تأسيس
ظاهرة النسخ في الوحي
ما نسخت تلاوته وبقي حكمه
ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته
ما نسخ تلاوته وحكمه
المصادر
تأسيس
ظاهرة النسخ في الوحي
ما نسخت تلاوته وبقي حكمه
ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته
ما نسخ تلاوته وحكمه
المصادر
النسخ في الوحي
النسخ في الوحي
محاولة فهم
تأليف
سيد القمني
تأسيس
قال الأئمة لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله تعالى إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ، وقد قال علي (رضي الله عنه) لقاض: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت.
جلال الدين السيوطي
1
عن ابن عباس في قول الله عز وجل
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ... ... فمن المتأخرين من قال: ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ ... وهذا القول عظيم جدا، يئول إلى الكفر.
أبو جعفر النحاس
2 ... وأهمية معرفة النسخ تتضح مما يأتي:
أولا:
إن أعداء الإسلام من ملاحدة ومبشرين ومستشرقين ... جحدوا وقوع النسخ وهو واقع.
ثانيا:
إن الإلمام بالناسخ والمنسوخ يكشف النقاب عن سير التشريع الإسلامي، ويطلع الإنسان على حكمة الله في تربيته للخلق، وسياسته للبشرية.
ثالثا:
إن معرفة الناسخ والمنسوخ ركن عظيم في فهم الإسلام، وفي الاهتداء إلى صحيح الأحكام ... فالمنكرون لوقوع النسخ في القرآن الكريم ... يخالفون صريح النص القرآني، والسنة النبوية الصحيحة وإجماع المسلمين.
د. شعبان محمد إسماعيل، وكيل الأزهر
3
لم تعد قضيتنا اليوم هي حماية تراثنا من الضياع ... إنها ليست القضية الأولى في هذه المرحلة التي وصل فيها التهديد إلى الوجود ذاته ... حيث أصبح موقفنا اليوم هو الدفاع عن وجودنا ذاته، بعد أن أفلح العدو أو كاد في اختراق الصفوف، في محاولة نهائية لإعادة تشكيل وعينا، أو بالأحرى في محاولة لسلبنا وعينا الحقيقي، ليزودنا عبر مؤسساته الثقافية والإعلامية بوعي زائف، يضمن استسلامنا النهائي لخططه، وتبعيتنا المطلقة له على جميع المستويات.
د. نصر حامد أبو زيد
4
ظاهرة النسخ في الوحي
تروي كتب التاريخ الإسلامية وكتب السير والأخبار أن النبي
صلى الله عليه وسلم
في المراحل الأولى من دعوته في مكة، وبعد أن هاجر بعض أتباعه إلى الحبشة، ورأى تجنب قريش له، وأنه في نفر قليل من أصحابه، استشعر الوحشة فتمنى قائلا: «ليته لا ينزل علي شيء ينفرهم مني.» كما يروى أنه قرأ سورة النجم في المسجد الحرام أمام سادات قريش، ومعه بعض أتباعه يصلون معه، ولما وصل إلى الآيات
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى (النجم: 19-20)، يروى أنه استمر يقول: «تلك الغرانيق العلا، إن شفاعتهن لترتجى.» مما أدى إلى صدى واسع النطاق، حيث أعلنت قريش رضاها عن محمد
صلى الله عليه وسلم
وعما تلا من آيات، وقالت: «بلى؛ لقد عرفنا أن الله يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، لكن هذه تشفع لنا عنده، وإذا جعلت لها نصيبا، فنحن معك.» ويذكر الطبري أن «المؤمنين صدقوا نبيهم فيما جاءهم عن ربهم ... فلما انتهى إلى السجدة، سجد المسلمون بسجود نبيهم، تصديقا لما جاء به واتباعا لأمره، وسجد من سجد من المشركين وغيرهم، لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا وسجد.»
1
وروى البخاري عن ابن عباس قوله: إن رجلا واحدا لم يسجد لكبر سنه ووهن عظمه، «إلا رجلا رأيته يأخذ كفا من تراب فيسجد عليه.»
2
وقد سمى الواقدي هذا الرجل بالاسم في قوله «فسجد المشركون كلهم إلا الوليد بن المغيرة، فإنه أخذ ترابا من الأرض، فرفعه إلى وجهه.»
3
ومعلوم أن «الوليد» كان من أشد الناس على النبي
صلى الله عليه وسلم ، كما كان من ذوي الثراء بين وجهاء مكة وأشرافها، ولا شك أن موقفه هنا بحاجة إلى بعض التأمل.
وتتابع الروايات حكايتها، فتقول: إنه كان لتلك القصة المعروفة في التراث الإسلامي بحديث الغرانيق، صدى واسع، حتى إنه وصل إلى مسامع المسلمين المهاجرين لدى نجاشي الحبشة، فقفلوا من مهجرهم راجعين بعد أن انتفى سبب اغترابهم. لكن هؤلاء التقوا في طريق عودتهم بركب من كنانة، أخبروهم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
ذكر شفعاء قريش بخير فتابعوه، لدرجة أنهم صلوا صلاته، ثم ارتد عنها فعادوا لمعاداته، فبعد أن قال: «أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلا، إن شفاعتهن لترتجى.» عاد يقول: إن جبريل جاءه وعاتبه قائلا: «ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به من الله عز وجل، وقلت ما لم يقل.» ثم تلا:
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى (النجم: 19-22).
4
وقد عقب القدامى والمحدثون على حديث الغرانيق لنفيه، واستهجانا له، وللإيجاز يقول د. شعبان محمد إسماعيل من المحدثين: «وهذه القصة غير ثابتة لا من جهة النقل، ولا من جهة العقل.»
5
ومن القدامى أبو جعفر النحاس الذي هاله أمرها، فقام يعلن أن «هذا حديث مفظع وفيه هذا الأمر العظيم.»
6
وقدم محقق كتابه لذلك بحجة منطقية تماما، وهي «أنه لو جوزنا ذلك، لذهبت الثقة بالأنبياء، ولوجد المارقون سبيلا للتشكيك في الدين.»
7
ثم أردف بما جاء عند الواقدي وهو يقول: «... حتى نزل جبريل فقرأ عليه النبي هذا، فقال له: ما جئتك به، وأنزل الله:
لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (الإسراء: 74).»
8
والآية المشار إليها
لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا
جاءت في عتب الله تعالى على نبيه الكريم
صلى الله عليه وسلم ، في الآيات:
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (الإسراء: 73-74)، ثم نجد تبريرا قرآنيا لما حدث، لا مجال فيه لخلط أو لبس، يوضح أن الشيطان - لعنه الله - انتهز فرصة تمني النبي القرب من قومه، فتدخل في الوحي إبان تلقيه، وألقى إليه بتلك الآيات الفظيعة، فنسخها تعالى بالآيات الصادقة. ويعلمنا الله تعالى أن ذلك ليس أمرا جديدا ولا غريبا؛ فقد كان الشيطان يفعلها مع أي نبي من الأنبياء والرسل المكرمين إذا تمنى أحدهم ذات الأمنية أو مثلها، وقد جاء هذا الإيضاح المبين في قوله جل وعلا:
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته (الحج: 52).
ويعقب أبو جعفر النحاس الذي استفظع الأمر على تلك الآيات، فيؤكد أنه حتى لو كان حديث الغرانيق قد حدث، وأن الشيطان وجد الفرصة في التمني، فإن النبي لم ينطق بما ألقى الشيطان، أو كما قال: «... فيكون التقدير على هذا: ألقى الشيطان في تلاوة النبي
صلى الله عليه وسلم
إما شيطان من الجن، ومعروف في الآثار أن الشيطان كان يظهر في كثير وقت النبي
صلى الله عليه وسلم ، فألقى هذا في تلاوة النبي
صلى الله عليه وسلم
من غير أن ينطق به النبي
صلى الله عليه وسلم .»
9
ومن هنا يحتمل أن يكون مناط احتجاجه ما جاء في آيات أخرى تقول:
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (النحل: 98-100).
