النبوة: اصطفاء وقدوة
الناشر
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
رقم الإصدار
السنة الثانية - العدد الثالث
سنة النشر
محرم ١٣٩٠هـ/١٩٧٠م
تصانيف
مدخل
مدخل
...
النبوة: اصطفاء وقدوة
للشيخ أحمد مختار البزرة المدرس بكلية الدعوة
إن العالم يتطلع في هذا العصر إلى أمة تتحمل الواجب المقدس في الدفاع عن الإنسان، هذه الأمة يجب أن تصير قدوة، ولا تصير قدوة إلا إذا عرفت في تاريخها مثلًا يحتذى.
المحاضرة الرابعة في الموسم الثقافي لعام ٨٩-٩٠ الذي تقيمه الجامعة الإسلامية بالمدينة. وقد ألقاها المحاضر على جمع غفير من رجال العلم والحجاج وطلاب الجامعة بمقر دار الحديث.
يعيش إنسان العالم المعاصر أيامًا شدادًا؛ تظله غيوم التشاؤم، ويملأ نفسه اليأس، إنه في عالم العصر الحديث؛ عصر المدنية الغربية الذاهبة شرقًا وغربًا؛ مدنية المعجزات العلمية والمخترعات الباهرات، مدنية شقَّ صانعوها أجواء الفضاء وحزموا الحقائب للسفر إلى الكواكب؛ مدنية فتحت لأعينها آيات رائعات على عظمة قدرة الله الخالق ودلائل على البارئ المقدر الحكيم! ومع ذلك فإن إنسان هذه المدنية في قنوط وعجز وخوف؛ خوف من مدنيته التي شيدتها يداه، ينظر في كل مكان فيرى رؤوس القنابل النووية في البر والبحر والجو مشرعة تريد أن تنقضَّ، فيغمض عينيه ويهرب بنفسه إلى دنيا الوجوديين والعراة والخنافس والمخدرات؛ خوف على خوف إذا وضع يده على قلبه أنكره. إنسان هذه المدنية يلوك خيبة مريرة، لقد قضى قرونًا بحثًا عن السعادة والمعرفة والحق والخير والجمال، وأقام دهرًا طويلًا يتشدق بالحرية والعدالة والمساواة، لكنه
1 / 7
أخفق في تحصيلها، وأخذ بنفسه وبالآخرين لما فرض نفسه وحضارته عليهم دليلًا وقيما. فأشقى نفسه وألقى على أمم الأرض الشقاء.
إنسان هذه المدنية - على عديد تجاربه في الحياة وضخامة وسائله وإمكاناته - ليس كالإنسان الذي كرمه الخالقة أول مرة وأمر الملائكة بالسجود له. إنه إنسان فقَدَ نقاء الفطرة، وانحط عن مرتبة الكمال الأمثل، إنسان رضي بالأرض قسما وباع السماء بيعة وكس، وقطع بينه وبينها الأسباب وعاش في الأرض للأرض لا لربه ولا لنفسه، ومنها اشتق معناه الوجودي معنى ماديًا بحتًا، ووزن نفسه بترابها؛ بذهبها أو حديدها أو نحاسها أو زينتها أو حبها فلم يعرف لنفسه قدرًا وقيمة إلا بمقدار ما جمع منها وما حاز. وكان الوزن عند الله الحق والعدل والخير والأمانة.
كان هذا انحرافا كبيرًا عن الصراط المستقيم الذي هدى الله إليه الإنسان؛ انحرافًا قذف به إلى الجانب المظلم الداكن من الحياة؛ إلى الخوف بعد الأمن.. إلى الظلم بعد العدل.. إلى العبودية بعد الحرية.. إلى الشقاء بعد السعادة.. إلى القلق بعد الطمأنينة.. إلى الكفر بعد الإيمان.. إلى الحرب بعد السلام.
ويقف هذا الإنسان وقد أعد كل شيء للحرب والفتك ليخادع نفسه كما خدعها مرارًا وليبحث ويتحدث في السلام.
يالها من أغنية حلوة عذبه! كذلك يتغنى السجناء بأناشيد الحرية من وراء القضبان.
قالت خديجة ﵂: "الله السلام ومنه السلام"١. وحق ما قالت، فمن أراد السلام فليلتمسه في حمى الله؛ في شريعته ومبادئه.
وأية جدوى في البحث عنه في قلوب خاوية من تعاليم الرب لم تبق فيها شهوة المادة شعاعًا من نور، ولا نبضة من رحمه؟.
إن السلام ينبثق من المحبة، والمحبة تتفجر من الإيمان. وأن الحرب تلدها البغضاء، والبغضاء سليلة الكفر والإلحاد. إذن لا أمل للإنسانية في سلام ونجاة وللكفر والإلحاد في الأرض دولة وسلطان.
إن خلاص الإنسانية الحقيقي أن تجد سبيلًا إلى محبة؛ محبة خالصة منزهة وليست هي في المادة! فإن المادة تستولي على قلب الإنسان ولا تورثه إلا أثرة وشحناء. وليست المحبة في الإلحاد، فإن الإلحاد في حقيقته حقد جاحد؛ حقد مخلوق متكبر على الخالق المنعم. وكيف يعطى قلب خلا من الإيمان جاحد بموجده،
_________
١ ابن هشام م١ ص ٢٤١. تحقيق مصطفى السقا وزملائه.
1 / 8
حاقد على ربه محبة صادقة نقية معينة؟ وهل يجتمع نقي الحب وأسود الحقد في قلب واحد؟.
إن مستنقع الحقد لا ينبت فيه إلا الخبيث، وإن الإلحاد فحمة الحقد على نور السماء.
تعيش البشرية هذه الأيام الشداد، وعلى الذين يستطيعون أن يقدموا لها شيئًا في إنقاذها أن يسرعوا في أداء واجبهم قبل أن تحق من الله كلمة العذاب.
إن الدول الكبرى قدَّمت ما عندها للآخرين؛ القوة المادية الجبارة التي لا ترحم وقالت هذه الدول كلمتها "البقاء والحق للأقوى" فقضت بذلك على آمال الإنسانية التاريخية بالعدالة والإخاء لقد قالت هذه الدول كلمتها الأخيرة، وما في كلمتها إلا الاستعباد والظلم والاضطهاد وخنق الروح والضمير. وإن الواجب يفرض على أولئك الذين عرفوا في تاريخهم وشريعتهم قانونًا غير مظلم والاستعباد أن يقولوا كلمتهم.
إن الدول الكبرى قالت كلمتها، وحيل بيننا نحن المسلمين وبين كلمتنا أن نقولها في حاضرنا ومستقبلنا وفي حاضر الإنسانية ومستقبلها. وأني لأقول - وما قولي بادعاء - ما على ظهر الأرض أمة غيرنا عندها للحق بيان ومنهج، فإن كتابنا يحتفظ بكلمة السماء في صفائها الأزلي الأوَّلي، وإن تاريخنا يشهد بواقع تطبيقي حسن لهذه الكلمة.
إن العالم يتطلع في هذا العصر المضني إلى أمة تتحمل الواجب المقدس في الدفاع عن الإنسان وإخراجه من الظلام إلى النور؛ أمة تستطيع بما فيها من ذخر روحي، وما عندها من قيم إلهية أن تكون أرقى بني الإنسان فكرا وشعورا وأنبله غاية وهدفا، وأقدره على تسلم القيادة في معمع الأخطار. هذه الأمة يجب أن تصير قدوة ولا تصير قدوة إلا إذا عرفت في تاريخها مثلا يقتدى، فريدا كاملا من البشر؛ كاملا في إنسانيته، في حبه الخير وبغضه الشر، لا عوج في طريقته ولا انحراف في شخصيته، تجده كتلة من المعاني الخالدة المتجسدة كلمات وعمل وتنظيم. إذا اتبعته أمته، وتبنت أهدافه ورفعت شعاره، وانطلقت في دروب سيرته صارت حياتها أشبه شيء بحياته.
هذه الأمة التي تستطيع ذلك بإذن ربها هم المسلمون، وذلك المثال الرفيع هو محمد ﷺ.
إنه لم يبق لنا في هذه الأيام الشداد إلا أن نعود على نبع الفطرة الصافي نستقي منه؛ إنه لابد من العودة إلى الأنبياء.
ولقد جاء كبار الرسل أممهم على حال لا تختلف بما فيها من قلق وظلم وفساد والإلحاد وانحدار في القيم
1 / 9
الإنسانية عن عصرنا. فلنقف إذن لحظات مع:
١- مع عصر النبوة.
