) محل استدلالٍ من حديث أخرجه البخاري؛ كتاب: الجهاد والسِّيَر، باب: قول النبي ﷺ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»، عن أبي هريرة ﵁. ومسلم - بلفظه -؛ في استهلال كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، برقم (٥٢٣)، عنه أيضًا.

1 / 14

ومعلوم - ولا ريب - أن الجن هم من بعض الخَلْق المكلّفين، فيدخلون في عموم رسالته ﷺ، وقد أفاد الحديث أيضًا أنه ليس لأحد من إنس أو جن أو غيرهم ادعاء نبوة - أو رسالة من باب أولى - بعد النبي ﷺ. وهاك ثلاثة وجوه يرجح بها قول القائلين باختصاص الرسالة ببني آدم دون الجن: الأول: ... كثرة الأدلة - وقد أوردت بعضها - ومن صريح ما استدلوا به قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ...﴾ [يُوسُف: ١٠٩]، قال القرطبي ﵀: أي أرسلنا رجالًا ليس فيهم امرأة ولا جني ولا مَلَك (١) . اهـ. الثاني: ... أن المراد بقوله تعالى -، أي: من أحدكم (٢) وقد بينه الإمام الشوكاني ﵀ بقوله: هو من مجموع الجنسين، وصَدَقَ على أحدهما، وهم الإنس، كقوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ *﴾ [الرحمن: ٢٢]، والمراد: من أحدهما. اهـ (٣) . الثالث: ... تضمُّن القرآن الكريم خطابًا للجن وتحديًا لهم وإعلامًا بمآلهم في الآخرة، وتوعُّدًا لهم، فأما إفرادهم بالخطاب ففي قوله تعالى: ﴿يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِْنْسِ﴾ [الأنعام: ١٢٨]، وأما اقتران الخطاب بالإنس ففي قوله تعالى: ﴿يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِْنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ

(١) انظر: الجامع لأحكام القرآن (٩/٢٧٢) . (٢) المرجع السابق (٧/٨٧) . (٣) انظر: فتح القدير للإمام الشوكاني (٥/٢٦) .

1 / 15

تَنْفُذُوا﴾ [الرحمن: ٣٣]، وهو من التحدي لهم، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *﴾ [الإسراء: ٨٨] . ومن الإعلام بمصيرهم في الآخرة قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ *وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *﴾ [الأحقاف: ١٨-١٩]، ومن توعّده لهم قوله تعالى: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ *﴾ [الرحمن: ٣١] . وقوله: ﴿وَمِنَ ...﴾ [سبأ: ١٢] . وخلاصة ما ذُكر آنفًا - في تقرير أن الجن مخاطبون بالتكليف من قِبَل رسل الإنس - هو ما ذكره الإمام القرطبي ﵀ بقوله: (إن سورة الرحمن والأحقاف وقل أوحي - أي سورة الجن -، دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيون، معاقبون كالإنس سواء بسواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك» . اهـ (١) . ووجه الاستدلال في ذلك: أن خطاب القرآن المتوجه إلى الجن دال على أن من أنزل عليه القرآن ﷺ هو مرسل إلى الجن كما إلى الإنس، وإلا فكيف يفردون بالخطاب ثم يتوعدون بالعذاب، ويتم تحديهم بكتابٍ، هو في الأصل منزل على رسول خاص بالإنس، فلو حصل ذلك لكان لهم عندها أن يحتجوا بقولهم: لا شأن لنا بذلك كله،

(١) انظر: تفسير القرطبي: (١٧/١٧٠) .

