الدلائل القرآنية على أن الغيب لا يعلمه إلا الله
ومعتقد أهل السنة والجماعة في مسائل الغيب أنه لا يعلمه إلا الله، والأدلة على ذلك ما يلي: قال تعالى في سورة الأنعام -الآية رقم (٥٠) -: ﴿قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام:٥٠].
وهذه الآية نفس معناها في سورة هود الآية رقم: (٣١).
قال الحافظ ابن كثير: أي: لا أقول لكم: إني أعلم الغيب، وإنما ذاك من علم الله ﷿، ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه ربي.
وهذا يدل على أن الغيب غيبان: غيب استأثر الله ﵎ بعلمه، وغيب أطلع عليه بعض خلقه من رسله، وليس أحد غير الرسل قد أطلعه الله ﵎ على بعض الغيب، وهذا يرد على المتصوفة الذين وصلوا -بزعمهم- إلى درجة التجلي، فهم يقولون: المراتب عندنا ثلاث: مرتبة التخلية، ثم مرتبة التحلية، ثم مرتبة التجلية.
فأما التخلية فهي التخلية من كل إثم وذنب ومعصية.
وأما التحلية عندهم -وهي كذلك عند أهل السنة- فأن يتحلى بمكارم الأخلاق والفضائل والطاعات.
وأما المرحلة الثالثة فهي التي اختلف فيها الصوفية عن بقية الأمة، وهذه المرحلة هي الكفر بعينه، وهي مرحلة التجلية، فقالوا: إذا تخلص العبد من معاصيه وتحلى بطاعة ربه تجلى الإله فيه وتجلى هو في الإله حتى يصير هو الله والله هو! كما قال ذلك ابن عربي.
قال الحافظ ابن كثير: أي: لا أقول لكم إني أعلم الغيب، وإنما ذلك من علم الله ﷿، ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه ربي، فالجنة غيب، والنار غيب، والصراط غيب، والحساب والجزاء والمآل، ولكن هذا الغيب أطلع الله ﷿ نبيه عليه، وأخبره بعلم منه، وأخبرنا النبي ﵊ بهذا، فلابد أن نؤمن بما أخبرنا به من جهة الغيب على سبيل الإجمال والتفصيل، فإذا أخبرنا بغيب وحجب عنا التفصيل وجب علينا أن نؤمن بهذا الغيب على الإجمال، كما أوجب علينا أن نؤمن بأن الله ﵎ يقيم الساعة، ولم يأمرنا بالبحث عنها، ولذلك سئل النبي ﵊ عدة أسئلة من البدو والأعراب وغيرهم عن الساعة فما كان عنده من جواب.
وفي سورة الأنعام في الآية (٥٩) قال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام:٥٩]، فقال: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ [الأنعام:٥٩] ولم يقل: ومفاتح الغيب عنده، فقدم الظرف ليدل على التخصيص، أي: أن الله ﵎ مختص ومستأثر بعلم الغيب، ولم يطلع أحدًا ولا حتى الرسل عليه، فقال: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:٥٩].
وقال الصرصري ﵀: فلا يخفى عليه الذر إما تراءى للنواظر أو توارى فهو الذي يعلم الغيب والشهادة، فكل ما غاب عنك الله يعلمه، كما تعلم أنت ما تشاهده وما تراه.
وقال العلامة الشنقيطي في (أضواء البيان) الجزء الثاني (صفحة ١٧٤): بين الله تعالى المراد بمفاتيح الغيب بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان:٣٤].
فعلم الغيب الذي استأثر الله ﵎ به إنما هو ما ذكر في هذه الخمس، وبذلك جاء الخبر عند البخاري وأحمد من حديث ابن عمر مرفوعًا، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وهو كذلك؛ لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا.
وأخرج مسلم من حديث عائشة ﵂ قالت: (من زعم أن رسول الله ﷺ يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية).
أي: قد افترى على الله افتراء عظيمًا من زعم أن النبي ﵊ يعلم ما سيكون في الغد القريب، وهذا يدل على نفي علم الغيب عن النبي ﵊ إلا ما أطلعه ربه عليه، فكيف بادعائه علم الساعة؟ وقال الله تعالى: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [النمل:٦٥].
ولما رميت عائشة ﵂ بالإفك والمعصية والزنا لم يعلم النبي ﷺ أهي بريئة أم لا، حتى أخبره الله ﵎ وبرأها من فوق سبع سماوات، ولو كان يعلم الغيب لعلم ما وقع؛ لأنه قد وقع هذا الافتراء والإفك بالأمس، فلو كان يعلم الغيب لعلم ما وقع بالأمس، ولكنه
8 / 5