ولننظر ٢- في اصطفاء الذات النبوية.
ولنتأمل ٣- في إعداد الله للرسول:
أ- إعدادًا نفسيًا.
ب- التمهيد لظهوره تاريخيًا.
ج- والتهيئة له اجتماعيا.
فإذا أحطنا بذلك بدت لنا ٤- ضرورة القدوة.
عصر البعثة النبوية عصر البعثة النبوية ... عصر البعثة النبوية: لا مراء في أن عصر البعثة النبوية عصر ممتاز بين الأعصر الزمنية له في علم الله ميعاد معلوم كسر من أسرار الغيب، حتى يأذن الله بإنزال رسالته على عبده المختار. (ولوددت لو يتسع للقول مجال للحديث عن خصائص عصر النبوة، لكن المحاضرة تضيق عن هذا القصد. حتى الحديث الفائض عن عصر البعثة المحمدية يزيد على حظنا من الوقت. ومن ثم أجتزئ بالكلام عن العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله علية وسلم، لعلنا نظفر بفائدة وحكمه) . فليس من شك إذن أن الله يختار للنبي عصره، ويؤقت له: ميلاده، ومبعثه، ووفاته. ولقد قال تعالى لموسى ﵇ بعد أن ذكره بأطوار ماضيه وكلاءته له فيه ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾ ١ وكذلك فإن ميلاد محمد ﷺ على قدر وموعد إلهي مع الزمان، وكان عام الفيل الذي ولد فيه عاما حافلا في تاريخ الإنسانية، عاما مليئا بالأحداث الضخام. أقبل فيه أبرهة الأشرم يريد هدم الكعبة بعد أن نجح الأحباش في احتلال اليمن. وكان أبرهة قائدًا جلدا طموحا بعيد الأهداف، قد أزمع أن يجعل من اليمن قاعدة ملك له تنطلق منها عساكره للسيطرة على جزيرة العرب سيطرة سياسية وعسكرية واقتصادية، وأن يشد إليه قبائل العرب المتنافرة المتدابرة بخيوط وأوتار يحركها ويضرب عليها كيفما شاء. وأعمل أبرهة الفكر وكان ذا نظرة استعمارية داهية، لا يعوزها شيء من حنكة المتخصصين باستعمار الشعوب في العصر الحديث، فصمم خطته لتحويل العرب تحويلا دينيا يجعل الطريق أمامه معبدا ذللا لتحقيق أغراضه الاستعمارية. وهو أمر لا يختلف في عن الغزو الفكري وأهدافه الذي يستهدف العرب والمسلمين اليوم. وكان أبرهة نصرانيا فأراد حمل العرب على اعتناق النصرانية بالمكر والسيف، فكان صاحب أول حمله صليبيه في التاريخ على بلاد العرب. وهذا ما أدركه العرب واضحا _________ ١ سورة طه، الآية: ٤٠
عصر البعثة النبوية عصر البعثة النبوية ... عصر البعثة النبوية: لا مراء في أن عصر البعثة النبوية عصر ممتاز بين الأعصر الزمنية له في علم الله ميعاد معلوم كسر من أسرار الغيب، حتى يأذن الله بإنزال رسالته على عبده المختار. (ولوددت لو يتسع للقول مجال للحديث عن خصائص عصر النبوة، لكن المحاضرة تضيق عن هذا القصد. حتى الحديث الفائض عن عصر البعثة المحمدية يزيد على حظنا من الوقت. ومن ثم أجتزئ بالكلام عن العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله علية وسلم، لعلنا نظفر بفائدة وحكمه) . فليس من شك إذن أن الله يختار للنبي عصره، ويؤقت له: ميلاده، ومبعثه، ووفاته. ولقد قال تعالى لموسى ﵇ بعد أن ذكره بأطوار ماضيه وكلاءته له فيه ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾ ١ وكذلك فإن ميلاد محمد ﷺ على قدر وموعد إلهي مع الزمان، وكان عام الفيل الذي ولد فيه عاما حافلا في تاريخ الإنسانية، عاما مليئا بالأحداث الضخام. أقبل فيه أبرهة الأشرم يريد هدم الكعبة بعد أن نجح الأحباش في احتلال اليمن. وكان أبرهة قائدًا جلدا طموحا بعيد الأهداف، قد أزمع أن يجعل من اليمن قاعدة ملك له تنطلق منها عساكره للسيطرة على جزيرة العرب سيطرة سياسية وعسكرية واقتصادية، وأن يشد إليه قبائل العرب المتنافرة المتدابرة بخيوط وأوتار يحركها ويضرب عليها كيفما شاء. وأعمل أبرهة الفكر وكان ذا نظرة استعمارية داهية، لا يعوزها شيء من حنكة المتخصصين باستعمار الشعوب في العصر الحديث، فصمم خطته لتحويل العرب تحويلا دينيا يجعل الطريق أمامه معبدا ذللا لتحقيق أغراضه الاستعمارية. وهو أمر لا يختلف في عن الغزو الفكري وأهدافه الذي يستهدف العرب والمسلمين اليوم. وكان أبرهة نصرانيا فأراد حمل العرب على اعتناق النصرانية بالمكر والسيف، فكان صاحب أول حمله صليبيه في التاريخ على بلاد العرب. وهذا ما أدركه العرب واضحا _________ ١ سورة طه، الآية: ٤٠
1 / 10
من غرض تحركاته العسكرية، وأفصح عنه عبد المطلب وهو أخذ بحلقة باب الكعبة يستغيث الله:
لاهم أن العبد يمنع ... رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك٢
وكانت الكعبة منذ أغوار الزمن مثابة العرب وأمنهم ومهوى أفئدتهم يلتفون حولها بمشاعرهم وشعائرهم في جو من الرضا العضوي والتقديس لمقام إبراهيم من منزلة في قلوبهم، وارتقت مطامع أبرهة إلى القضاء على أسباب وحدة العرب الروحية المجتمعة في الكعبة واستبد به التفكير في تهديمها فجاءت خطته تعد في الحقيقة تغيير جذري في مرافق العرب ومستقبلهم (خطة لا تختلف في كثير عن خطة اليهود في تحريق المسجد الأقصى وزعزعة قواعده لقطع صله المسلمين بمسجد يشدون إليه الرحال) . وقدَّم أبرهة لهذه الخطة النكراء ببناء القليس - كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض -٣ وأوضح الغرض منها في تقرير أرسله إلى سيده ملك الحبشة يقول فيه: "لست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب"٤ ولما عرضها للعرب لم تهو إليها أفئدتهم وأنكروا مضاهاتها لمقام إبراهيم ﵇، وأحدث بناؤها رد فعل عنيف في نفوسهم تجلى في إعراضهم عنها ونهوض بعضهم للتعبير عن سخطهم ونقمتهم وهوانها عليهم بأساليب خاصة فردية فأيقن أبرهة بإفلاس القليس ما دام للعرب حول الكعبة مقام فبيَّت غزو مكة وتهديم كعبتها المشرفة، وعبأ جيشه وأعلن بالزحف.
ولم يكن طريقه إلى مكة لا أشواك فيه، إذ من العسير على العرب أن يتسامعوا بغزو بيت الله الحرام فلا يستثارون ولا يثورون. فهب فريق ممن أوتوا حمية وغيرة يعترضون جيش أبرهة اللجب. وكانت أولى المقاومة من قوة يمانية على رأسها الملك ذو نفر٥ صمد لأبرهة بقبيلته وجماعات من العرب، ولم يكن ثمة تكافؤ بين الفريقين، فأحاط به أبرهة وأسره وكبَّله وسيره في الجيش تشهيرًا وتخويفًا وردعًا للآخرين. على أن مصير ذي نفر لم يمنع قوة عربية أخرى للمقاومة من قبيلة خثعم بقيادة سيدها نفيل بن حبيب٦ فلم يلبث إلا يسيرا حتى أسر وأدني للقتل ولكنه أعلن ولاءه وولاء قبيلته الكبيرة لأبرهة وتطوع أن يكون دليله
_________
٢ ابن هشام: السيرة م١ ص٥١.
٣ ابن هشام: السيرة م١ ص ٤٣.
٤ المصدر نفسه: م١ ص ٤٣.
