قال: ومن ذلك ما ذكرته في الحث على الاغتراب وهو: لولا التغرب ما ارتقت بنات الأصداف إلى شرف الأعناق، ولا ارتقى تراب الأحجار إلى نور الأحداق ثم قال: وكذلك قولي في هذا المعنى وهو: في الانتقال تنويه لخامل الأقدار ولولا ذلك لم يكنس الهلال حلة الإبدار، والمندل الرطب حطب في أوطانه، والمسك دم في سرر غزلانه، ولولا فراق السهم وتره لم يحظ بفضل الإصابة، ولولا فراق الوشيج منبته لم يتحل بعز البنان ولا شرف الذؤابة.
وهذا الفصل فصل من القول في معناه، ومما لم يتسن للخواطر ابتناء مبناه. فمنه ما هو مأخوذ من الشعر، ومنه ما سنح به الخاطر على غير مثال وهو يشهد لنفسه.
أقول: قوله ارتقت أولا، وارتقى ثانيا فيه عي لتكراره. ولو قال في أحدهما ما اتصل أو ما سما أو غير ذلك لكان أحسن. وكذا ابتناء مبناه، ومثل هذا يعاب في الكلام. وقد عيب على الصاحب بن عباد قوله:
أشبّب لكن بالمعالي أشبب ... وأنسب لكن بالمفاخر أنسب
وبي صبوةٌ لكن إلى حضرة العلا ... وبي ظما لكن من العز أشرب
وسميت القصيدة اللاكنية لكثرة ترداد لكن فيها.
وكل هذه المعاني تداولها الشعراء وأكثروا منها. من ذلك قول ابن صردر:
قلقل ركابك في الفلا ... ودع الغواني للقصور
لولا التغرب ما ارتقى ... درّ البحور إلى النحور
وقول سبط التعاويذي:
قالوا انتزح وتغرب تكتسب شرفا ... فالدر ما عزّ حتى فارق الصدفا
وقول ابن قلاقس:
سافر إذا حاولت قدرا ... سار الهلال فصار بدرا
والماء يكسب ما جرى ... طيبا ويخبث ما استقرا
وبنقلة الدرر النفي ... سة بدّلت بالبحر نحرا
وابن قلاقس وابن الأثير رحمهما الله تعالى من أهل عصر واحد. فإن ابن قلاقس توفي سنة سبع وستين وخمسمائة. وابن الأثير توفي سنة سبع وثلاثين وستمائة ومولد ابن قلاقس سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، ومولد ابن الأثير سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. فعمر ابن الأثير أكثر.
وقول ابن الساعاتي وهو من أهل عصره:
وكن غانيا عن كل أرض بأختها ... وإن حلّ مغناها كواعب عين
فلولا فراق الدّر أصداف بحره ... لأنكره نحرٌ وصدّ جبين
وقول القائل:
الأسد لولا فراق الغاب ما افترست ... والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والتّبر كالتّرب ملقى في مواطنه ... والعود في أرضه نوعٌ من الحطب
وقول أبي العلاء المعري:
والسمهرية ليس يشرف قدرها ... حتى يسافر لدنها عن غابه
وقلت أنا من هذه المادة:
سافر تنل عزا فما مسك الورى ... إلا دما في سرة الغزلان
والرمح لما فارق الوطن اغتدى ... بذؤابة خفقت وتاج سنان
وقلت أيضًا:
سافر تنل رتب المفاخر والعلا ... كالدر سار فصار في التيجان
وكذا هلال الأفق لو ترك السرى ... ما فارقته معرة النقصان
قال: ومن ذلك ما ذكرته في ذم الدنيا وهو: أنكاد الدنيا مشوبة بالأشياء التي جبلت النفوس على حبها، وكل ما تستلذه الأبدان من مآكلها فإنه يضرها من جهة طبها، ولهذا تذمم من منفعة الهليلج ومضرة اللوزينج. وأعجب من ذلك أنه لا ينتفع الإنسان بشيء من لذتها إلا ضرته من جهة ثوابه، فهو كالذي ينتفع باصطلاء النار وهي محرقة لأثوابه. وقد ضرب لذلك مثل من الأمثال، وقيل إن كل ما ينفع الكبد مضر بالطحال.
أقول: انظر إلى هذه الركة والعامية، ألا تراه أشبه بشيء بكلام العجائز قوابل النساء إذا أخذن يعظن ويضربن الأمثال، أكذا توصف الدنيا في حالة الذم: أتراه ما سمع بشيء من كلام علي بن أبي طالب ﵁ إذا قال له رجل: صف لنا الدنيا فقال: ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب وحرامها عذاب، من استغنى فيها فتن ومن افتقر حزن ولا بشيء من بعض أقوال الحكماء فيها كقول بعضهم: الدنيا أمل بين يديك، وأجل مطل عليك، وشيطان فتان، وأماني جرارة العنان، تدعوك فتستجيب، وترجوها فتخيب.
أما سمع بزهديات أبي نواس التي منها:
وما الناس إلا هالك وابن هالكٍ ... وذو نسبٍ في الهالكين عريق
1 / 23