بسم الله الرحمن الرحيم
عفوك اللهم
الحمد لله الذي فطر عقول البشر متغايرة، وجعل النفوس برأيها عل نقطة الرضى دائرة، وزين لها أعمالها حتى توهمت أنها في الأمثال السائرة.
أحمده على نعمه التي أوضحت ما أبهم وألبس، وأبدت نار الهدى التي لم تكن بسوى أنامل الذوق تقبس، وراضت جواد الانتقاد الذي إذا أم غاية لم يثن عنانه ولم يحبس. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يسجع بها حمام اللسان من اليقين على أراكه، وتنجي قائلها من الوقوع في حبائل الشرك وأشراكه، وتكون له ذخيرة إذا عدم سكونه بعد حراكه. وأشهد أن محمدا سيدنا وعبده الذي عصمه الله من الخطأ في القول والعمل، وحرس به سرح الفصاحة ولولاه لاختلط المرعى بالهمل، وآتاه من جوامع الكلم ما لم تطمح إليه عين أمنية ولم تطمع فيه يد أمل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هابتهم الأساود وخافتهم الأسود، وتجانست أفعالهم فما منهم إلا من يجول ويجود، ويسوس ويسود، وتبرأت شيمهم من النقائص فلم يكن فيهم مختال ولا متكبر ولا حسود، صلاة تتبسم عن ثغرها شفة الفجر في لعس الظلام، ويتلثم بنورها وجه البدر في عرس التمام.
وبعد: فإن كتاب المثل السائر للصاحب ضياء الدين بن أثير الجزيرة، عامله الله بلطفه، وسامحه بما هزت به نسمات الخيلاء من غصن عطفه، من الكتب التي خفقت له في الاشتهار عذبات أوراقه، وسعى القلم في خدمته على رأسه إذا سعى الخادم على ساقه. واشتهر بين أهل الإنشاء اشتهار الليل بالكتمان والنهار بالإفشاء، لا بل اشتهار بني عذرة في الحب بتحرق الأحشاء، وأولع به أهل الأدب في الآفاق ولع الكريم بالإنفاق، لا بل ولع الرقباء بالعشاق.
إلا أن واضعه ﵀، وان جمع فيه العلم والعمل، وسجع فيه بين الثقيل والرمل، وتوهم أن بدر فضله قد تم وكمل، وتخيل أن جيد الإنشاء بعده قد عطل، وفنه قد خمل، قد أذهب حسناته النادرة، بتوالي سيئاته البادرة، وأضاع تلك الزهرات الفذة، في قفار الدعاوى التي لا يجد فيها السالك لذة، وطال على الناس بعد هلاله سواد ليله، ورفضوا مواقع طله لغثاء سيله. ونعم فإنه:
ما الجزع أهلٌ أن تردّد نظرةٌ ... فيه وتثنى نحوه الأعناق
لأنه أفنى ذلك البسط في الإعجاب بنفسه والإطراء، وأطال في الغض من أبناء جنسه والازدراء، وظن أن الله قد حرم الفصاحة على من يأتي من بعده، وأن الذين من قبله إما شيخ قد خرف في هرمه، وإما طفل يعبث في مهده. وجر رداء الكبر والخيلاء مخيطا بإبر الحمد، وبالغ في ذلك مبالغة أبي زبيد الطائي في وصف الأسد. ووصف نفسه ولا وصف امرىء القيس لأفراسه، ومدحها ولا مدح أبي نواس سلافة كاسه، وكرر ذلك فغثى النفوس بذلك الغث، وزاد حتى رثى القلق ثوب الصبر لمارث.
قال رسول الله ﷺ: احذروا ثلاثا: الحرص فإنه أخرج آدم من الجنة، والكبر فإنه حط إبليس عن مرتبته، والحسد فإنه دعا ابن آدم إلى قتل أخيه.
وقال ﷺ: إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ويقال: إنه أول ذنب عصي الله به في السماء والأرض. وقال النبي ﷺ حاكيا عن الله ﷿: الكبرياء ردائي فمن نازعنيه أدختله النار. وقال جعفر بن محمد: علم الله أن الذنب للمؤمن خير من العجب، ولولا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب.
وقال بعض الحكماء: البلية التي لا يؤجر المرء عليها العجب، والنعمة التي لا يحسد عليها التواضع.
ومما قيل: لا شيء أكتم للمحاسن من التيه والعجب.
هذا إلى ما في الكتاب من فلتات عديدة، واختيارات غير موفقة ولا سديدة، ونصر باطل، وتحلية عاطل، وترجيح ما ضعف ووهى، وتوهين ما تحرر وانتهى.
مساوٍ لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطّلاق
وكنت أقف على أطلالها عند المراجعة ناديا، وأعثر في أذيالها حين المطالعة غالبا، وأتأوه لانفراد تلك اللآلىء في سلوك السبج، وأستطيل سواد لياليه والصبح من محاسنه ما أسفر ولا انبلج.
وبلغني ما وضعه عز الدين بن أبي الحديد ﵀ على الكتاب من المؤاخذة، وأنه استصرخت به تلك الظلامات عائذة. فلما وقفت على الفلك الدائر وجدته قد أغفل كثيرًا، وأخذ قليلا وترك أثيرا. فأحببت بعد ذلك أن ألتقط ما غادره، وأتتبع شاذه ونادره.
1 / 1