٥ المصدر نفسه: م١ص٤٦
٦ المصدر نفسه: م١ ص٤٦
1 / 11
في طريق مخوف، فرضي أبرهة من ذلك ليأمن ظهر الجيش وليستفيد من حصر القوى العربية معه. وكان من خطته أن يتحاشى سفك الدماء ما استطاع حتى يأمن الثارات والحزازات ويضمن للمستقبل صفاء القلوب، ولما حاصر ثقيفًا في الطائف خرجوا إليه وأعلنوا الطاعة والعبودية لأبرهة ورضوا بأن يهدم بيت الله على أن يسلم لهم بيت اللات١ وقد كشف إخفاق المقاومة العربية عن نواح خطيرة في واقع العرب:
١- عظم مكانة الكعبة في نفوسهم واستعداد العرب للقتال في سبيل بقائها. ولكن هذه النية الحسنة لم تظفر بالقدرة المنفذة.
٢- عجز قوى المقاومة عن اجتماع بعضها البعض وتنسيق خططها.
٣- انشغال غالبية العرب في الجزيرة وخارجها بخصومتهم المحلية، وعداوتهم القبلية وأحقادهم التاريخية عن الاحتشاد لقضية كبرى في حياتهم ومستقبل وجودهم، وجعلها فوق العداء القبلي والخصومات السياسية. وقد عانت جزيرة العرب قبل الإسلام عبر أمد مديد حروبًا وغزوات فيما بين القبائل، فاستنزفت قواها في غير طائل، وغرقت في الحروب حتى كادت تتفانى، ولهذا، ولم تستطع أن تتناسى الخصام العنيد والعداء المميت وأن تنسلخ من أضعاف وأحقاد تتوارثها جيلًا بعد جيل. فبات تلاقيها أمرًا مستحيلًا استحالة التقاء الماء والنار. ولعل هذه الحال تكشف عن معنى العظيم في معجزة الله في قوله لنبيه ﷺ: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ٢ هكذا كانوا يوم أصحاب الفيل في استعصاء على الالتقاء في سبيل أية قضية حتى ألفت بينهم كلمة التوحيد ورسالته الله.
٤- ضعف القوة المعنوية وانخفاض المستوى النفسي لدى المقاومين منهم؛ إذ سرعان ما ألقوا بأيديهم إلى الاستسلام وحرصوا وكانوا أشد حرصًا على الحياة، ورضوا بأن يكونوا عبيدًا وأعوانًا وعملاء في صفوف الأعداء يكشفون لهم الطريق ويتحسسون لهم أحوال القبائل الأخرى مما يدل على أن الحياة لديهم كانت بشكلها الرفيع أو الوضيع، الذليل أو العزيز أحب إليهم وأغلى عندهم من أية قضية لهم، بل لا أجحد التاريخ إذا قلت أن العرب قبل محمد صلى الله علية وسلم لم يكن لهم قضية يضحون في سبيلها إلا قضايا خفيفة جزئية تأكل منهم ولا تعطيهم، قضايا العداء والثأر المحلي.
_________
١ المصدر نفسه: م١ ص٤٧
٢ الأنفال: الآية ٦٣.
1 / 12
ويظهر جلاء الأمر إذا قابلنا بين موقفهم من أبرهة وموقف العرب المسلمين من أعدائهم الكفرة؛ قيل لزيد ابن الدثنة وهو يقدَّم للقتل: "أتحب أن محمدًا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة. . تؤذيه، وأني جالس في أهلي"١.
وكان قياصرة الروم أحيانًا يروزون حرص المسلمين على دينهم فيغرونهم الإغراء المذهل ليفتنوهم، فما ينفصمون من دينهم شعرة فيلبس القياصرة من ثباتهم ويقينهم، ذلك أن صار للعرب قضية يعيشون لها، ولا يجدون شيئًا باهظًا أن يستشهدوا في سبيلها. ولا يفلح عرب ولا مسلمون لا قضية لهم، وخير القضايا طرًا قضية السماء.
الانقسام والسطحية في العقيدة: ولعل أفدح العوامل في مأساة العرب عام الفيل - وفي كل مأساة من مآسي تاريخهم كله - خمود نيران الحمية الدينية في القلوب، وفقدان الأشداء من المؤمنين: أعمدة الثبات والتثبيت في الملمات والحروب. فبينما كان أعداءهم الأحباش يتقدمون إلى بيت الله الحرام بحمية صليبيه طاغية، كانت أفئدة العرب خلوًا من شعور ديني مقدس دفاق قادر على دحر الموجة الصليبية. ولو فتشنا قلوبهم يوم ذاك لما وجدنا فيها حقيقة من حقائق الدين، ولا معنى واضحا من معانية يعتصبون به وينطلقون منه. كل ما فيها يوم ذاك ظلال من دين إبراهيم غمرها من الوثنية غبار كثيف. . أفسدت عليهم الأصنام دين التوحيد وباعدت بين معتقداتهم وقلوبهم وألقت البغضاء بينهم إذ ذهبت كل قبيلة بصنم، تعبده دون القبائل الأخرى، فكان هذا الانقسام في الدين عاملا خطيرا في تفتيت وحدتهم كأمة لها دور في التاريخ. حتى صارت بعض القبائل لا تجد ضيرا في تهديم الكعبة إذا سلم لها إلهها كما رضيت ثقيف بذلك على أن تبقى لها اللات وجرى العرب في عبادة الأوثان على تقليد ذميم وليس لها في طباعهم وتفكيرهم أصالة واستقرار. ولم يكن في مقدور الأوثان أن تلهب القلوب بحمية ما. فاجتمع لهم إلى الانقسام السطحية في الدين، وهو داء عياء خذال قتال في المواقف الكبرى التي يتقرر فيها المصير، وكان العرب يوم ذاك بما هم عليه من هذا على شفا الضياع والهلاك؛ لئن لم يخلعوا الأصنام التي قسمتهم والوثنية التي أماتت شعورهم وحميتهم ذهبوا وضاعوا وهلكوا. ولهذا لما أراد الله بهم خيرا بدلهم
_________
١ السيرة لأبن هشام: م٢ ص١٧٢ والقائل هو أبو سفيان بن حرب.
1 / 13
بعقائدهم المشتتة الباهتة المميتة عقيدة التوحيد المجمعة المتألقة بالنور الدفاقة بالحياة. قال تعالى يذكرنا بهذه النعمة الكبرى والمنة العظمى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ ١، ولا غرو أن المعجزة الرائعة التي حققها المسلمون في مجال الفتوح والدعوة ما كانت لتنجز على أيديهم لولا العقيدة الجديدة؛ عقيدة التوحيد التي وحدت القلوب والصفوف والخطط والعمل.
لما كر أبرهة الأشرم في الطائف إلى مكة يتقدمه أبو رغال الثقفي دليلا علم أن قد صفى المقاومة العربية بأدنى وأبخس ثمن. والحق أن أبرهة لم يعوق مسيره من اليمن إلى مكة حرب ضروس، وإنما مناوشات يتبعها استسلام وخضوع وتبعية.
ورضي أبرهة عن هذه النتائج أيما رضا إذا وفرت عليه الوقت والجهد والدماء، ولم يخامره شك في أنه أوفى على بلوغ مأربه عندما أنزله أبو رغال بالقرب من مكة. وقد طمع أن يظفر من قريش بمثل ما ظفر من ثقيف وغيرها، بتسليم كلي ليبلغ ما أراد من تهديم الكعبة برضا من أهل الحرم على مشهد من العرب وعلى أسمع العالم وبصره ليدعي هوان أمره على أهله، إمعانا في الامتهان لسكانه والمهانة لحجاجه وقاصديه. وانطلاقا من هذا القصد أرسل دورية تأديبية هجمت على أموال لقريش فساقته إلى المعسكر، ثم بعث رسولًا إلى قريش يطلب إليهم أن يرسلوا إليه بسيدهم لمباحثته. فوجهت إليه بسيدها عبد المطلب بن عبد مناف بن هاشم، شيخ وقور مهيب جاوز المئة من عمره، جرب الأيام وجربته فطن يضع القول مواضعه مخلص للبيت ولرب البيت، فسلك أبرهة مسلكًا لإرهابه وإدخال الوهن على نفسه ليسهل فرض رغباته وطلباته عليه، فأعوز إلى رجاله أن يطوفوا بعبد المطلب على الأسرى من أسياد العرب وملوكهم، فأدخل على ذي نفر وكان في حديد، ورأى نفيلًا الحنفي وآخرين مقهورين على أمرهم يقومون بخدمة أبرهة ورجاله، فحزت المرارة في نفسه إذ رأى رجالات العرب قد هزموا نفسيًا وعسكريًا. وعرف عبد المطلب أنه مقبل على معركتين مع أبرهة؛ نفسية وعسكرية. وأيقن أن الثانية لا نفع في خوضها فرغب عنها غير مستسلم وأما الأولى فصمم على الثبات فيها. ولما أذن له بالدخول على أبرهة دخل ميدان الحرب النفسية ونظر أبرهة في وجه عبد المطلب بحثًا عن معاني الخوف والفرق والتخاذل فلم يجد شيئًا ووجد مهابة وصرامة وحفاظًا.