هذا ما كان من أمر حديث الغرانيق، وما كان من إيضاحات القرآن الكريم لما حدث، ولكن ما يعنينا ونهتم به ويدخل في إطار بحوثنا، بعيدا عن بحوث المغيبات الدينية ذاتها، التي لها ميدانها وفرسانها، هو قراءة الواقع الذي حدثت فيه الحادثة، ومعرفة الظروف التي لابستها. لنفهم كيف كان القصد من الأمر فتنة قوم في قلوبهم مرض، وكيف قست قلوب آخرين فتم اختبارهم وفرزهم. وبالإطلال على تلك الفترة الزمكانية نرى الواقع لم يفرز بعد عددا من الحواجز بين النبي وقومه، لكن كانت هناك حواجز قد قامت بالفعل، كانت من وجهة نظر المشركين هي الحواجز الأساسية والحاسمة. والمعلوم أن قريشا لم تكن تختلف مع المصطفى
صلى الله عليه وسلم
حول المسألة العقدية الأولى لدعوته، وهي الإيمان بإله واحد يحيي ويميت يخلق ويرزق، ومصدر علمنا بذلك من القرآن الكريم ذاته، والذي شهد لهم بذلك في عدد من الآيات المكرمة، ومن تلك الآيات:
ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون (العنكبوت: 61)،
قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون (المؤمنون: 86-87)، وغير تلك الآيات بذات المعنى كثير. لكن وجه الخلاف، والحاجز الكبير، كان يتمثل في دعوة النبي
صلى الله عليه وسلم
لإسقاط شفاعة الشفعاء من أرباب العرب.
وهكذا كان معنى أن يلغي محمد
صلى الله عليه وسلم
الشفعاء، هو إلغاء الحاجز الأخير بين القبائل وبعضها، وإسقاط الرمز القوي السيادي المتماهي مع السيد الأرستقراطي هذا ناهيك عن نظرتهم إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
بحسبانه يسعى إلى إلغاء سادة القبائل من شفعاء، ليصبح هو السيد الأوحد لكل القبائل، لتنتقل له وحده الشفاعة، من حيث كونه صاحب العلاقة مع الله وليس الشفعاء ولا الكهان ولا التجار. أي صاحب القرار القاطع والنهائي الناطق باسم الله، وذلك عبر الشهادة له بأنه رسول الله، هو ما يتهدد مصالحهم التجارية جميعا بالدمار.
وفي ظل ذلك الوضع يمكن قراءة حديث الغرانيق مرة أخرى، ففي تلك الظروف، ومع مهاجرة الأتباع للحبشة، ومع قسوة الواقع ومرارته، ومع الغربة وسط الأهل، ومع الظرف النفسي الذي - لا بد - تركته تلك الأوضاع في النبي
صلى الله عليه وسلم ، تمنى، فتدخل الشيطان، فقال ما قال، فتبعته قريش وخاصة سادتها الذين تواجدوا تلك اللحظة بالحرم؛ لأنه هكذا لن يمس الأمر مصالحهم، فسجدوا بسجود النبي
صلى الله عليه وسلم ، وصلوا معه صلاته. وهنا كانت الفتنة المقصودة بقول الآيات:
ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض. والقاسية قلوبهم (الحج: 53). والقلوب كانت آنذاك بمعنى العقول، أي الذين لا يفقهون ولا يدركون المرامي البعيدة لدعوة النبي
صلى الله عليه وسلم ، تلك المرامي التي سبق أن أدركها العقلاء منهم رغم عدم إيمانهم، وأفادوهم بها، وشرحوها لهم، وهو ما لمسناه في قول عتبة بن ربيعة لهم بعد أن التقى النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأدرك الأهداف الكبرى للدعوة، ولا شك أن عتبة بن ربيعة، وهو أحد الأرستقراطيين الكبار، قد أدرك الأبعاد الكبرى للدعوة، والتي كانت تبغي توحيدهم جميعا في دولة كبرى تناجز الروم والعجم، دون إضرار بمصالحهم التجارية، وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل. بل وبعد انتصار الدعوة تم تمكين هذه المصالح وتقويتها ودعمها، فالنبي بعد فتح مكة لم يضمن للمكيين مكانتهم بين العرب فقط، بل ضمن لقريش ولزعامتها مركزهما في الإسلام. والناظر لفتح مكة بقليل من وضوح الرؤية يكتشف أن فتح مكة لم يكن هزيمة لقريش، وهو الأمر الذي نلحظه في تذمر الأنصار، ثم بعد ذلك عمل النبي
صلى الله عليه وسلم
بنفسه على تكريس الوضع الاجتماعي القائم، عن طريق الأعطيات والإقطاعات، ثم دعم الوحي ذلك بتكريس الملكية الفردية:
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ، بل قدم عقلنة واضحة للتفاوت الطبقي كما في قوله تعالى:
ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (النحل: 75)، ناهيك عن إعادة سر التفاوت الطبقي إلى التقدير الإلهي في قوله:
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم (الأنعام: 165).
لكن كان واضحا أن الأمر بهذا المعنى لم يصل إلى أذهان الأرستقراطيين المكيين في ظل دعوة الإسلام الأولى للمستضعفين، فكانت فتنتهم بحديث الغرانيق، لكن توتر بعض المسلمين نتيجة ما ألقى الشيطان، وتضعضع أحوالهم المعنوية، كان لا بد أن تتبعه العودة السريعة بإيضاح دور الشيطان فيما حدث. والذي كان أيضا اختبارا للمسلمين المستضعفين لإظهار مقدار الطاعة، ومدى مسارعتهم إليها مسارعة إسماعيل إلى الذبح طاعة للأمر الإلهي، وعليه فقد جاء النسخ لما ألقى الشيطان في الوحي، عملا إجرائيا كانت أطرافه الاعتبارية القبلية في جانب والوحدة المرتقبة في جانب آخر، وأطرافه الشخوصية هي أهل مكة في جانب، والنبي
صلى الله عليه وسلم
في جانب، بينما كانت أدوات هذا الجدل هي الشفعاء، والشيطان، وكلمات الله التي تمثلت في وحي لا كالإلهام، ولا كالخاطر، ولا كالهاجس، لكنه الوحي الصادق الذي أدى دورا غني الدلالة، ويشير بدون إبهام إلى صدوره عن فاعل واع مريد. كان الوحي هنا فعلا شعوريا يتسم بالإدراك والوعي التامين لما يحدث، ولشكل الاستجابة المطلوبة بحسب شروط الواقع وضروراته. كان وعيا بطبيعة المرحلة الآنية آنذاك ، وبطبيعة المرحلة المقبلة وما سيلحقها من تحولات. لكن يثور هنا السؤال: كيف يتحول الوحي ويتبدل؟ وهل يمس ذلك قدسية كلمة الله الثابتة؟ وهذا ما دعا بعد ذلك إلى نشوء مبحث هام وكبير من مباحث علوم القرآن، هو «الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم»، وهو الظاهرة التي لحظها القرشيون حتى قالوا: «ألا ترون إلى محمد، يأتي أصحابه بأمر ثم ينهاهم ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا يرجع عنه غدا؟» وهي ذات المقالة التي قالها اليهود اليثاربة بعد الهجرة، عندما تحول النبي
صلى الله عليه وسلم
بالمسلمين في الصلاة - عن بيت المقدس - إلى كعبة مكة.
10
كان ذلك التحول والتبدل مدعاة لرد الآيات الكريمة:
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (النحل: 101). والمعنى أن هناك آيات تم استبدالها بأخرى، مع إشارة واضحة إلى احتساب المشركين لذلك التبديل افتراء من النبي
صلى الله عليه وسلم
على الله جل وعلا، والله منه بريء. إلا أن الآيات أوضحت بلا إبهام أن من يرفضون منطق الاستبدال والتحول «أكثرهم لا يعلمون»، وهو ما دعمته الآيات بقولها:
يمحو الله ما يشاء ويثبت (الرعد: 39). وهو ما يشير ليس فقط إلى الاستبدال، بل إلى محو آيات بعينها، ثم بقولها:
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها (البقرة: 106).
وقد جاء عن ابن عباس من تفسير الآية
يمحو الله ما يشاء ويثبت : «أن الله يبدل ما يشاء من القرآن فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله، وما يبدل وما يثبت إلا في كتاب.» وعن قتادة عن عكرمة قال: «إن الله ينسخ الآية بالآية فترفع وعنده أم الكتاب، أي أصل الكتاب.» وعن قتادة أيضا في شرح الآية
منه آيات محكمات (آل عمران: 7)، قال: «المحكمات هي الآيات الناسخة التي يعمل بها.»
