1
وكان مثالا مثلي منافسا لي، وكان قد ظفر بإيثار الشعب؛ لأنه كان يحتفظ للآلهة بشيء من المهابة الرهيبة، يتوسل إلى ذلك بإمساك تماثيلهم بمناطق ضيقة تأخذ أجسامهم من أسفلها فتمنعهم من الحركة، على حين كنت أنا أطلق أعضاءهم فأقربهم منا، حتى تجدد بفضلي ذلك التجاور بين الأولمب والأرض، وكنت من جهة أخرى أحاول أن أتخذ العلم وسيلة إلى أن يصبح الناس أشباها للآلهة.
فقد كنت في سنك حريصا قبل كل شيء على أن أتعلم. وما أسرع ما استيقنت بأن قوة الإنسان لا تغني - أو لا تكاد تغني - عنه شيئا إلا إذا أعانتها الآلهة، وأن المثل الذي يقول: «إن الأداة أجدى من القوة.» لم يكن مخطئا! وما كنت لتقهر قطاع الطرق في البلوبونيز أو في أتيكا لو لم تعنك على ذلك الأسلحة التي وعدك بها أبوك. وكذلك فكرت في أني لن أغني شيئا إذا لم أجد ما أصطنع من أداة، وأن سبيل ذلك هو أن أتقن الحساب والميكانيكا والهندسة كما يتقنها المصريون على الأقل؛ فهم ينتفعون بها انتفاعا عظيما، ثم فكرت في أني لن أنتفع بهذه العلوم في الحياة التطبيقية إلا إذا تعرفت خصائص الأجسام ومميزاتها، حتى الأجسام التي لا يظهر أننا في حاجة عاجلة إلى استخدامها؛ فقد يستكشف في هذه الأجسام كثير من المزايا لم يكن نتوهمها من قبل، شأنها في ذلك شأن الناس أنفسهم.
وكذلك أخذ حظي من المعرفة يتسع ويقوى؛ ثم أردت أن أعرف مهنا وصناعات وأقاليم ونباتات أخرى، فزرت بلادا بعيدة تلمذت فيها لعلماء أجانب، لم أفارق أحدا منهم إلا بعد أن استقصيت ما كان عنده من العلم. ولكني بقيت يونانيا حيثما ذهبت وحيثما أقمت، ومن هنا عنيت بك أيها النسيب لأنك يوناني.
فلما رجعت إلى أقريطش تحدثت إلى مينوس عن أسفاري ودراساتي، ثم أفضيت إليه بشيء كنت أزمعته، وسألته أن يعينني على تحقيقه، فيقدم إلي ما يحتاج إليه من مال وأداة، وهو أن أبني وأنظم إلى جانب قصره دارا تشبه اللابيرنت الذي رأيته وأعجبت به في مصر على شاطئ بحيرة موريس
2
على اختلاف في الرسم. في ذلك الوقت كان مينوس محرجا؛ فقد ولدت له الملكة هذا الوحش الذي يسمى المينوتور، وكان الملك يود لو استطاع أن يخفي هذا الكائن الغريب على أعين الناس؛ فتقدم إلي في أن أقيم له بناء تحيط به حدائق غير مسورة، ولكنه مع ذلك يمسك المينوتور في غير سجن دون أن يستطيع الخروج منه، فأنفقت في ذلك ما كنت أملك من عناية ودراية.
وقد قدرت أن ليس هناك سجن يستطيع أن يمتنع على رغبة السجين في الفرار، وأن ليس هناك أسوار ولا خنادق تستعصي على الجراءة والعزم، فرأيت - وأرجو أن تحسن الفهم عني - أن الخير أن أقيم البناء وأنظمه بحيث لا يكون معجزا لساكنة عن الهرب، بل مانعا له من التفكير في الهرب؛ فجمعت في هذا البناء ما يستجيب لشهوات الإنسان على اختلافها، وليست شهوات المينوتور كثيرة ولا شديدة الاختلاف، ولكن كان علي أن أفكر في الناس جميعا، وفي كل من يقضى عليه أن يدخل اللابيرنت. وكان يجب أيضا - بل قبل كل شيء - أن أضعف إرادتهم؛ ومن أجل ذلك ركبت ألوانا من العقاقير يمزج فيما يدار عليهم من نبيذ. ولكن هذا كله لم يكن كافيا، فوجدت أكثر منه.
وكنت قد لاحظت أن هناك ألوانا من النبات إذا ألقيت في النار أثارت وهي تحترق دخانا مخدرا بعض الشيء، فرأيت أنها عظيمة النفع فيما كنت أحاول من الأمر، وقد استجابت بالضبط لما دعوتها إليه، فاتخذت مواقد لا تخمد نارها في ليل أو نهار وغذوتها بهذه النباتات. والأبخرة التي تصاعد منها لا تنيم الإرادة وحدها، ولكنها تشيع سكرا خلابا، وتدفع إلى فنون من الخطأ المغري، وإلى ضروب من النشاط الفارغ تصدر عن رءوس قد شملها الذهول وعبث بها الشراب، ضروب من النشاط الفارغ؛ لأنها لا تنتهي إلى شيء إلا أن يكون وهما، ولا تثير إلا مناظر لا تثبت، لا تنتهي إلى غاية ولا تعتمد على منطق.
وتأثير هذه الأبخرة ليس متفقا بالقياس إلى الذين يخضعون له جميعا، وإنما هو يختلف باختلافها وينشأ عنه اختلاط غريب يجعل لكل واحد لابيرنته الخاص. وقد كان اختلاط ابني إيكار فلسفيا يرقى إلى ما بعد الطبيعة. أما أنا فأرى أبنية ضخمة وجمعا من القصور المتراكمة تختلط فيها السلالم والدهاليز ... بحيث انتهى هذا كله في تخليط ابني إلى مأزق تتبعه خطوة غامضة إلى أمام. ولكن أشد من هذا كله غرابة أن هذه العطور إذا استنشقها الإنسان حينا لم يستطع أن يستغني عنها؛ لأن الجسم والعقل قد اتخذ منها متاعا لا قيمة بإزائه للحياة الواقعة، ولا رغبة في العودة إليها، وإنما هو البقاء والبقاء المتصل في اللابيرنت.
صفحة غير معروفة