_________
١ آل عمران: ١٠٣.
1 / 14
وفرضت شخصية الشيخ المهيب الثابت الوقور نفسها على الغازي فانحط عن عرشه وجلس على البساط وأجلس سفير قريش وسيدها إلى جانبه، لعل اللين والتواضع أجدى إذ لم ينفع التخويف والترهيب.
كانت هذه مظاهر من الحفاوة والإكرام اصطنعها الداهية ليستميل إليه عبد المطلب وليبعث فيه ثقة واطمئنانًا إذ بدا لأبرهة أن مقدرات مكة وكعبتها أمست بين أنامله وأن قريشًا في قبضته؛ رجالها ونساءها وأموالها، وإن جيشه قادر على الفتك وإنزال العار. وكان أبرهة يريد الكعبة لا قريشًا وأستقدم عبد المطلب ليهب أبرهة له قريشًا وليأخذ منه الكعبة فيظفر بما أراد وقد من على قريش وسيدها وأفضل. وأما عبد المطلب فقد جاء أبرهة وهو يحمل معه أمانتين؛ أمانة الله فهو حاجب الكعبة وساقي الحجيج، وأمانة قومه فهو نائب قريش وصاحب كلمتها في هذا الموقف الصعب. ولقد توقع أبرهة أن يتهالك عبد المطلب على كرسيه يطلب رحمته كما فعل من قبله، وأدرك عبد المطلب ما في نفس أبرهة فصمت، ولم يفتح الحديث تجاهلا منه للأمر العظيم الذي يريده أبرهة، وتحاشيا أن يطلب مطلبا يتخذ منه أبرهة ركيزة للمساومة على الكعبة. لقد كان عبد المطلب في موقف ضنك فإن أية كلمة تحمل معنى الاسترحام لقريش والإبقاء عليها تنطوي على تنازل خطير في حق بيت الله الحرام. ومن ثم آثر ألا يتكلم في منجاة قومه حتى ألا يضيَّع أمانة الله ولما ضاق أبرهة بصمته سأله عن حاجته فقال: "حاجتي أن يرد علي الملك مئتي بعير أصابها لي" أهذا المَطْلَب كان همَّ عبد المطلب ومصدر قلقه؟ ألهذا طيف به في الجيش وعلى الأسارى واستقدم إلى الملك؟ وماذا يفعل بالشاء والبعير ومكة كلها في خطر داهم، كلا لم يكن هذا المطلب من واقع الحساب في شيء، ولكن عبد المطلب عمد إلى تجاهل مراد أبرهة تجاهلا تاما ليعلمه أن لا تنازل عنده في حق بيت الله الحرام ولو قيد شعرة، وأن التسليم بتهديمه ليس موضوع بحث على الإطلاق ولا مساومة فيه. وفهم أبرهة ما في طلب القرشي من معنى فاستشاط غضبًا وعمد إلى إثارة الموضوع من قبله قائلا - وهو مغيظ -: "قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك، ودين آبائك قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه١ وأجاب عبد المطلب بقول مرهف حاسم لا مجال بعده لجدال أو ادهان: "إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا
_________
١ السيرة لابن هشام م١ ص٥٠٠.
1 / 15
سيمنعه"١. وخرج من عند أبرهة إلى قومه خرج من المعركة النفسية منتصرًا، ولم يظفر منه بطائل، ولقد كان في الكلمات الموجزة الحادة كل ما أراد عبد المطلب أن يفصح عنه وأن يفهم الغازي. قال له: "أنا رب الإبل؛ الإبل مال اكتسبتُه واكتسبتْه قريش فلي ولهم الحق أن يطلبوه. وإذا كان لي ولهم الحق في طلب أو مباحثة أو جدل فيما هو ملك لنا ومن حقنا. وأما البيت فهو بيت الله وليس لي ولا لأحد فيه من الحق كما في الإبل، ولا يحل لي بحال من الأحوال أن أتكلم فيه، أو أساوم عليه، أو أتذلل لك في أمره فإن ربه أولى به وبحمايته". إن عبد المطلب قد أوضح في هذا القول البليغ الحدود التي تقف عندها صلاحيات الزعامة، والموقف العدل الحق الذي إن التزمه الزعيم كان من الموفقين. فبيَّن فيه أن ثمة حقوقا كبرى في حياة الأمة وذمما تاريخية وإلهية لا يحق لأي ذي سلطان أو نفوذ أن يمسها وأن يجعل في مهب أهوائه ومصالحه إن شاء أخفرها أو ساوم عليها. وإن التاريخ يشهد بأن النصر يقف دائما حيث يقف أولئك الزعماء الذين يلتزمون الحق الأعلى لا يجاوزنه ولا يقبلون به عدلا أو حلا وسطا. وقد رضي الله لعبد المطلب صلابته في حرمة بيت الله وثباته فأرسل على الغزاة العتاة جندًا من السماء: ﴿طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ ٢ وما كان هذا التوفيق الإلهي في تلك الساعة لعبد المطلب نفسه وإنما لجنين في رحم آمنة بنت وهب قد بلغ منه سبعة أشهر وكان أبوه في تلك الأثناء في يثرب يلفظ أنفاسه الأخيرة وأمه تجلس في بيتها تنتظر عودة زوجها الغائب وتترقب مع الناس قلقة أوبة حميها في معسكر أبرهة: هذا الجنين الذي أذن الله له أن يتنسم أنسام مكة بعد خمسين يوما من غزوة أصحاب الفيل هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، به قد وفق الله جده وأكرمه وأكرم العرب والعالمين.
كانت هزيمة أصحاب الفيل وما زالت آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته جعلها بين يدي مبعث رسول الله ﷺ، وكانت المنة بها على أهل مكة عظيمة، ولكن القوم كانوا في جاهلية ظلماء فما أن ذهب عنهم الروع وفزع عنهم حتى عادوا يسدرون في غيهم ومظالمهم ومفاسدهم. ولم تكن الإشارة التي حملتها المعجزة لتنزعهم من الغي والضلال، فأتم
١المصدر نفسه. وكان التحدي أعظم إذ قال له أبرهة: "ما كان ليمتنع مني". فقال له عبد المطلب: "أنت وذاك".
_________
٢سورة الفيل.
1 / 16
الله عليهم وعلى العالمين فضله بمعجزة أعلى وأسمى فأرسل إليهم محمدًا ﷺ ليبوئهم مكانا عزيزا كريما؛ في عام الإنقاذ هذا ولد المنقذ الأكبر محمد رسول الله ﷺ فجاء العرب وهم أعجز الناس عن حماية حوزتهم وحرمهم ورد الغزاة فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى صنع الله منهم فاتحي العالم ومنائر الحق والحكمة.
هكذا كان ماضي أجدادنا عام الفيل ما أردنا من تفصيل الحديث فيه إلا الذكرى والاعتبار. وأيم الله ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ ١.
_________
١ سورة ق: ٣٧.