11
مما يشير إلى غير المحكمات التي لا يعمل بها، على ذمة قتادة. وإزاء القول بأن الآيات، المنسوخ منها والناسخ، المعلوم لدينا أو المجهول - لنسخه أو محوه - إنما في كتاب أزلي محفوظ هو أم الكتاب، يقول د. نصر أبو زيد: «النسخ هو إبطال الحكم وإلغائه، سواء ارتبط الإلغاء بمحو النص الدال على الحكم ورفعه من التلاوة، أو ظل النص موجودا دالا على الحكم المنسوخ، لكن ظاهرة النسخ تثير في وجه الفكر الديني السائد المستقر إشكاليتين يتحاشى مناقشتهما، الإشكالية الأولى: كيف يمكن التوفيق بين هذه الظاهرة بما يترتب عليها من تعديل للنص بالنسخ والإلغاء، وبين الإيمان الذي شاع واستقر بوجود أزلي للنص في اللوح المحفوظ. والإشكالية الثانية ... هي إشكالية جمع القرآن ... ومشكلة الجمع ما يورده علماء القرآن من أمثلة قد توهم أن بعض أجزاء النص قد نسيت من الذاكرة الإنسانية ... ولم يناقش العلماء ما تؤدي إليه ظاهرة نسخ التلاوة، أو حذف النصوص سواء بقي حكمها أم نسخ أيضا، من قضاء كامل على تصورهم الذي سبقت الإشارة إليه لأزلية الوجود الكتابي للنص في اللوح المحفوظ ... فإن نزول الآيات المثبتة في اللوح المحفوظ ثم نسخها وإزالتها من القرآن المتلو، ينفي هذه الأبدية المفترضة الموهومة ... فإذا أضفنا إلى ذلك المرويات الكثيرة عن سقوط أجزاء من القرآن ونسيانها من ذاكرة المسلمين، ازدادت حدة المشكلة ... والذي لا شك فيه أيضا، أن فهم قضية النسخ عن القدماء لا يؤدي فقط إلى معارضة تصورهم الأسطوري للوجود الأزلي للنص، بل يؤدي أيضا إلى القضاء على مفهوم النص ذاته.»
12
لكن رغم أهمية هذه الرؤية وعلميتها، التي تحرص على الالتزام بمنهج الدراسة العلمية وشروطه، كما تحرص في ذات الوقت على النص ومفهومه، فقد كان واضحا أنها سقطت في شراك المنظومات القديمة وقوالبها الجاهزة، فتشابكت معها. رغم ما أبداه الأستاذ الدكتور من حذر وتحذير من سيطرة مثل تلك المنظومات والقوالب على الباحث، في مقدمة كتابه المذكور، ورغم حرصه الشديد على التعامل مع النص القرآني كنص أدبي، ورغم إشارته إلى ارتباط هذا النص بواقع جزيرة العرب زمن تواتر ذلك النص وحيا. إلا أن تلك الإشارة لم تفصح عمليا عن ذاتها بشكل واضح وجلى في موضوعه عن النسخ. وإزاء تشابك تلك الرؤية مع القوالب القديمة، فإن الأستاذ الدكتور لم يمد الخيط إلى طرفه الأخير، أو بالأحرى إلى الحدود الممكنة وكانت متاحة، لولا أنه سلم مقدما بالتقسيم التقليدي لظاهرة النسخ في القرآن الكريم. أقصد اللوحة الثلاثية التي تقول: إن هناك أولا «ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته»، بمعنى أن هناك آيات في الكتاب الكريم قائمة بلفظها، وإن بطل العمل بحكمها، بموجب آيات أخرى جاءت بحكم جديد نسخ الآيات القديمة. وثانيا «ما نسخت تلاوته وبقي حكمه»، بمعنى أن هناك آيات كانت معروفة في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
ويعمل بحكمها، لكن في ظروف بعينها تم نسخ تلاوتها أي لفظها أو نصها، بينما بقي حكمها معمولا به بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهي الحالة التي تجد نموذجها الأمثل في حكم الرجم على الزاني والزانية إذا ما أحصن، أي إذا كان متزوجا. أما الحالة الثالثة فهي «ما نسخ حكمه وتلاوته معا»، فلم يعد له وجود بين آيات القرآن الكريم، ولم يعد يعمل بحكمه أيضا. هذا بينما نجد - بنظرة مدققة - فيما جاء من أخبار، ما يفيد أن هناك أحداثا وظروفا جدت، فتفاعل معها الوحي، إضافة إلى أحداث جدت بعد الوحي، وذلك إبان عملية جمع القرآن، بحيث أدى هذا كله في النهاية إلى القرآن النهائي الموجود بين أيدينا الآن، المصحف العثماني نسبة إلى عثمان بن عفان، ولم يأخذ المجتهدون في التعامل مع ظاهرة النسخ تلك الأحداث والظروف بحساباتهم، رغم إشارتهم لها، وذلك نتيجة الإصرار على التعامل مع القرآن الكريم كنص أزلي الوجود، مما انتهى بهم إلى اختراع اللوحة الثلاثية. ومن هنا سنحاول فهم واقع الحال مرة أخرى، مرتبطا بمراحل تواتر الوحي، ومن خلال الإشارات والشذرات والشهادات التي قدمها علماؤنا القدامى، والتي تشير إلى ما حدث خلال ثلاثة وعشرين عاما، استغرقها تواتر الوحي القرآني، وكانت كفيلة بالتعامل معه كنص تاريخي، إضافة لكونه نصا عقديا وأدبيا.
ولقد كان تواتر الوحي خلال تلك الفترة الزمنية، مفرقا ومنجما، تواصلا مستمرا مع الواقع آنذاك، وتفاعلا مع المستحدثات الظروفية، وهو ما كان معترض المشركين الأساس، والذي سجلته الآيات الكريمة في قولها:
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة (الفرقان: 32)، وهي حجة تتسق مع الرؤية المثالية لمفهوم الألوهية ومفهوم النبوة، حيث يتسم فيها الله بالثبات المطلق، وبحيث تثبت كلماته دفعة واحدة، فلا تتبدل ولا تتغير، بحسبان كلام الله ثابتا ثبات ذاته. وهي ذات الرؤية التي استندت إليها قراءة السالفين من علماء المسلمين في الكتاب الكريم، دون أن يلتفتوا إلى أن ذلك يمكن - بالفعل - أن يدمر مفهوم النص ذاته، بحسب ما نبه إليه د. نصر أبو زيد. هذا بينما، كانت سيولة القرآن الكريم، وتدفقه على مراحل حسب المناسبة والظروف، مطابقة مستمرة ودائمة بالمتغير الموضوعي، بحيث لم يترك النبي وبين يديه نص أولى أزلي واحد، يواجه به الواقع الذي لا يتوقف عن التغاير، ومن هنا استكملت الآيات إيضاحها في قولها:
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا (الفرقان: 32).
لقد تحولت النبوة عن نهج الإبهار بالإعجاز الساحر، فلم تأخذ بعصا سحرية تفعل الأعاجيب، ولا بتمتمات تحيي الموتى، وإنما أصحبت فرزا صادقا يتطابق مع واقعها الزمكاني، وهو ما جعل الوحي بالنسبة للنبي محمد
صلى الله عليه وسلم
يختلف عن الوحي الإيهامي والإلهامي. لقد تحول باليقين إلى الواقع ليتفاعل معه، يقرأ الواقع، ويجيب على أسئلته، ويساهم في حل إشكالياته، يرتبط بالأرض ومصالح ناسها ومطالبهم، بحسبان الناس وليس السماء هم هدفه الرئيسي؛ بحيث أصبح الناس المتغيرون بتغير أحداث الواقع عنصرا أساسيا في مجيء الوحي مفرقا
وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا (الإسراء: 106).
وإعمالا لما سبق، ولأن عمل د. نصر - بحساباتنا - عمل رائد لإعادة فتح البحث حول هذا الأمر، فقد رأينا دفع الموقف حول اللوحة الثلاثية، ليس تسليما بها ولا بمنهج الدكتور نصر في تعامله معها واعترافه بها، إنما لبيان الأسباب التي أدت إلى كل حالة من حالات تلك القسمة الثلاثية، أو بالأحرى، اختراعها اختراعا.
ما نسخت تلاوته وبقي حكمه
عن مالك بن أنس عن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، عما حدث في خلافة عمر، قال: « جلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن، قام فأثنى على الله بما هو أهل له ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فإني قائل مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن وعاها وعقلها فليحدث بها حيث انتهت راحلته، ومن لم يعها فلا أحل له أن يكذب على الله عز وجل، بعث الله محمدا
صلى الله عليه وسلم
بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها وعقلناها، رجم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف، ألا إنا كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم.»
1
وفي رواية عيينة عن الزهري: «وايم الله لولا أن يقول قائل: زاد عمر في كتاب الله، لكتبتها.» وعن يحيي عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب قال: «أيها الناس، قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتكم على الواضحة، ألا تضلوا بالناس، يمينا أو شمالا، وآية الرجم لا تضلوا عنها، فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد رجم ورجمنا، وإنها نزلت وقرأناها: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة، ولولا أن يقال: زاد عمر في كتاب الله، لكتبتها بيدي.» وفي رواية زر أن الآية كانت: «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، نكالا من الله والله عزيز حكيم.»