1 / 16

فالقرآن إنما أنزل على رسول خاص بالإنس، ولمّا لم يفعلوا، دل ذلك على أن النبي ﷺ مرسل لعموم الإنس والجن، والله أعلم. ٢- ... أما سكناهم لهذه الأرض فدليله قوله تعالى: ﴿وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ *﴾ [الرحمن: ١٠]، قال ابن عباس ﵄: الأنام: الناس، وقال الحسن البصري ﵀: الأنامُ الجنُّ والإنس (١) . - ... وقول النبي ﷺ: إِنَّ فِي الْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا ... (٢) . ٣- ... وأما كونهم يأكلون ويشربون. فدليله قول النبي ﷺ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ (٣) . ٤- ... ودليل كونهم يتناكحون ويتناسلون ولهم ذرية قولُ الله تعالى - محذِّرًا من اتباع إبليس وذريته عياذًا بالله منهم -: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٠] . وقد كان النبي ﷺ إذا دخل الخلاء، يقول: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ (٤) . (والخُبُث جمع خبيث،

(١) انظر كذلك تفسير القرطبي: (١٧/١٥٤) . (٢) جزء من حديث أخرجه مسلم؛ كتاب: السلام، باب: قتل الحيات وغيرها، برقم (٢٢٣٦)، عن أبي سعيد الخدري ﵁. (٣) أخرجه مسلم؛ كتاب الأشربة باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، برقم (٢٠٢٠)، عن عبد الله بن عمر رضي لله عنهما. (٤) متفق عليه من حديث أنس ﵁: أخرجه البخاري؛ كتاب الوضوء، باب: ما يقول عند الخلاء، برقم (١٤٢)، ومسلم؛ كتاب: الحيض. باب: ما يقول إذا أراد دخول الخلاء، برقم (٣٧٥) . وضبط «الْخُبُثِ»، بإسكان الباء، عند مسلم.

1 / 17

والخبائث جمع خبيثة، يريد: ذُكْرانَ الشياطين وإناثهم) (١) . ومعلوم أن وجود الذكران والإناث مقتضٍ لحصول الجماع والتوالد، والله أعلم. ٥- وأما انتسابهم إلى أقوام وعشائر، فلقول الله تعالى - حكاية عن نفرٍ من الجن استمعوا القرآن من الرسول ﷺ: ﴿يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ﴾ [الأحقاف: ٣١] . ولقوله ﷺ لأبي هريرة ﵁: «إِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ (٢) - وَنِعْمَ الْجِنُّ - فَسَأَلُونِي الزَّادَ، فَدَعَوْتُ اللهَ لَهُمْ أَنْ لاَ يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلاَ بِرَوْثَةٍ إِلاَّ وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا» (٣) . ٦- ... وأما انتسابهم إلى أديان مختلفة، وكونهم طرائق عديدة من حيث الصلاح والفساد، فلقول الله تعالى - حكاية عن بعض الجن (٤) -: [الجنّ: ١١] ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا *﴾ . قال الإمام القرطبي ﵀: (المعنى: لم يكن كل الجن كفارًا، بل كانوا مختلفين، منهم كفار، ومنهم مؤمنون صُلَحاء، ومنهم مؤمنون غير صُلحاء) (٥) . ٧- ... وأما أوصافهم التي اشتهروا بها فصارت كالأصناف لهم: فمنهم: الشياطين، ومنهم المردة - والعياذ بالله - قال تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا

(١) الكلام لابن حجر ﵀. انظر: فتح الباري (١/٢٤٣) . (٢) (نِصِّيبينَ)، أو (نَصِيبِينَ) بالتخفيف: (وهي مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام) . انظر: معجم البلدان، لياقوت الحَمَوي: (٥/٢٣٣) . (٣) جزء من حديث أخرجه البخاري؛ سبق تخريجه ص ١٢، بالهامش ذي الرقم (١) . (٤) وهم جن نصيبين، من ساكني جزيرة أقور، ونصيبين مدينة من أمهات مدن الجزيرة كما سبق بيانه ص١١ بالهامش ذي الرقم (١) . (٥) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (١٩/١٦) .