اصطفاء الذات النبوية اصطفاء الذات النبوية ... ٢- اصطفاء الذات النبوية. الاصطفاء انتخاب الله صفوة البشر ليكونوا المثال الواقعي الحي للمثل الإلهية والقيم الربانية التي ارتضاها للبشرية شرعة ومنهاجا، تخوض بها تجربة الحياة والابتلاء بغية النجاة والظفر بمرضاة الله تعالى. إن تجسيد القيم في أفعال وخطط يعطيها معناها الإمكاني الحق إذ يتعرف الناس على هذه المثل في واقع حياتي حي، فلتلتحم الفكرة العلوية بصورتها الأرضية، وتجري الأفكار والتعاليم الإلهية ملموسة دفاقة في الأرض جريان السيل لا ظن ولا توهم ولا مراء. ومن ثم ينتخب لها أولئك الذين تبدو العقيدة فيهم رائعة الجلاء والنقاء كما ينم البلور ذو الصفاء عما حوى، حتى إنك لا تميز بين الوعاء وما وعى. هؤلاء الصفوة يتولى الله سبحانه اختيارهم وهو العليم الخبير، ويجعل فيهم بقدرته ومشيئته الاستعداد للنبوة ليكونوا حقائق العقيدة المتحركة على الأرض. هذه النخبة يمكن أن يقال فيها: "أنها ليست وليدة بيئتها ولا من صنع مجتمعها، أنها جنس منفصل وجد كالغريب في بقعه نائية. وأنها لتحس بغربتها قبل أن يأتيها خبر السماء وتتجافى عن ضلال الناس كأن عالمها غير عالمهم وكأن قوة علوية تجتذبها إليها -تلمس آثارها وتشعر بتأثيرها فيما يجري لها ولكن تبقى محجوبة عن السر حتى يكشف الحجاب ويأتيها الوحي - فيتصل حبلها المقطوع بالعالم الذي كانت تستشعر وجوده ولا تدري كنهه، وتجد نفسها بعد ضلال ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى﴾ ٢ وتعرف حقيقتها ومهمتها فيزول عنها الإحساس بالغربة، وتستشعر نفسها وكيانها بقوة وتمكن، وتأخذ في التلقي من الله تلقيا تلقائيا آنيا فلا تتردد ولا تتحرج ولا تجادل ولا تماري، وإنما تستجيب للأمر وتتمثل للأمر للكلمة الإلهية آنيا كما ينبثق النور آنيا لا يدري أول شعاعه من أخره لسرعته تلك الاستجابة التي تلمس حقيقتها في إبراهيم. . ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ _________ ٢ الضحى: ٦- ٧.
اصطفاء الذات النبوية اصطفاء الذات النبوية ... ٢- اصطفاء الذات النبوية. الاصطفاء انتخاب الله صفوة البشر ليكونوا المثال الواقعي الحي للمثل الإلهية والقيم الربانية التي ارتضاها للبشرية شرعة ومنهاجا، تخوض بها تجربة الحياة والابتلاء بغية النجاة والظفر بمرضاة الله تعالى. إن تجسيد القيم في أفعال وخطط يعطيها معناها الإمكاني الحق إذ يتعرف الناس على هذه المثل في واقع حياتي حي، فلتلتحم الفكرة العلوية بصورتها الأرضية، وتجري الأفكار والتعاليم الإلهية ملموسة دفاقة في الأرض جريان السيل لا ظن ولا توهم ولا مراء. ومن ثم ينتخب لها أولئك الذين تبدو العقيدة فيهم رائعة الجلاء والنقاء كما ينم البلور ذو الصفاء عما حوى، حتى إنك لا تميز بين الوعاء وما وعى. هؤلاء الصفوة يتولى الله سبحانه اختيارهم وهو العليم الخبير، ويجعل فيهم بقدرته ومشيئته الاستعداد للنبوة ليكونوا حقائق العقيدة المتحركة على الأرض. هذه النخبة يمكن أن يقال فيها: "أنها ليست وليدة بيئتها ولا من صنع مجتمعها، أنها جنس منفصل وجد كالغريب في بقعه نائية. وأنها لتحس بغربتها قبل أن يأتيها خبر السماء وتتجافى عن ضلال الناس كأن عالمها غير عالمهم وكأن قوة علوية تجتذبها إليها -تلمس آثارها وتشعر بتأثيرها فيما يجري لها ولكن تبقى محجوبة عن السر حتى يكشف الحجاب ويأتيها الوحي - فيتصل حبلها المقطوع بالعالم الذي كانت تستشعر وجوده ولا تدري كنهه، وتجد نفسها بعد ضلال ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى﴾ ٢ وتعرف حقيقتها ومهمتها فيزول عنها الإحساس بالغربة، وتستشعر نفسها وكيانها بقوة وتمكن، وتأخذ في التلقي من الله تلقيا تلقائيا آنيا فلا تتردد ولا تتحرج ولا تجادل ولا تماري، وإنما تستجيب للأمر وتتمثل للأمر للكلمة الإلهية آنيا كما ينبثق النور آنيا لا يدري أول شعاعه من أخره لسرعته تلك الاستجابة التي تلمس حقيقتها في إبراهيم. . ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ _________ ٢ الضحى: ٦- ٧.
1 / 17
قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ١ ولم لا يسلم للحظته وقد بحث طويلا عن ربه في ملكوت السموات والأرض فلما اجتباه ربه وكشف حيرته وهدى ضلاله لم يبق إلا الامتثال والتلبية. عندها يعلم المصطفى المختار أسباب عزوفه عن قومه ونفوره من تقاليدهم وعباداتهم، ويوقن أن عناية الله كانت تلاحظه قبل الوحي الصريح والخبر الوثيق فيلجأ إلى ربه ليستمد منه وليستضيء بنوره ويغرف من معين هديه. وتتمايز نفسه تمايزا كليا عما حولها وتصبح قوة فعاله تأتي بالمعجزات ولا تبالي بالمعوقات. فلا تهاب أن تدخل معبد الوثنين الفأس بيدها تهزأ بالأصنام وتجعلها جذاذ ثم تقف وحدها تتحدى صخب الجمهور الضال، وطغيان الحاكم الجبار والتحريق بالنار، وتقابل التحدي صخب العجاج بتحد صليب مرهف نافذ. ولا عجب أن تقف وحدها على الصفا لتقول كلمتها المأمورة بها وتبلغ رسالته المنوطة بها، وليس عجيبا أن تقول: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته "٢ لأنها أيقنت أن معنى وجودها هو أداء رسالة الله، فإن لم تؤديها فلا معنى لبقائها. ولهذا تبلغ في الاستبسال مدى لا تحتمله النفوس الأخرى، وفي الصبر شأوا يعجز عنه أولو العزم في غير الأنبياء، وتصبح شجاعتها وصبرها موضع الدهشة من الخصوم. وهذا التحدي المنتصر؛ تحدى فرد وحده لأمة أو مم لا يصدر عن أفراد عاديين، إذ لا يملك فرد مستضعف أعزل أن يغير نظام العقيدة، والمجتمع والتاريخ لأُمة إلا إذا أيدته قوة قاهرة على القوى فاستمد من ذخرها للصمود والهجوم والانتصار إن هؤلاء الأفراد الذين اختارهم الله وخلق فيهم هذه القدرات والإمكانيات هم وحدهم أمم، فإن كلا منهم مبدأ أمة جديدة وتاريخ محدث، جمع الله له في نفسه القوى اللازمة للمستقبل الجديد، فسرت منه إلى قلوب الأجيال قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ٣.
وفي القران الكريم إشارات واضحة إلى تلك الصفوة المختارة في ملايين البشر المبعوثين في الأرض قال تعالى مخبرا عن طريقته في الإرسال: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ ٤ وهو يعلم أولئك الذين يطيقون النهوض بتبعاتها إذ: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ ٥ ومن ثم كان اصطفاؤه لأفراد مخصوصين متميزين
_________
١ البقرة: ١٢١.
٢ السيرة لابن هشام: م١ ص٢٦٦.
٣ النحل: ١٢٠.
٤ الحج: ٧٥.
٥ الأنعام: ١٢٤.
1 / 18
ذهبوا بخلود الذكر في الدنيا والآخرة: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ١.
وهؤلاء الأصفياء - على تباعد الزمان فيما بينهم - بعضهم من بعض، فإن بينهم نسبا هو دين الإسلام الذي ارتضاه الله للبشر منذ أبيهم آدم، ولما بعث خاتم الأنبياء وسيد المرسلين كان اختياره من صفوة الصفوة؛ إن محمدا ﷺ خير نسمة برأها الله بين سابق البشر ولاحقهم. إن أكمل الرسالات وخاتمتها تستلزم رسولا هو أكمل ما خلق الله من بشر وأطهر. وهذا أمر هيأ الله له الأسباب منذ آدم ﵇، قال ﵊: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت في القرن الذي أنا فيه" ٢ وفي هذا الحديث الذي رواه البخاري دلالة كافية على انتخاب إلهي مستمر خلال أجيال البشرية حتى استخرج منهم محمدا ﷺ وكان استخراجه من بيت أوله النبوة قال ﵊ -في حديث رواه مسلم-: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم"٣ وكان علية الصلاة والسلام يقول: "أنا دعوة أبي إبراهيم" ٤ فجاء رسول الله ﷺ ملء نفسه وجسده الطهر، إذ اختاره ربه من أطهر نطفة في الأصلاب. روي عن عائشة رضى الله عنها قوله ﷺ: "ولدت من نكاح غير سفاح" ٥ وثبت في الصحيح قوله: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر" ٦ ولا عجب فهو مصطفى الأصفياء: طاهر مطهر، وسيد الأنبياء.