2
وعن أبي أمامة بن سهل، أن خالته قالت: «لقد أقرأنا رسول الله آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا اللذة.»
3
وروى الزهري عن عبد الله بن عباس قال: «خطبنا عمر بن الخطاب قال: كنا نقرأ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة ... قال: ولولا أني أكره أن يقال: زاد عمر في القرآن لزدته.»
4
لدينا هنا حالة واضحة جلية، لإحدى الحالات التي تم تصنيفها ضمن المنسوخ في القرآن الكريم، وتحديدا ضمن ما نسخ تلاوته وبقي حكمه، وقد أخذ جلال الدين السيوطي بتبرير لذلك الأمر يقول: «أجاب صاحب الفنون أن ذلك ليظهر مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس، بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام.»
5
وربما ذهب الفقهاء إلى أن الحالة الموجودة هنا «الشيخ والشيخة ... إلخ» من نوع ما نسخ تلاوته وبقي حكمه، استنادا إلى مقالة عمر بن الخطاب، وتواتر معنى الآية المنسوخة بين الرواة، وإن تبدل لفظها لقدم العهد ولعدم تدوينها في القرآن المجموع، وإلى كون حكم الرجم قد عمل به أيام الرسول
صلى الله عليه وسلم
ومن بعده.
لكن لدينا بالقرآن الكريم بشأن حكم الزنى الآيات:
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا * واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما (النساء: 15-16)، هذا إضافة لآية الجلد:
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة (النور: 2)، ومع ذلك، فقد ذهب العلماء إلى الاتفاق على نسخ حكم الآيات
واللاتي يأتين الفاحشة ...
رغم تدوينها في القرآن الكريم، واحتسبوها مما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، بينما أبقوا على حكم آيات غير موجودة في كتاب الله المجموع بين أيدينا (الشيخ والشيخة ...) باحتسابها مما نسخت تلاوته وبقي حكمه. فأثبتوا حكم الرجم - استنادا إلى أحاديث نبوية تدخل في أصول الفقه فيما يذهبون - وذلك بالنسبة لمن يحصن، مع إثبات حكم الجلد لمن لم يحصن. ويجمل أبو جعفر النحاس موقف العلماء بهذا الشأن في قوله: «فمنهم من قال: كان حكم الزاني والزانية إذا زنيا وكان ثيبين أو بكرين، أن يحبس كل واحد منهما في بيت حتى يموت، ثم نسخ هذا بالآية الأخرى وهي:
واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ، فصار حكمها أن يؤذيا بالسب والتعيير، ثم نسخ ذلك فصار حكم البكر من الرجال والنساء أن يجلد مائة ويرجم حتى يموت ... والقول الثاني: إنه إذا كان حكم الزاني والزانية إذا زنيا أن يحبسا حتى يموتا، وحكم البكرين يؤذيا ... والقول الثالث: أن يكون عز وجل قال:
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ، عاما لكل من زنت من ثيب وبكر، وهذا قول مجاهد، وهو مروي عن ابن عباس، وهو أصح الأقوال.»
6
وإذا كان القول الثالث عند النحاس هو أصح الأقوال، وهو بالفعل الأرجح في منطوق الآيات
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ،
واللذان يأتيانها منكم ، فقد كان يعني أن الآيات جعلت للزناة من الرجال حكما يختلف عن حكم الزناة من النساء، ثم لما كانت آية الرجم، انتهى الأمر في بعض الأحيان إلى محاولة تطبيق الحدود على اختلافها، في محاولة لتحاشي الإثم في التطبيق. وربما كان ذلك ما دفع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لجلد سراحة مائة، ثم رجمها بعد جلدها، وتعقيبه التبريري: «جلدتها بكتاب الله عز وجل، ورجمتها بسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم .»
7
هذا بينما ذهب جماعة العلماء إلى أن حكم الثيب الزانية الرجم بلا جلد، واحتجوا بأن الجلد منسوخ عن المحصن بالرجم،
8
وهذا بدوره يستند إلى السنة في قول ابن عباس: «قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لماعز بن مالك: أحق ما بلغني أنك وقعت على جارية بني فلان؟ قال: نعم، فشهد أربع شهادات، ثم أمر به فرجم.»
9
كذلك قوله
صلى الله عليه وسلم : «اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت بالزنا فارجمها.» ولم يذكر الجلد، فدل ذلك على نسخه، فيما يذهب إليه قول أبي جعفر النحاس.
10
وتبقى محاولة فهم ما فرضه واقع الحال بشأن نسخ تلاوة «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ... إلخ»، لكن مع بقاء حكم الرجم قائما، دون سند في آيات القرآن المجموع بين أيدينا، والأسباب التي دعت إلى وضع باب للنسخ عرف ب «ما نسخ تلاوته وبقي حكمه»، لإدراجها ضمنه. والمعلوم أنه إذا نسخت آية من الآيات الكريمة، كان لا بد من آية أخرى بديلة تحل محلها، تحمل الحكم الجديد، وذلك حسب نص الآيات و
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها . والمعلوم أيضا أن لدينا في آيات القرآن الكريم الحكم المذكور في الآيات
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ...
وحكمها الحبس للنساء حتى الموت، أو حتى يجعل الله للمحكوم عليه فرجا، والإيذاء بالسب والتعيير للرجال، وذلك حسب التقديرات المرجحة لقراءة الآيات. ثم لدينا الآية
الزانية والزاني ...
وحكمها الجلد مائة جلدة، لكن وضع باب «ما نسخ تلاوته وبقي حكمه» أبقى آية الرجم قائمة بحكمها، بحيث أصبحت ناسخة لحكم الحبس والإيذاء، واستمرت إلى جوار حكم الجلد، وانتهى الأمر إلى تصنيف آية الرجم للمحصن، وآية الجلد لغير المحصن.
وقد قدم السيوطي تفسيرا لنسخ تلاوة آية الرجم بقوله: «... إن سبب التخفيف على الأمة بعدم اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف - وإن كان حكمها باقيا - لأنه أثقل الأحكام وأشدها، وأغلظ الحدود.»
11
وعليه فالسيوطي يطرح تأويله لنسخ التلاوة لأن الحكم في الآية هو أشد الأحكام وحكمها أغلظ الحدود، لكن الغريب أنه يقول ما قال سلفه من العلماء وهو «أن حكمها باق»؟ فإذا كانت العبرة من النسخ هي غلظ الحد وقسوته أفلا يكون نسخ الحكم بدوره هو الأكثر منطقية؟
ثم شذرة أخرى تشير إلى دور الواقع فيما حدث بشأن آية الرجم، تقول إن أبي بن كعب وقف يذكر عمر بن الخطاب بما حدث بشأن آية الرجم، التي أصر عمر على استمرار العمل بحكمها بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فيقول له: «أليس أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله
صلى الله عليه وسلم (أي أستأذنه في كتابتها)، فدفعت في صدري وقلت: تستقرئه آية الرجم، وهم يتسافدون تسافد الحمر.»
12
هذا بينما أوضح ابن حجر ما ليس فيه لبس بقوله: «وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها، وهو الاختلاف.» مع ملاحظة استخدام ابن حجر اصطلاح «رفع» بدلا من «نسخ»، مما يشير إلى حيرته بشأن القول الدقيق في شأنها، ومدى دقة تطابقها مع اصطلاح «نسخ». أما ابن الحصار فقد وقف يتساءل دهشا إزاء القول بنسخها مع الاستمرار في العمل بحكمها، مع وجود آيات أخرى يمكن احتسابها ناسخة لها، لكنها لم تحتسب كذلك، فيقول: «كيف يقع النسخ إلى غير بدل، وقد قال تعالى:
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ؟!»
13
والغريب أن عمر بن الخطاب ذاته، قد قال بشأن آية الرجم: «لما نزلت أتيت النبي
صلى الله عليه وسلم
فقلت: أكتبها؟ فكأنه كره ذلك! فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم؟!» وهي ذات الحجة التي ساقها بعد ذلك زيد بن ثابت، الذي كتب المصحف المجموع بأمر الخليفة عثمان بن عفان، عندما سأله مروان بن الحكم: «ألا تكتبها في المصحف؟ قال: ألا ترى أن الشابين الثيبين لا يرجمان.»