1 / 18

السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ *وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ *﴾ [الصافات: ٦-٧] . والشيطان المارد، هو: (الخبيث المتمرد العاتي، إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه) (١) . ومن أصناف الشياطين أيضًا البناؤون والغوّاصون قال تعالى: ﴿وَالشَّيْاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ *﴾ [ص: ٣٧] . وقد سخّرهم الله تعالى لعبده ونبيّه سليمان ﵇ وسلّطه عليهم فهم يأتمرون بأمره ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ [سبأ: ١٣]، [والمحراب مقدّم المجلس أو المصلّى أو البنيان، والتمثال صورة من نحاس أو زجاج، والجفان ج/جفنة وهي قدر متسع للطعام، بلغت من سعتها أن تكون كالجابية، أي: الحوض الذي يُجبى فيه الماء أي يجمع به، وقدور أخرى ثابتة لا تتحول من موضعها لِعِظَم حجمها] (٢) . ومن أصنافهم: العفاريت، قال تعالى: ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ *﴾ [النمل: ٣٩]، والعِفْريت هو: (النافذ في الأمر المبالغ فيه مع خبث ودهاء) (٣) . ومنه قوله ﷺ: إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ جَعَلَ يَفْتِكُ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ، لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ، وَإِنَّ اللهَ أَمْكَنَنِي مِنْه فَذَعَتُّهُ ... الحديث (٤) .

(١) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: ص ١٤٤٣، ط - بيت الأفكار الدولية. (٢) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن. (تفسير الطبري): (٢٢/٨٧) . (٣) انظر: لسان العرب لابن منظور: (٤/٥٨٥) . (٤) أخرجه البخاري بنحو هذا اللفظ، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: [ص: ٣٥] ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾، برقم (٤٨٠٨)، عن أبي هريرة ﵁. ومسلمٌ بلفظه، كتاب: المساجد، باب: جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، برقم (٥٤١) عنه أيضًا. ومعنى: فَذَعَتُّهُ: خَنَقْتُهُ.

1 / 19

ومنها أيضًا النَّخَسَة الخُبَّل، وهم الذين ينخسون المولود عند ولادته، وقد يتخبط الإنسانَ هذا النوعُ إذا ضلّ عن سبيل الله تعالى، فيُصيِّره لا يعي ما يقوله، وهو المسمى بالمس أو الصرع، والصحيح ثبوت حصوله، كما سيأتي بيانُه تفصيلًا إن شاء الله. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة: ٢٧٥] . وقال ﷺ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاّ نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ إِلاّ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ (١) . ومن أصنافهم كذلك الغِيلان، ومفرده غُول، وهو الجني يتصور بصور عدة، ويتبدل باستمرار. قال النبي ﷺ: ... فَإِذَا تَغَوّلَتْ بِكُمُ الْغِيلاَنُ فَبَادِرُوا بِالأَْذَانِ ... (٢) . وكذا منهم الزَّوْبَعة، وهم - كما سبق - من أقوى الجن شوكة. قال تعالى: [الأحقاف: ٢٩] ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ *﴾، (وفي سبب نزولها، قال ابن مسعود ﵁: (هبطوا على النبي ﷺ وهو يقرأ القرآن ببطن

(١) أخرجه البخاري؛ كتاب: الأنبياء، باب: قوله تعالى: [مَريَم: ١٦] ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ...﴾ برقم (٣٤٣١)، عن أبي هريرة ﵁. ومسلمٌ بلفظه؛ كتاب: الفضائل. باب: فضائل عيسى ﵇، برقم (٢٣٦٦)، عنه أيضًا. ... ومعنى: نَخَسه، أي: طعنه أو نزغه أو مسّه أو عصره أو لكزه أو ضربه على جنبه، كما يستفاد من مجموع روايات الحديث، والله أعلم. (٢) جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد (٣/٣٨٢)، من حديث جابر بن عبد الله ﵄.