_________
١ آل عمران: ٢٤.
٢ ابن كثير في البداية والنهاية: ج٢ ص٢٥٦ عن صحيح البخاري.
٣ البداية والنهاية ج٢ ص٢٥٦ لابن كثير: عن صحيح مسلم.
٤ السيرة لابن هشام م١ ص١٦٦ رواه ابن إسحاق عن ثور بن يزيد. وقال فيه ابن كثير في المرجع السابق: هو إسناد جيد.
٥ البداية والنهاية ج٢ ص٢٥٦ رواه الزهري عن عروة عن عائشة. رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى عن ابن عباس: "ولدت من لدن آدم من نكاح غير سفاح".
٦ المصدر نفسه ص٢٥٧.
إعداد الله لعبده للرسالة مدخل ... ٢- إعداد الله لعبدة للرسالة: إذا كان لبعث النبي عند الله ميعاد معلوم فإن أحواله وأوضاعه في مختلف مراحل حياته جارية على
إعداد الله لعبده للرسالة مدخل ... ٢- إعداد الله لعبدة للرسالة: إذا كان لبعث النبي عند الله ميعاد معلوم فإن أحواله وأوضاعه في مختلف مراحل حياته جارية على
1 / 19
تقدير وتدبير من الله العزيز الحكيم؛ يختار له الوسط الذي يكتنفه، والمؤثرات التي تحيط به، ويفاعل بين نفسه وبين ما وضعه فيه، فيخلق فيها ردود الفعل المناسبة للمستقبل القريب. إن الله هو الذي يصنع الأنبياء، وينشئهم النشأة المواتية للرسالة، إنه رب العالمين الذي تقبل مريم: ﴿بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ ١ وهو الذي صنع موسى على عينه، ووضعه في قصر فرعون آية كبرى من آيات التحدي لطغيان سادر، غير مرعو، لينشأ في حجور الجبابرة، ويخرج من عندهم أكبر ناقم، وأشد ساخط على الظلم وتعبيد الشعوب.
ومن ثم لم يكن شئ في حياة محمد ﷺ قبل المبعث إلا بتدبير الله الخالص وتهيئته وقد يبدو أن كلامنا هذا تحصيل حاصل فكل ما في الوجود إنما هو بتقديره ﷿. ولكن قلنا ما قلناه لنوجه الأنظار إلى أهميه الظروف والحوادث التي عاشها نبينا محمد ﷺ لنكتنه مغزاها العميق،ولنطيل الفكرة في هذه التنشئة التي انتهت إلى تفجير الحكمة الخالدة في فوائده تلك الحكمة التي رفعها الله نبراسا هاديا مشعا للبشرية إلى يوم الدين.
إن حياة تتفتح عن الحكمة الكلية الأخيرة للإنسانية لجديرة بالتفكر والتدبر والاعتبار وبأن تتأمل في شكلها ومضمونها والأحداث التي صنعت مادتها.
_________
١ آل عمران: ٣٧.
أ- الإعداد النفسي: كان أول وحي نزل على رسول الله ﷺ في غار حراء شديد الوطأة. لقد عانى حادثة غير عادية ولا مألوفة، خفية العلة، ولا يفسر حدوثها بسب من الأسباب الظاهرة (كما ينشأ الغيث في السحاب، مثلا) فإن مصدرها ليس عالم الشهادة بل عالم الغيب. هنالك لا يسع الإنسان إلا أن يتلقى بالقبول المطلق والتصديق الكلى، لأن أحداثه فوق منطق الأرض المحدود بالسبب والنتيجة. لذلك لا يقدر على احتمال الوحي إلا الأنبياء الذين أعدهم الله للثبات عند رؤية الملاك، وتصديق ما جاءهم من خبر السماء. ولم يصادف الوحي من رسول الله ﷺ نفسا لم تهيأ لاستقباله، بل جاءه بعد إعداد طويل من رب العالمين، عرف فيه حوادث غيبية المنشأ، لم يدر لها علة ظاهرة. فكانت مقدمة صالحة لاستقبال الوحي، رفقا من الله برسوله، ورحمة بنفسه البشرية. وكأن بعض هذه الحوادث كانت تقول له قبل مبعثه: لست وحدك،
أ- الإعداد النفسي: كان أول وحي نزل على رسول الله ﷺ في غار حراء شديد الوطأة. لقد عانى حادثة غير عادية ولا مألوفة، خفية العلة، ولا يفسر حدوثها بسب من الأسباب الظاهرة (كما ينشأ الغيث في السحاب، مثلا) فإن مصدرها ليس عالم الشهادة بل عالم الغيب. هنالك لا يسع الإنسان إلا أن يتلقى بالقبول المطلق والتصديق الكلى، لأن أحداثه فوق منطق الأرض المحدود بالسبب والنتيجة. لذلك لا يقدر على احتمال الوحي إلا الأنبياء الذين أعدهم الله للثبات عند رؤية الملاك، وتصديق ما جاءهم من خبر السماء. ولم يصادف الوحي من رسول الله ﷺ نفسا لم تهيأ لاستقباله، بل جاءه بعد إعداد طويل من رب العالمين، عرف فيه حوادث غيبية المنشأ، لم يدر لها علة ظاهرة. فكانت مقدمة صالحة لاستقبال الوحي، رفقا من الله برسوله، ورحمة بنفسه البشرية. وكأن بعض هذه الحوادث كانت تقول له قبل مبعثه: لست وحدك،
1 / 20
ولا لنفسك وإنما أنت للذي يعدك ويرعاك لتكون امرأ غير الآخرين، وإن في غدك لأمرا فترقبه، فتبعث فيه تساؤلا وتطلعا وترقبا، وربما كان من شأنها أن حببت إليه العزلة والتحنث في حراء. واستقبل أولاها وهو طفل مسترضع في بني سعد يوم جاءه الملكان فشقا صدره واستخرجا قلبه وغسلاه بالثلج والبرد. حادثة فوق إمكان العقل الإنساني ولكنها على الله هينة لذلك لم يكد أبواه في الرضاع يستمعان خبرها من فم الطفل البريء الصادق حتى طارا به إلى أمه في مكة فزعا أن يكون بدأ به عرض مرضي إذ لم يستطيعا أن يصدقا طفلا في أمر لم يألفاه. ومن أدراهما أن من بين أيديهما نبي منتظر؟ ولكن الطفل لم ينس الحادثة، ومرت في شعوره خفيفة الوقع وهو صغير، فلما شب على الأيام تألقت في ذاكرته وإحساسه، ولا شك أنها شغلت تفكيره حتى مبعثه، فلما جاءه الملك ليلة الإسراء، وشق صدره للمرة الثانية وغسل قلبه بماء زمزم استعدادا للسفر به إلى الملأ الأعلى والمثول بين يدي الله تيقن أن حادثة الطفولة كانت إحدى براهين النبوة ليتعرفها في نفسه، وليثبت يوم يزعزع كيانا في غار حراء والملك يفته ويقول ﴿اقْرَأْ﴾ ١ ويوم يقول لخديجة ﵂: "مالي أي شيء عرض لي؟ لقد خشيت على نفسي"٢ في هذه الساعات من الزعزعة الحيرة كان تذكر هذه الحادثة وما أشبهها أنفع شئ في الثبات واليقين، وتستبين حقائق الحاضر بدلائل من الماضي. وقد عرف رسول الله ﷺ مغزاها الكامل إذ سئل خبرنا عن نفسك يا رسول الله٣ فجعلها ﵊ إحدى أربع علامات للنبوة عرفها في نفسه. ومن يدري؟ ربما ظل رسول الله ﷺ طوال حياته يستشعر العذوبة والراحة النفسية التي أحس بها عندما استخرج الملكان من قلبه علقة سوداء وغسلاه بالثلج والبرد: إننا لنسمعه يقول في دعاء له "اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج، والماء، والبرد"٤
_________
١ سورة العلق: ١.
٢ البداية والنهاية لابن كثير: ج٣ ص٧.
٣ ابن هشام: م١ ص١٦٦.