14
ومن هذه الإشارات، نرى ابن حجر عندما يستخدم اصطلاح «رفع» بدلا من «نسخ»، يشير إلى عدم قناعته بأن اختفاء آية الرجم من القرآن الكريم، لا يعني تصنيفها ضمن المنسوخ. فاستخدم اصطلاح «رفع»، إزاء وقائع تقول إنها لم تكتب أصلا حتى في زمن المصطفى
صلى الله عليه وسلم ، فقد كره أن يسمح لعمر بكتابتها، كما في قول عمر، وأن عمر كان من أول المعترضين على تدوينها، فدفع في صدر أبي بن كعب، مشيرا إلى تفشي التسافد بين الناس كتسافد الحمر، والمرجح أن كتابتها كانت تعني ابتعاد الناس وهم على تلك الحال عن الإسلام، لشدة الحكم وغلظته. ومن ثم كان لتلك الظروف والحجج دور واضح لعدم وجود أي تدوين لآية «الشيخ والشيخة إذا زنيا» في أي من الرقاع والصحف، بحيث ظلت غير مدونة حتى زمن التدوين العثماني، حيث استبعدها زيد بن ثابت بدوره كما في روايته مع مروان بن الحكم، فجاء المصحف العثماني خلوا منها. لكن الإصرار على العمل بحكمها، كان فيما يبدو، مدعاة لنشوء باب «ما نسخ تلاوته وبقي حكمه» لتندرج ضمنه، وبذلك لم يعد حكم الجلد بديلا لحكمها، وبحيث بدا الأمر غير منطقي في رأي ابن الحصار. هذا بينما وقف د. نصر أبو زيد يلح في التنبيه على أن «المهم في تحديد الناسخ من المنسوخ، هو ترتيب النزول لا ترتيب التلاوة في المصحف. ومعنى ذلك أن تحديد الناسخ من المنسوخ في آيات القرآن يعتمد أساسا على معرفة تاريخية دقيقة بأسباب النزول، وبترتيب نزول الآيات.»
15
أي أن المعتبر هو تاريخية النص في علاقته الزمنية المتحركة، بحركة الواقع المتحول دوما.
وللمطالع أن يلحظ أن عمر بن الخطاب، صاحب الخطاب الأشهر في الإصرار على العمل بحكم آية غير موجودة في المصحف، ولم تكتب أصلا، كان هو صاحب حجتين في عدم كتابتها؛ الحجة الأولى واقع الناس وهم يتسافدون تسافد الحمر، والثانية موقف الشاب المحصن والشيخ غير المحصن من تطبيق حد الزنى. أما الأمر الأوضح دلالة فهو فيما ورد بلفظ القاضي أحمد الشهير بابن خلكان، في كتابه وفيات الأعيان، وهي رواية هامة توضح موقف عمر بن الخطاب بعد أن أصبح خليفة، من تطبيق حد الرجم على المغيرة بن شعبة. في رواية القاضي أحمد، التي يلخصها لنا الإمام شرف الدين الموسوي تحت عنوان درؤه الحد عن المغيرة بن شعبة: «وذلك حيث فعل المغيرة مع الإحصان، ما فعل مع أم جميل بنت عمرو، امرأة من قيس، في قضية من أشهر الوقائع التاريخية في تاريخ العرب، كانت سنة 17 للهجرة. لا يخلو منها كتاب اشتمل على حوادث تلك السنة، وقد شهد عليه بذلك كل من أبي بكرة وهو معدود من فضلاء الصحابة وحملة الآثار النبوية، ونافع بن الحارث وهو صحابي أيضا، وشبل بن معبد. وكانت شهادة هؤلاء الثلاثة صريحة، بأنهم رأوا المغيرة بن شعبة يولجه في أم جميل إيلاج الميل في المكحلة، لا يكنون ولا يحتشمون، ولما جاء الرابع وهو زياد بن سمية يشهد أفهمه الخليفة رغبته في ألا يخزى المغيرة، ثم سأله عما رآه فقال: رأيت مجلسا، وسمعت نفسا حثيثا وانتهازا ورأيته مستبطنها، فقال عمر: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟ فقال: لا، لكني رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تتردد ما بين فخذيها، ورأيت حفزا شديدا وسمعت نفسا عاليا، فقال عمر: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟ فقال: لا. فقال عمر: الله أكبر، قم يا مغيرة إليهم فاضربهم. فقام يقيم الحدود على الثلاثة.»
16
وهناك مرويات أخرى، بخصوص آيات أخرى، وموضوع آخر، تجد نفسك في حيرة من أمر تصنيفها، حسب اللوحة الثلاثية، فإن اعتمدت روايات بعينها صنفتها ضمن ما نسخ تلاوته وحكمه، وإن اعتمدت روايات أخرى صنفتها ضمن ما نسخ تلاوته وبقي حكمه، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى الخبط وسوء التقدير. وهو ما يتمثل في رواية السيدة عائشة - رضي الله عنها - حيث تقول: «كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي الرسول
صلى الله عليه وسلم
وهي مما يقرأ في القرآن.»
17
والأمر يعني تحديدا التحريم القائم على الرضاعة بعدد الرضعات، وهو من اللون الذي يصنفه السيوطي في باب «ما نسخ حكمه وتلاوته معا». رغم أنه لو أخذنا بحديث السيدة عائشة، وبالتصنيفات على اللوحة الثلاثية، لأدرجناه ضمن باب «ما نسخ تلاوته وبقي حكمه». ووجه الإشكال في تصنيفه أصلا ضمن المنسوخ، أيا كان نوعه، أن النسخ كان لا بد من وقوعه في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم
نفسه، بينما السيدة عائشة - رضي الله عنها - تؤكد أن الرسول قد توفي وتلك الآية مما يقرأ في القرآن، وهو ما دفع أبا موسى الأشعري إلى اللجوء لاصطلاح «رفعت» في قوله التأويلي إنها نزلت ثم رفعت.
18
أما حال بقية العلماء فيصوره لنا أبو جعفر النحاس بقوله: «فتنازع العلماء هذا الحديث ... فمنهم من تركه، وهو مالك بن أنس ... وقال رضعة واحدة تحرم ... وممن تركه أحمد بن حنبل وأبو ثور، قالا: يحرم ثلاث رضعات، لقول النبي
صلى الله عليه وسلم : لا تحرم المصة ولا المصتان.»
19
بينما أعلن مكي دهشته الكاملة في قوله: «هذا المقال فيه غير المنسوخ غير متلو، والناسخ أيضا غير متلو، ولا أعلم له نظيرا.»
20
ويؤكد العلماء أن السيدة عائشة - رضي الله عنها - ظلت على موقفها «... فقالوا: لم تزل عائشة تقول برضاع الكبير.»
21
وهو ما يتعلق بما جاء في صحيح مسلم بشرح النووي (ج1، ص29) وأورده ابن الجوزي، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «لقد نزلت آية الرجم ورضعات الكبير عشر، وكانت في ورقة تحت سرير بيتي، فلما اشتكى رسول الله
صلى الله عليه وسلم (مرض) تشاغلنا بأمره، فأكلتها ربيبة لنا (تعني الشاة) فتوفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهي مما يقرأ في القرآن.»
22
وهكذا فقد ساوت تلك الآية في التحريم من الرضاعة، بين الكبير والصغير، على أنها حددت بعدد معلوم من الرضعات. وممن أخذ بإصرار السيدة عائشة أبو موسى الأشعري والليث بن سعد.
23
وهو ما إن أخذناه على ظاهره، لأدرج ضمن «ما نسخ تلاوته وبقي حكمه»، أما لو نظرنا إلى ما حدث في الواقع، فيفسره قول السيدة عائشة، رضي الله عنها: «فأكلتها ربيبة كانت لنا.» أما لو ذهبنا إلى ترك حديثها، مع تصنيف الآية ضمن (ما نسخ حكمه وتلاوته) لبقيت أسئلة حيرى: هل تم ذلك النسخ قبل أن تأكلها الشاة؟ أم بعد أن أكلتها؟ أم أنها احتسبت منسوخة لأنها لم تكن في صحف القرآن المجموع لأن الشاة أكلتها؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد ظرف الواقع يجعل تلك الآية مستمرة في العمل بحكمها، رغم ما لحق بها من ظروف أدت لعدم وجودها بالمصحف المجموع، فقد كانت هناك إشكاليات تحتاج إلى حل تشريعي. وهو ما جاء نموذجا في قول السيدة عائشة، رضي الله عنها: «جاءت سهلة ابنة سهيل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقالت: إني أجد في وجه أبي حذيفة (زوجها، أي تجده مستاء) إذا دخل علي سالم، قال النبي
صلى الله عليه وسلم : فأرضعيه، قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ قال: ألست أعلم أنه رجل كبير؟ ثم جاءت بعد ثم قالت: والله يا رسول الله ما عدت أرى في وجه أبي حذيفة بعد شيئا أكرهه.» رواه مسلم وأبو داود.
