وهاتان القصيدتان طويلتان، اختصرت منهما ما اختصرت، واقتصرت على ما اقتصرت، طلبا للدلالة على فضله، ومضاء سنانه ونصله. ولكن أدته مواده الغزيرة إلى أن اعتزل وتشيع، وأهمل جانب السنة وضيع. وله نثر أجاد فيه بعض جوده، ولم يكن كنظمه الذي رفع هضبه ووطد طوده. وقد ساق شيئًا منه في الفلك الدائر، ونثر ابن الأثير أقعد منه عند أولى البصائر، ولو حذفه كان خيرا من إثباته، وأمنع له من عجم سهمه وغمز قناته.
فأي قوادم ينهض بها من جاء بعد هذا المتكلم، وأي سيف يفري فريه وهو متثلم، والمعتزلة فرسان المباحث، وممن توفرت لهم الهمم على الجدل وطاوعتها الدواعي والبواعث. ولكن:
قد يدرك المجد الفتى ولباسه ... خلق وجيب قميصه مرقوع
وقد ترك الأول للآخر أكثر مما جاء به، وتفاوتت الأذهان في انتقاد مها الحسن وكواعبه، وأعقب العقل سحابه لما انجلت بصوب سحائبه.
وما عقمت أم الندى بعد حاتمٍ ... لها كلّ يوم في البرية مولود
وقد جمعت ما عثرت عليه من هفوات ابن الأثير في هذه الأوراق، وضربت عليها هذا الفسطاط ومددت هذه الأرواق، وسردتها على الترتيب، وسقتها على ذلك التبويب. وسميت ذلك نصرة الثائر على المثل السائر واخترت هذه التسمية له شارة وإشارة، لأن الثائر لغة هو الذي لا يبقي على شيء حتى يدرك ثاره. وإذا ناقشته في بحث أورده، ونافسته في صالح أفسده، لا أكاد أخلي ذلك الموطن من محاسن أرباب هذا الفن الذين عابهم، وتردد إلى مواقف ذمهم وانتابهم. خصوصا القاضي الفاضل رحمه الله تعالى. فإنه قد عارضه في بعض ما أنشاه، وعاب عليه ما دبجه ووشاه.
وقال السها للشمس أنت خفيةٌ ... وقال الدّجى يا صبح لونك حائل
والسيف مشهور بغير حمائل، والصبح مشهود بغير دلائل. وأين مقاصد الفاضل وبعد مرماه، واختلاسه المعاني بلطف مغزاه وخفي مسراه. هيهات، فإن بينهما من الفرق، ما بين ذل القدم وعز الفرق. ولطف ذلك لا يخفى على ذوق الكاتب الماهر، وحسن معانيه في الباطن أضعاف كلامه في الظاهر.
ولله در ابن سناء الملك إذ يقول على أن غالب ديوانه فيه:
شهد الكاملون بالفضل للفا ... ضل أو كاد يشهد المولود
وعد الدهر أن يجود على الخل ... ق ولكن بمثله لا يجود
وابن قلاقس إذ يقول أيضًا فيه من جملة أبيات:
وأسكرنا بيانا دام حتى ... عجبنا كيف حذّرنا المداما
معان يقعد الفصحاء عنها ... وتسمعها خواطرهم قياما
يتيماتٌ تصدّق في علاه ... مقالة من دعاه أبا اليتامى
وأما ابن الساعاتي فأكثر فيه المدح. من ذلك:
ما من يقيس إليه خلقا مثله ... إلا كمن قاس الوهاد إلى الذّرى
فإذا تقدم في العلاء مفاخرا ... عرف السماك محله فتأخرا
وقد تصدى الناس لابن الأثير كونه ناقض الفاضل، ورمي من ألسنتهم وأقلامهم بمشق سيوف المناظر، ورشق سهام المناضل.
فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها ... فأول راضي سنّةٍ من يسيرها
وليس هذا موطن الثناء على القاضي الفاضل، وسوف تقف عليه، وتدلك نفحات طيبه إذا انتهيت إليه.
ومن هنا أجرد عن ساعد المؤاخذة، وأبرى السهام التي أظنها في الغرض نافذة. وعلى الله قصد السبيل، هو حسبي ونعم الوكيل.
الابتداء بالحمدلة
قال ابن الأثير سامحه الله تعالى: نسأل الله أن يبلغ بنا من الحمد ما هو أهله، وأن يعلمنا من البيان ما تقصر عنه مزية النطق وفضله، وحكمة الخطاب وفصله.
1 / 4