٤ الأذكار للنووي: ص٤٣. ومن هذا القبيل ما كان يومئ بالرسالة المقبلة بصريح اللفظ. قال عليه الصلاة ولسلام: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي بمكة قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن" رواه مسلم وصدق رسول الله فإن تسليم الحجر عليه قبل الوحي كان لتنبيه فكره وإثارة شعوره وتوجيهه إلى استشراف ما هو غيبي المصدر.
1 / 21
وثمة حوادث تقصد مع تنبيه النفس إلى حينانتها وحياطتها من الوسط الجاهلي. وللبيئة أثر في النفس لا يدفع، وقد تولى حفظ نفس نبيه ﷺ من أقذارها وإخطارها، حتى يتم له الطهر ويسلم له النظر السليم، والإحساس اليقظ وليفرق بين القيم الحقيقة التي هي كمال الإنسان وبين القيم التي هي النقص والخسران ولقد شاء الله - ومشيئته حق ونور - أن تتمايز هذه النفس عن محيطها لتبصر مساوئه وتنقده نقدا دقيقا عادلا حرا تنقده وهي تنظر فيه بنور الله نقدا لا يعرف الادهان ولا أنصاف الحلول فإن الحق لا يتجزأ أو لا يجزئ بعضه عن بعض؛ إننا لنجد الله قد حمى نبيه أن ينكشف إزاره عن العورة إذا تعرى الصبيان أو الرجال وهم يحملون الأحجار للعب أو لبناء الكعبة١ وفي هذا صيانة لنفسه النبوية من أن تتأذى بما يبعث في النفس من أحاسيس غير كريمة. وحماه من حضور مجالس اللهو والغناء وكان حييا. وكانت الكعبة تزخر بالأصنام وقريش تذبح لها في الأعياد، فحال الله بين نبيه وبينها فلم يمس حياته صنما ولم يحظر عيدا لها. لقد فارق قومه في باطلهم مفارقة كبيرة عرفتها عشيرته فيه قبل النبوة، ومن أعجبها وقوفه بعرفة مع الناس، على حين كانت قريش مما يقفون في المزدلفة.
ذلك أن الله أنعم عليه بالحس السليم الذي يميز بين الحق والباطل فكان رسول الله ﷺ إذا وجد في قومه فضلا نوَّه به ومِنْ هذا ثناؤه على حلف الفضول الذي تعاقدت قريش فيه على رد الحقوق للمضطهدين وعلى حماية الضعفاء منها ومن غيرها، فقال فيه: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت" ٢ ولعل هذه العدالة في الحكم ظاهرة الدلالة في قوله: "بعثت لأتمم حسن الأخلاق" ٣.
هذه الحوادث وإضرابها من إرهاصات النبوة لم يمنحها المحدثون من كتاب السيرة ما تستحق من عناية وبحث فتجاوزا عن كثير منها، ولم يتلبثوا عندها إلا يسيرا. ولو أمعنوا النظر وتتبعوا أحوال المصطفين والأنبياء لو جدوا فيها سنة من سنن الله في أعداد أنبيائه.
فمن ذلك رؤيا آمنة بنت وهب حين حملت برسول الله ﷺ إنه:
_________
١ تقرأ البداية والنهاية ج٢ ص٢٨٧.
٢ السيرة لابن هشام: م١ ص١٣٤.
٣ رواه مالك في الموطأ في ص ٩٠٤ تحقيق فؤاد عبد الباقي وهو حديث مدني صحيح متصل في وجوه صحاح.
1 / 22
"خرج منها نور أضاء لها قصور الشام"١.
وحدثت آمنة وحيدها وأثيرها محمدا ﷺ برؤياها قريرة متفائلة بمستقبل ولدها. فلما أوحي إليه أدرك أنها إحدى أمارات النبوة فحدث بها٢.
فهل نجد ما يشبه هذه البشارة لدى أمهات الأنبياء والرسل؟ هل كانت تصدر إليهن الإشارات الإلهية بمستقبل الصغير المنتظر؟ نعم، كانت هذه الإشارات إلى بعضهن أبلغ في الدلالة وأجلى في الصراحة، بل كانت إعلاما وإخبار مكشوفا. فأخبر الله أم موسى ﵇ وموسى في أيامه الأولى ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ٣ وأعلم الصديقة مريم بمستقبل عيسى قبل أن تلقى إليها الكلمة. . ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ ٤ ولا شك أن وضع الصديقة الفريد كان أحوج إلى وضوح الإعلام من آمنة ومن أم موسى، إذ كانت تحتاج إلى أن تصدق نفسها في أمرها حتى تقوى على الصمود في وجه تكهنات الناس وتخرصاتهم. ومن ثم حمل عيسى ﵇ معه آيه خلقه ونبوته عندما نادى أمه من تحتها حين وضعته٥ وفي مخاطبته المجتمع المستنكر المتهم وهو في المهد٦.
كذلك بشرت الملائكة نبي الله زكريا بحيي عليه السلام٧، ومن قبل جاءت إبراهيم البشرى بإسحاق ويعقوب٨هذه الدلائل هنا صريحة ولإعلام أم موسى بها، ومريم وزكريا وإبراهيم وزوجه إعلاما مكشوفا، أسباب لا تخفى، ولم يكن سبب منها لآمنة. فكان رؤياها النور الذي أضاء لها القصور من بصرى الشام رمزا للمستقبل. ولو أن الأمر يتطلب ما فوق الرمز لجاءها من الله بيان. ولكنها أعطيت ما يكفيها لتتنبه لشأن وليدها. ولم يعترض حياتها وحياة وليدها من الظروف النادرة أو الخطرة أو المغايرة للمألوف - كظرف إبراهيم
_________
١ السيرة لابن هشام: م١ ص١٦٦.
٢ المصدر نفسه.
٣ القصص: ٧.
٤ آل عمران: ٤٥.
٥ مريم ٢٣: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ .
٦ مريم ٣١: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ .
٧ آل عمران ٣٩: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ .
٨ هود ٧١: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ .
1 / 23
وزكريا - ما يقتضي الوحي. فكان الرمز هو القدر المناسب الكافي ليبعث في نفس آمنة التوقع والتفاؤل.
ب- التمهيد التاريخي للرسول: وتلك التوطئات غرضها إعداد الرسول لقبول الرسالة ليطمئن بها قلبه، وليعلم أنه قد جاءه الحق من ربه. وهي لا تعدو في أثرها نفس الرسول ولا تستهدف غيره ولكن محمدا ﷺ قد سبق أمر الله أن تختم به الرسالات، وأن يقضي على آثار المرسلين أجمعين، وأن يجعل دعوته عامة لكل عاقل على ظهر الأرض. وهو أمر لم يكتمه الله عن البشر. وإنما هيأ له الأذهان، ووجه إليه الأنظار منذ زمن بعيد، إعلاء لشأنه وإظهارا لأهمية رسالته، وليكون الناس معها على وعد غير مكذوب ولتشرئب نفوسهم إلى الكمال المرتقب وليتشرفوا إلى الانتساب إلى الرسالة الخالدة، وليعلموا أن كمال النبوة وتمام الحق فوق ما حضرهم أو عرفوا من أمر الأنبياء والرسل وليحيي الأمل نفوسا كانت تألم وتتأذى من جهل منتشر وباطل مستمر. وإرسال الأنبياء عموما أمر لم يكتمه الله عن خلقه، فأعلنه لهم منذ أبيهم آدم وأخبرهم أنه قارب الإنقاذ والنجاة. قال تعالى لما اقترف آدم الخطيئة وهبط من الجنة: ﴿قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ ١ ثم أصدر الله لرسله إعلاما غيبيا بمبعث نبي يتمم به الله الرسالات فكان هذا إرهاصا وتمهيدا تاريخيا لمحمد ﷺ. قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ ٢ فصار الناس بذلك على موعد مع الزمان بمبعث نبي نوه الله بذكره، وأخذ العهد له عليهم منذ الزمن السحيق. وفي الآية دلالة بينة على علو مكانة النبي الموعود به، والحقبة الزمنية المبعوث فيها. ومن ثم ألح بدعوته منذ أجيال وأجيال. وبهذا يجعل الله ميعاد مبعثه منارة تاريخية، يجمل أن نتخذه حدا فاصلا في التاريخ البشري؛ ما كان منه قبل محمد وما يكون منه بعد محمد ﷺ. وكان احتفاء الله به عظيما؛ لأنه في تقديره ﷿ وتوقيته له، حدث ثقيل في حياة البشر ومستقبلهم. وكيف لا يكون شيئا ثقيلا وحاضرهم في الدنيا، ومستقبلهم الأخير يوم القيامة مرهونان بما حققا من اقتراب منه، وتصديق _________ ١ البقرة: ٢٨. ٢ آل عمران ٨١.