24
وعليه فقد عملت السيدة عائشة بذات السبيل، فقال عروة: «إن عائشة كانت تأمر أختها أم كلثوم، وبنات أخيها، أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال.» رواه مالك. ويقول د. شعبان محمد إسماعيل: «وحجتهم حديث سهلة هذا، وهو حديث صحيح لا شك في صحته، ويدل عليه أيضا قوله تعالى:
وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة . فإنه غير مقيد بوقت.»
25
والأمر بذلك يدل على ضرورة، فرضها استفتاء المؤمنين لأم المؤمنين في شئون دينهم، فكان لقاؤها بالرجال مشروطا بذي محرم، وهي الإشكالية الموضوعية التي وجدت حلها في القول برضاع الكبير، والاستمرار في العمل به، وإصرار السيدة عائشة - رضي الله عنها - عليه. وهكذا يكون وضع آية رضاع الكبير هو ذات وضع آية رجم الشيخ ولا وجود لهما في كتاب الله الكريم، ليس لأنهما نسختا، وإنما لأن الأولى أكلتها الشاة بينما الثانية، لم تكتب أصلا، والظرف الموضوعي شاهد، ويشير إلى أن وضع باب في النسخ بعنوان «ما نسخ تلاوته وبقي حكمه» من باب التأويل بغير سند، اللهم إلا الخلط مرة مع السنة باحتسابها من عوامل النسخ، ومرة للعمل ببعض عمل عمر وليس كله، ومرة للأخذ بحديث زوجات دون زوجات من أمهات المؤمنين. أما الأساس فهو العمل وفق حوار النص ونفسه وليس حواره مع الواقع، بينما يمكن للواقع أن يكون فاصلا تماما في هذا الشأن، وهو ما نسعى إلى التنبيه إليه، ونلح في طلبه. والملاحظ في الحالتين المعروضتين هنا تعلقهما بشرائع، وبشأن الشرائع ونسخها في كتاب الله العزيز بوجه عام لحظ الإمام الزمخشري أمرا له قيمة، حيث يقول: «والله تعالى ينسخ الشرائع لأنها مصالح، وما كان مصلحة أمس، يجوز أن يكون مفسدة اليوم، وخلافه مصالح ... وكانوا يقولون: إن محمدا يسخر من أصحابه، يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا، فيأتيهم بما هو أهون، ولقد افتروا. فقد كان ينسخ الأشق بالأهون، والأهون بالأشق والأشق بالأشق والأهون بالأهون، لأن الغرض المصلحة، لا الهوان والمشقة ... إن التبديل من باب المصالح كالتنزيل، وإن ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة.»
26
وقد ذهب ذات المذهب في التأكيد على عامل (المصلحة) في النسخ، الإمام الألوسي، لكنه مال إلى رأي من قالوا: إن التبديل يأتي بالأهون، بعد أن قدم له المبررات، وذلك من قوله: إن الناسخ في تلك الحال «... لا بد أن يكون مشتملا على مصلحة خلا منها الحكم السابق، لما أن الأحكام إنما تنوعت للمصالح، وتبدلها منوط بتبديلها حسب الأوقات، فيكون الناسخ خيرا منه في النفع، سواء كان خيرا منه في الثواب أو مثلا له، أو لا ثواب فيه أصلا ... والحاصل أن المماثلة في النفع لا تتصور، لأنه على تبديل الحكم تبتدل المصلحة، فيكون خيرا منه، وعلى تقدير عدم تبدله، فالمصلحة الأولى باقية على حالها.»
27
وإذا كنا قد قلنا من قبل إن الآيتين (الرجم، ورضاعة الكبير)، ربما لم تكونا من قبيل المنسوخ، فإنما نقصد بالمنسوخ المتعارف عليه اصطلاحا بشروط بعينها، وإن كان ينسحب عليها اجتهاد الزمخشري والألوسي، فالأولى لم تكتب والثانية أكلتها الشاة، بتقدير حساب المصالح، والمنافع، والزمن (حسب الأوقات). وإن كان ذلك لا يعني رفضنا للقول بالنسخ في القرآن الكريم، لأن مثل ذلك القول يئول إلى الكفر والعياذ بالله، ونحن على نعمة الإيمان حريصون، ولا يمكننا أن نفرط فيها. فقط نضع اجتهادا من باب محاولة الفهم، ربما أصاب وربما أخطأ، والمناط في الأمر جميعه صدق النوايا وسلامة الإيمان وهو ما نحمد الله عليه حمدا كثيرا.
ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته
يقول د. محمد علي الصغير: «إن الوحي قام يجابه الفضوليين على الرسول
صلى الله عليه وسلم
الذين كانوا يأخذون عليه راحته، ويزاحمونه وهو في رحاب بيته بين أفراد عائلته وزوجاته، فينادونه باسمه المجرد، ويطلبون لقاءه دون موعد مسبق ...
إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون .» وهو بذلك إنما يشير إلى تغير الواقع وتبدله، بعد أن هاجر المصطفى
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى المدينة، وبعد أن مر زمان استتبت فيه الأركان للدعوة وصاحبها، وأصبح هناك أصول وبروتوكول يجب اتباعه في التعامل مع النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولم يعقلها ويعها أولئك الذين ظلوا يتصورون بالإمكان مناداته من خارج بيته «يا محمد». ويتابع د. الصغير القول: «واستأثر البعض ... بوقت القائد، فكانت الثرثرة والهذر وكان التساؤل والتنطع، دون تقدير لملكية هذا الوقت، وعائدية هذه الشخصية، فحد القرآن من هذه الظاهرة ... وعالجها بوجوب دفع ضريبة مالية تسبق هذا التساؤل أو ذلك الخطاب، فكانت آية النجوى:
يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم (المجادلة: 12) ... فامتنع الأكثرون عن النجوى، وتصدق من تصدق، فسأل ووعى وعلم وانتظم المناخ العقلي ... ولما وعت الجماعة الإسلامية مغزى الآية ... نسخ حكمها ورفع، وخفف الله عن المسلمين بعد شدة ... في آية النسخ:
أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون (المجادلة: 13).»
1
والحالة التي بين أيدينا هنا واقع حي يتحدث ويفعل، فيتفاعل معه الوحي منفعلا وفاعلا، ويتهرب المتسائلون من لقاء النبي إشفاقا من نفقات يدفعونها ضرائب للسؤال والتعلم، فيعود الوحي يجمعهم مرة أخرى، مسقطا عنهم ضريبة العلم، مبقيا على الصلاة والزكاة، مع شرط طاعة الرسول
صلى الله عليه وسلم . وهكذا نجد آية النجوى وقد نسخ حكمها بآية ناسخة، بينما بقيت التلاوة قائمة في القرآن الكريم غير منسوخة. وفي تفسير الخازن أمثلة أخرى لهذا الوجه من وجوه النسخ، حيث يقول: «وهو كثير في القرآن، مثل آية الوصية للأقربين نسخت بآية الميراث عند الشافعي، وبالسنة عند غيره. وآية عدة الوفاة بالحول نسخت بآية
أربعة أشهر وعشرا . وآية القتال:
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين
نسخت بقوله تعالى:
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ، ومثل هذا كثير.»
2
وقال ابن العربي: «كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار والتولي والإعراض والكف عنهم منسوخ بآية السيف، وهي:
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ، الآية نسخت مائة وأربعا وعشرين آية.»
3
لكن السيوطي يشير إلى إشكالية ضمن إشكاليات تثور في نسخ آية السيف لآيات الصفح والتولي والإعراض في قوله: «قال تعالى:
أليس الله بأحكم الحاكمين ، قيل إنها مما نسخ بآية السيف وليس كذلك ؛ لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا، لا يقبل هذا الكلام النسخ، وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة.»
4
والمعلوم أنه عندما جمع المصحف زمن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - تم جمع كثير من الآيات المنسوخة إلى جوار الآيات الناسخة، وهذا هو الواقع الذي فرض إنشاء باب في النسخ بعنوان «ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته»، وهو الواقع الذي أدى إلى ظهور كثير من الآيات بمظهر التضارب والتناقض، وليس الأمر كذلك، إنما الأمر يعود إلى واقع حدث الجمع؛ فالقرآن الكريم لا يحمل تناقضا ولا تضاربا، ومثالا لحالات التناقض الظاهري أمثلة نسوقها في عدة نماذج:
النموذج الأول:
الآيات المتعلقة بالكتب السماوية السابقة على كتاب الله العزيز:
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله (المائدة: 43).
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور (المائدة: 44).
وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه (المائدة: 47).
الإنجيل فيه هدى ونور (المائدة: 46).
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب (المائدة: 48).
وهي الآيات التي يقابلها آيات أخرى تقول:
من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه (النساء: 46).
يحرفون الكلم عن مواضعه (المائدة: 13).
وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه (البقرة: 75).