1 / 20

نَخْلَةَ، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا - قال: صَهْ -، وكانوا تسعةً أحدُهم زَوْبَعَةُ، فأنزل الله: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ..﴾ - الآية) (١) . [وقد آذنَتْه بهم - أي أعلمَتْه ﷺ باستماعهم ووجودهم شجرةٌ] (٢) . وقال الإمام القرطبي ﵀: هم من بني الشيِّصيان، وهم أكثر الجن عددًا وأقواهم شوكة وأشرفهم نسبًا (٣) . وقد تعددت الروايات في تحديد نسبة هؤلاء النفر وعددهم، فقيل هم تسعة من الشيِّصيان كما تقدم، أو سبعة من نِصِّيبين، أو من جن نينوى، أو من أهل حرّان، وأن الاستماع كان في صلاة الفجر أو في صلاة العِشاء الآخرة. وأيًا كان الحال، فالعبرة في إذعانهم - مع عِظَم شوكتهم - لمواعظ القرآن، وقبولهم بأن يكونوا رسلَ رسولِ الله ﷺ إلى قومهم، يدعونهم لإجابة داعي الله والإيمان به ﵊، بل إنهم قد دَعَوا بعض الإنس أيضًا للإسلام كما في حديث إسلام سواد بن قارب ﵁ الطويل، وفيه أن داعي الجن أتاه ثلاث ليالٍ متواليات يدعوه في كل ليلة بقوله: فانهضْ إلى الصَّفوة من بني هاشمٍ ... ما مؤمنو الجن ككفارها فأنشد سواد بين يدي النبي ﷺ شعرًا، ومنه: وأنك أدنى المرسلين شفاعةً ... إلى الله يا ابنَ الأكرمينَ الأطايبِ

(١) انظر: تفسير القرآن العظيم ص ١٥٦٥ ط - بيت الأفكار الدولية. (٢) حديث الإيذان في صحيحي البخاري ومسلم، الأول برقم (٣٨٥٩)، والثاني برقم (٤٥٠) . (٣) انظر: الجامع لأحكام القرآن (١٩/٢) .

1 / 21

فمُرْنا بما يأتيك يا خيرَ مُرْسَلٍ ... وإن كان فيما جاء شَيْبُ الذوائبِ وكن لي شفيعًا يوم لا ذو شفاعةٍ ... سواك بمُغْنٍ عن سوادِ بن قاربِ قال سواد ﵁: فَضَحِكَ النَّبِيُّ ﷺ حَتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَالَ: أَفْلَحْتَ يَا سَوَادُ (١) . ٨- ... وأما انتسابهم إلى أوطانٍ ومواضعَ من الأرض، فمن أدلته: - ... قول النبي ﷺ لأبي هريرة ﵁: «إِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ، وَنِعْمَ الْجِنُّ ...» (٢) الحديث. - ... وعند الإمام الشعبي ﵀: (إن الوفد الذي جاء ليلة استماع الجن القرآنَ من رسول الله ﷺ، كانوا من جنّ الجزيرة) (٣) .

(١) جزء من حديث إسلام سواد بن قاربٍ ﵁، وقد أخرجه البيهقي بطوله في دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: (٢/٢٤٨)، كما أخرجه - باختلاف مختصرًا - البخاريُّ في كتاب: مناقب الأنصار، باب: إسلام عمر بن الخطاب ﵁، برقم (٣٨٦٦)، عن عبد الله بن عمر ﵄ ولم يصرّح فيه باسم كاهن الجن في الجاهلية. ... - قال البيهقي ﵀: [حديث سواد بن قارب، ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح] . اهـ. ... - وقال ابن كثير رحمه اللهفي تفسير القرآن العظيم (٤/١٩٨): وهذا الذي قاله البيهقي هو المُتَّجِه. اهـ. (٢) جزء من حديث تقدم تخريجه ص ١٢، بالهامش ذي الرقم (١) . (٣) سبق بيان معنى (الجزيرة)، والقولُ ذكره الإمام مسلم؛ كتاب: الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، برقم (٤٥٠) . ولا تضادَّ بين كونهم من الجزيرة، أو من نصيبين، حيث إن نصيبين مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام. كما سبق ذكره.

1 / 22