ب- التمهيد التاريخي للرسول: وتلك التوطئات غرضها إعداد الرسول لقبول الرسالة ليطمئن بها قلبه، وليعلم أنه قد جاءه الحق من ربه. وهي لا تعدو في أثرها نفس الرسول ولا تستهدف غيره ولكن محمدا ﷺ قد سبق أمر الله أن تختم به الرسالات، وأن يقضي على آثار المرسلين أجمعين، وأن يجعل دعوته عامة لكل عاقل على ظهر الأرض. وهو أمر لم يكتمه الله عن البشر. وإنما هيأ له الأذهان، ووجه إليه الأنظار منذ زمن بعيد، إعلاء لشأنه وإظهارا لأهمية رسالته، وليكون الناس معها على وعد غير مكذوب ولتشرئب نفوسهم إلى الكمال المرتقب وليتشرفوا إلى الانتساب إلى الرسالة الخالدة، وليعلموا أن كمال النبوة وتمام الحق فوق ما حضرهم أو عرفوا من أمر الأنبياء والرسل وليحيي الأمل نفوسا كانت تألم وتتأذى من جهل منتشر وباطل مستمر. وإرسال الأنبياء عموما أمر لم يكتمه الله عن خلقه، فأعلنه لهم منذ أبيهم آدم وأخبرهم أنه قارب الإنقاذ والنجاة. قال تعالى لما اقترف آدم الخطيئة وهبط من الجنة: ﴿قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ ١ ثم أصدر الله لرسله إعلاما غيبيا بمبعث نبي يتمم به الله الرسالات فكان هذا إرهاصا وتمهيدا تاريخيا لمحمد ﷺ. قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ ٢ فصار الناس بذلك على موعد مع الزمان بمبعث نبي نوه الله بذكره، وأخذ العهد له عليهم منذ الزمن السحيق. وفي الآية دلالة بينة على علو مكانة النبي الموعود به، والحقبة الزمنية المبعوث فيها. ومن ثم ألح بدعوته منذ أجيال وأجيال. وبهذا يجعل الله ميعاد مبعثه منارة تاريخية، يجمل أن نتخذه حدا فاصلا في التاريخ البشري؛ ما كان منه قبل محمد وما يكون منه بعد محمد ﷺ. وكان احتفاء الله به عظيما؛ لأنه في تقديره ﷿ وتوقيته له، حدث ثقيل في حياة البشر ومستقبلهم. وكيف لا يكون شيئا ثقيلا وحاضرهم في الدنيا، ومستقبلهم الأخير يوم القيامة مرهونان بما حققا من اقتراب منه، وتصديق _________ ١ البقرة: ٢٨. ٢ آل عمران ٨١.
1 / 24
به، أو ابتعاد عنه وتكذيب. وبهذا يتجلى المعنى التاريخي الإنساني العظيم في الآية التي تلاها رسول الله ﷺ على الناس، على جبل الرحمة، في حجة الوداع: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ ١ كان يوما مشهودا فاضلا تمت فيه الكلمة الإلهية والنعمة الرحمانية على بني آدم. وكان الله جعل من هذا اليوم قبلة زمانية اتجهت إليها أفئدة الأنبياء والمؤمنين بهم، إقرارا منهم على أنفسهم بأن كلا منهم مرحلة في تاريخ النبوات، وحلقة في سلسلة المرسلين. وشاء الله فأتم السلسلة بمحمد ﷺ فجاءت رسالته لا يجهلها المؤمنون الصادقون من أهل الكتاب، يعرفونها ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾، وهي تحمل الإيمان بالرسل السابقين، والتقدير لجهودهم في تبليغ الكلمة الربانية إلى الناس، والثناء على صدقهم، وتضحياتهم في سبيل إنقاذ الإنسان من براثين الشيطان، وباركت جهادهم، وحيث إخلاصهم: ﴿وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ٢.
ويبدو أن الأنبياء الذين بعثوا في الزمن المبكر، لم يتجاوز علمهم بالنبي ﷺ سوى الإخبار بمبعثه، وأخذ العهد عليهم، أو دعوة حارة تجري على لسان إبراهيم ﵇ فتفتح لها أبواب السماء، وتلتقي بما قدر الله منذ الأزل: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ٣ فلما تأخر الزمان وأنزلت التوراة والإنجيل، توضحت الإشارات وذكرت العلامات، وصار الذين عندهم علم الكتاب على بينة من مجيء رسول ﴿اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ ٤ لا يخطئونه. إن رأوه أدركوا يومه. فقد وضح الله لهم كثيرا من علاماته؛ مكان بعثه، مهاجرة، وصفاته. ثم أتى على التوراة والإنجيل ما أتى من التبديل والتغير. وأفسدت الوثنية الدين الذي جاء به عيسى، ودخل أتباعه من بعده في الشرك إذ قالوا: إن الله ثالث ثلاثة. واختفى دين التوحيد فلم يستمسك به إلا رهبان أو أساقفة قلة، منقطعون في الصوامع، أو الكنائس يتجافون عن الناس في شركهم، وفساد عقيدتهم، ولا يجرؤون على النعي عليهم خوفا من بطشهم وتنكيل الحكام بهم. وأغلب الظن أن هؤلاء النفر القليل احتفظوا بصفاء دين عيسى ﵇، بما خبؤوا في صوامعهم من صحف الإنجيل الذي
_________
١ المائدة: ٣.
٢ الصافات: ١٨١.
٣ البقرة: ١٢٩.
٤ الصف: ٦.
1 / 25
كان أقرب شيء إلى الأصل الذي أنزل على نبي الله عيسى ﵇. قال ابن هشام لما ذكر الراهب بحيرى: "فلما نزل الركب المصري من أرض الشام، وبها راهب يقال له: بحيرى في صومعة له وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب فيها، فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر"١. ويلتقي هذا الحديث بحديث سليمان الفارسي ﵁ الذي تقلب في كنائس عدد من الأساقفة الصالحين قبل أن يصير إلى أرض العرب قبيل مبعث محمد ﷺ إذ قال له أسقف عمورية وهو على فراش الموت، وكان آخر أسقف رافقه: "والله ما أعمله أصبح اليوم أحد على مثل ما كان عليه الناس، آمرك به أن تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبي، وهو مبعوث بدين إبراهيم ﵇، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين فيهما نخل به علامات لا تخفى؛ يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل". فكان هؤلاء ينتظرون الوعد الحق؛ ظهور النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل٢.
وكانت القراءة المجردة عن الهوى في التوراة والإنجيل كافية لأن تحمل أهل الكتاب على إيمان: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ ٣.
لقد نزلت التوراة والإنجيل يحملان الشهادة التاريخية الواضحة الثابتة على سر من أسرار الغيب العظمى لم يكتمه الله، ولم يجمله، عن اليهود والنصارى أعذارا لهم، وليكونوا السابقين إليه. ومن أولى بنصر كلمه الله ممن يعرفها؟ ولكنهم كانوا قوما فرقوا دينهم شيعا وأحزابا وأتت عليهم عصور من الحسد والبغضاء والعصبية فلم يفلحوا في التجرد من ذلك، والإخلاص للحق المنزل، فمنَّ الله بالدين على قوم أميين سلمت فطرهم من رسوبات الخلاف الديني ومن العقد النفسية، والصيغ المنطقية الموات، فلم يلبثوا أن صاروا به خير الأمم- والحمد لله والمنة -.
_________
١ السيرة لابن هشام: ص١٨١.
٢ المصدر نفسه: ص٢١٨.
٣ البقرة: ١٢١.
ج- التهيئة الاجتماعية: هذه توطئات بالنبوة، منها نفسية ذاتية، ومنها تاريخية لتعد النفس النبوة والفكر الإنساني الديني فلا يبدو الوحي غريبا للموحى إليه. ولا إلى الذين عرفوا الكتب المقدسة من
ج- التهيئة الاجتماعية: هذه توطئات بالنبوة، منها نفسية ذاتية، ومنها تاريخية لتعد النفس النبوة والفكر الإنساني الديني فلا يبدو الوحي غريبا للموحى إليه. ولا إلى الذين عرفوا الكتب المقدسة من
1 / 26