النموذج الثاني:
الآيات المتعلقة بأصحاب الديانات الكتابية:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة: 62).
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن (العنكبوت: 46).
وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة (الحديد: 27).
وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة (آل عمران: 55).
وهي الآيات التي يقابلها آيات تقول:
إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران: 19).
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (آل عمران: 85).
النموذج الثالث:
الآيات المتعلقة بالمدى المسموح به من الحرية الدينية:
لكم دينكم ولي دين (الكافرون: 6).
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (يونس: 99).
لا إكراه في الدين (البقرة: 256).
وهي الآيات التي يقابلها:
أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها (آل عمران: 83).
النموذج الرابع:
الآيات المتعلقة بالموقف من المشركين:
وإن تولوا فإنما عليك البلاغ (آل عمران: 20).
إن أنت إلا نذير (فاطر: 23).
إنما أنت نذير (هود: 12).
فأعرض عنهم وعظهم (النساء: 63).
فأعرض عنهم وتوكل على الله (النساء: 81).
فاعف عنهم واصفح (المائدة: 13).
عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم (المائدة: 105).
وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل (الأنعام: 107).
لست عليهم بمسيطر (الغاشية: 22).
وما أرسلناك عليهم وكيلا (الإسراء: 54).
واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (المزمل: 10).
فاصبر صبرا جميلا (المعارج: 5).
فاصبر على ما يقولون (طه: 130).
فاصفح الصفح الجميل (الحجر: 85).
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (الأعراف: 199).
ادفع بالتي هي أحسن (فصلت: 34).
فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (الرعد: 40).
هذا بينما نجد آيات لا ترجئ الحساب ليوم القيامة، إنما تضعه بيد الجيش الإسلامي، وتأمر بقتال من لم يسلم، ونموذجا لهذه الآيات:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله (التوبة: 29).
واقتلوهم حيث ثقفتموهم (النساء: 91).
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق (محمد: 4).
فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم (النساء: 89).
فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان (الأنفال: 12).
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله (الأنفال: 39).
وهكذا نجد على الطرفين آيات مثل:
وإن تولوا فإنما عليك البلاغ (آل عمران: 20).
فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم (النساء: 86).
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها (الأنفال: 61).
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون (محمد: 35).
ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه (البقرة: 191).
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (التوبة: 5).
ومن ثم بات واضحا أن جمع الآيات المنسوخة إلى جوار الآيات الناسخة، أنشأ نوعا من التضارب الظاهري في الآيات، جل الله تعالى عن ذلك. وقد ذهب العلماء في تعليل ذلك إلى القول بأن بقاء المنسوخ هو من قسم المنسأ، وهو ما يقول فيه السيوطي: «فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى ... بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة تقتضي ذلك الحكم، بل ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله، وقال مكي: ذكر جماعة: أن ما ورد من الخطاب مشعرا بالتوقيت والغاية، مثل قوله في البقرة:
فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ، محكم غير منسوخ؛ لأنه مؤجل بأجل.»
5
وهكذا، وتأسيسا على الأخذ بمبدأ أزلية الوحي، أرجع الأمر لباب جديد هو باب المنسأ، بينما الآية التي يوردها السيوطي
فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره
تشير إلى الظرف الموضوعي الذي تجادل معه الوحي وتفاعل. مما أدى لتغير موقف الوحي وتبدله مع تغير وتبدل ذلك الظرف وما يطرأ فيه من تحولات. فالمعلوم أن موقف الإسلام من المسيحية، كان في البداية موقفا مهادنا متسامحا يؤكد حرية الاعتقاد، وأن في الإنجيل هدى ونورا، وأن القرآن جاء يصادق على ما سبق وورد فيه، وأن الله رفع أصحابه فوق الكافرين إلى يوم القيامة. لأسباب ظرفية واضحة في حاجة المسلمين إلى دار هجرة لدى نجاشي الحبشة المسيحية، وحيث رددت شفاه المسلمين هناك الآيات عن المسيح وأمه، فكان أن أحسن استقبالهم ووصلهم بالود والرحمة.
كذلك الحال في الموقف من اليهودية واليهود، فقد كانت يثرب دار هجرة للمسلمين، بينما كانت معقلا كبيرا ليهود الجزيرة، وكانت «المصلحة» والحكمة تستدعي أن تسبق المسلمين، المهاجرين إلى يثرب، آيات تردد ذكر أنبياء بني إسرائيل، وقصص العهد القديم، والقرار بأن الله فضلهم على العالمين، وأن توراتهم فيها هدى ونور، وعليهم الحكم بما جاء فيها. وكان أول عمل سياسي هام قام به المصطفى
صلى الله عليه وسلم
عند وصوله يثرب هو عقد الصحيفة التي كفلت حرية الاعتقاد لأهل المدينة جميعا.
ولكن الظرف لم يستمر على حاله، مما أدى إلى إلغاء الصوم العبري واستبداله بصوم رمضان العربي، كما ألغيت قبلة بيت المقدس واستبدلت بكعبة مكة، ثم أخذ كل من النبي
صلى الله عليه وسلم
واليهود يكتشفون اختلاف توجهاتهم، ثم يكتشفون اختلافات عميقة، بين ما بين يدي اليهود من التوراة وبين ما يتلوه رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وهنا اتخذ الأمر وجهة أخرى، خاصة بعد غزوة بدر الكبرى، التي مكنت المسلمين من العتاد والسلاح والقوة المادية والمعنوية. حيث يكشف لنا الوحي أن سبب اختلاف القرآن عن التوراة في كثير من التفاصيل، إنما يرجع إلى قيام اليهود بتحريف التوراة الأصلية، ومن هنا حق قتالهم لتبديلهم آيات الله، ومن ثم نقض الصحيفة وإبطال الحرية الدينية، وجاء الأمر:
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ، بعد أن أصبح:
الدين عند الله الإسلام .
وكان الموقف نفس الموقف من المسيحية اليعقوبية بعد انتفاء الحاجة للحبشة ونجاشيها، وكان لا بد أن يقول الوحي كلمته إزاء العقائد المسيحية. وهو الأمر الذي ينطبق على الموقف من أهل مكة، حيث بدأت الآيات الحكيمة في مكة زاخرة بما يلائم حال الضعف التي كان عليها المسلمون وسط أكثرية معادية، فقررت حرية الاعتقاد، وأنه لا إكراه في الدين، والأمر موكول إلى الله يوم القيامة. أما بعد الهجرة من مكة إلى المدينة، وبعد وقعة بدر الكبرى، والتحول من حال الضعف إلى حال القوة، أتت الآيات الناسخة تبطل حرية الاعتقاد، وتأمر بقتال غير المسلمين وقتلهم. وهو الأمر الذي لحظه الإمام السيوطي وجلة الأجلاء من العلماء، لكنهم أدرجوه في باب المنسأ وهو ما عبرت عنه الآيات بجلاء:
فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره .
ما نسخ تلاوته وحكمه
عن الزهري قال: «أخبرني أبو أمامة ... أن رهطا من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
قد أخبروه أن رجلا منهم قام في جوف الليل، يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها، فلم يقدر على شيء منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فأتى النبي
صلى الله عليه وسلم
حين أصبح، يسأل النبي عن ذلك. وجاء آخر وآخر حتى اجتمعوا، فسأل بعضهم بعضا ما جمعهم، فأخبر بعضهم بعضا بشأن تلك السورة، ثم أذن لهم النبي
صلى الله عليه وسلم
فأخبروه خبرهم وسألوه عن السورة، فسكت ساعة لا يرجع إليهم شيئا، ثم قال: نسخت البارحة.»
1
وقد عقب أبو بكر الرازي على باب «ما نسخ تلاوته وحكمه» بالقول: «إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتابته في المصحف، فيندرس مع الأيام.»
2
وقد وضع ضمن هذا الباب عددا من الروايات حول عدد من الآيات التي كانت معروفة زمن النبي، لكنها لم توجد بالقرآن الكريم، لكن مع تعللات أخرى تشير إلى أحداث في الواقع، أدت إلى اختفاء مثل تلك الآيات. ومن تلك الروايات ما جاء عن شريك بن عاصم عن زر، فمن قوله: «قال لي أبي بن كعب: كيف تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت: سبعين أو إحدى وسبعين آية، قال: والذي أحلف به، لقد نزلت على محمد
صلى الله عليه وسلم
وإنها لتعادل البقرة أو تزيد عليها - انظر التهذيب ج10، ص42-44.»
3
وعن عمر قال: ليقولن أحدكم: قد أخذت القرآن كله، وما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر ... وعن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي حتى مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا على ما هو الآن ... وعن أبي أمامة ابن سهل أن خالته، قالت: لقد أقرأنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة. وقال حدثنا حجاج بن جريح، أخبرني أن أبي حميدة عن حميدة بنت يونس قالت: قرأ علي أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة: «إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسلميا»، وعلى الذين يصلون في الصفوف الأولى، قالت: قبل أن يغير عثمان المصحف ... وعن أبي سفيان الكلاعي أن مسلمة بن مخلد قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتين من القرآن لم تكتبا في المصحف فلم يخبروه، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال ابن مسلمة: «إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم»، ألا أبشروا أنتم المفلحون، والذين آووه ونصروه وجادلوا عنه القوم الذين غضب عليهم، أولئك لا «تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ».
4
هذا ويورد السيوطي: «عن عدي بن عدي قال عمر: كنا نقرأ: «ألا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم»، ثم قال لزيد بن ثابت: أكذلك؟ قال: نعم ... وقال عمر لعبد الرحمن بن عوف ألم تجد فيما أنزل علينا: «أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة» فإنا لا نجدها، قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن.»
5
كما روى «مسلم» في إفراده عن عائشة - رضي الله عنها - أنها أملت على كاتبها: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين» (بشرح النووي ج5، ص129-130).
والإشارات من جانب السيدة عائشة إلى دور الجمع في عهد الخليفة عثمان فيما حدث تعود بلا شك إلى كون عثمان قد حمل الناس على مصحف واحد، ثم حظر ما عداه، بل وحسم الأمر فحرق ما عداه من صحف قرآنية. وقد عقب د. طه حسين على ذلك بقوله: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: نزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف، وعثمان حين حظر ما حظر من القرآن، وحرق ما حرق من الصحف، إنما حظر نصوصا أنزلها الله وحرق صحفا كانت تشتمل على قرآن أخذه المسلمون عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وما كان ينبغي للإمام أن يلغي من القرآن حرفا أو يحذف نصا من نصوصه. وقد كلف كتابة المصحف نفرا قليلا من أصحاب النبي، وترك جماعة القراء الذين سمعوا من النبي وحفظوا عنه، وجعل إليهم كتابة المصحف، ومن هنا نفهم سر غضب ابن مسعود، فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن، وهو فيما يقول قد أخذ من فم النبي
صلى الله عليه وسلم
سبعين سورة من القرآن، ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد. ولما قام ابن مسعود يعترض الأمر، رافضا تحريق صحف القرآن أخرجه عثمان من المسجد إخراجا عنيفا، وضربت به الأرض فدقت ضلعه.
6
وبعد، فإن ما قدمناه هنا على عجالة، ليس دفاعا عن كتاب الله الكريم، فالكتاب متكامل بذاته، مستغن عن مثل ذلك الدفاع، وليس دفاعا عن عقيدة أو دعوة، فقد بلغ الإسلام تكامله واستقراره في حياة صاحب الدعوة
صلى الله عليه وسلم ، وهو الأمر الذي لا يخشى معه عرض مسألة من المسائل التي تشغل بال المسلم. ومن ثم فقد حاولنا إبراز شذرات قليلة في الروايات، تشير إلى ارتباط الوحي بواقعه أثبتها الكتابان السالفان في هذا المجلد، اللذان ربطا الوحي بكل حادثة موضوعية كانت تحدث في واقع زمن الدعوة. وكانت محاولتنا بالأساس محاولة لفهم ظاهرة النسخ، مستندة إلى اعتبار الواقع مقياسا لفهم حركة النص المرتبط به، فينفعل به، ويفعل فيه، من أجل مصالح ومنافع وغايات أعم في فضلها، وحسبي هنا إخلاصي النية في الجهد للفهم. وهو الجهد الذي ربما أصاب ذلك غاية المراد، وربما أخطأ ولا جناح هنا من الطموح إلى ثواب الأجر الواحد، وربما كان جهد المحاولة بين الصواب والخطأ، وربما ألمح إلى طريق حان ولوجه، بكفاءة المقتدرين عنا من متخصصين، وربما كان كل الجهد بلا طائل لسقوطه في أخطاء غابت عنا. لكن اليقين الذي نعيه تماما ونعتقده ولا نحيد عنه، هو تكامل الوحي وتفاعله التاريخي العظيم مع واقعه، فلم يدخله باطل ولا زيف، ذلك الوحي الكريم الذي جمعته صفحات القرآن الكريم، ووصفه الله عز وجل بأنه:
كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (هود: 1).
المصادر
(1)
القرآن الكريم
الكتب المقدسة (2)
الكتاب المقدس (3)
القاموس المحيط
المعاجم (4)
لسان العرب (5)
المنجد (6)
البخاري
كتب الحديث الشريف (7)
أبو داود (8)
الترمذي (9)
مسلم
أ (1)
ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ليدن، بريل، 1886م. (2)
ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1965م. (3)
ابن آدم: كتاب الخراج، دار المعرفة، بيروت، 1979م، ص42. (4)
الأصفهاني: الأغاني، دار الكتب المصرية، القاهرة، د.ت. (5)
الأصفهاني: الأغاني، المكتبة الحيدرية، النجف، ط2، د.ت.
1 (6)
الألوسي: روح المعاني، ج12، ص 353. (7)
أمين (أحمد): فجر الإسلام، مكتبة النهضة العربية، ط14، القاهرة، 1987م.
ب (8) (البجاوي) محمد، ومحمد أبو الفضل: أيام العرب في الإسلام، دار الحداثة، بيروت، 1983م. (9)
البغدادي: خزانة الأدب، تحقيق عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي، 1967م. (10)
البلاذري: أنساب الأشراف، تحقيق محمد حميد الله، دار المعارف، القاهرة، د.ت. (11)
البيهقي: دلائل النبوة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية ، بيروت، 1988م. (12)
البيهقي: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، توثيق د. عبد المعطي قلعجي، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1988م.
ت (13)
ابن تيمية: اقتضاء السراط المستقيم، دار المعرفة، بيروت. د.ت.
ث (14)
ثعلب: شرح ديوان زهير، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1964م. (15)
الثعلبي النيسابوري: قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس، المكتبة الثقافية، بيروت، د.ت.
ج (16)
الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، 1948م. (17)
الجاحظ: الرسائل: جمع ونشر حسن السندوبي، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1933م. (18)
ابن الجوزي: تلبيس إبليس، تصحيح محمد منير الدمشقي، المطبعة المنيرية. (19)
ابن الجوزي (جمال الدين): نواسخ القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985م.
ح (20)
ابن حبيب: المحبر، تحقيق د. إيلزة شتينر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، د.ت. (21)
ابن حبيب: المحبر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، د.ت. (22)
ابن حبيب: المنمق في أخبار قريش، تحقيق خورشد أحمد فاروق، دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، الهند، ط، 1964م. (23)
حسين (د. طه): الفتنة الكبرى، دار المعارف، ط1. (24)
الحلبي: السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون إنسان العيون، دار المعرفة. (25)
حميد الله (محمد): مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، دار النفائس، بيروت، ط5، 1985م. (26)
ابن حنبل: كتاب الزهد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978م. (27)
الحوت (محمود سليم) في طريق الميثولوجيا عند العرب، دار النهار، بيروت، ط2، 1989م.
خ (28)
الخازن: لباب التأويل في معاني التنزيل، ج1، ص94. (29)
ابن خلدون: المقدمة، دار الشعب، القاهرة، د.ت. (30)
خليل (خليل أحمد) مضمون الأسطورة في الفكر العربي، دار الطليعة، بيروت، 1977م. (31)
ابن خياط (خليفة): الطبقات، تحقيق أكرم العمري، مطبعة العاني، بغداد، ط1، 1967م.
د (32)
دلو (برهان الدين): مساهمة في إعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي، الفارابي، بيروت، 1985م. (33)
الدياربكري: تاريخ الخميس، مؤسسة شعبان للنشر، بيروت، د.ت. (34)
الدينوري: الأخبار الطوال، تحقيق عبد المنعم عامر، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة، ط1، 1960م.
ز (35)
الزبيدي: تاج العروس، القاهرة، 1306ه. (36)
زيعود (د. علي): قطاع البطولة والنرجسية في الذات العربية، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1982م.
س (37)
سالم (د. سالم عبد العزيز): دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار النهضة، بيروت، 1970م. (38)
ابن سعد: الطبقات الكبرى، دار التحرير للطباعة والنشر، القاهرة، د.ت. (39)
ابن سعد: الطبقات الكبير، طبعة لندن، 1932م. (40)
السقاف (أبكار ): نحو آفاق أوسع، الأنجلو المصرية، القاهرة، د.ت. (41)
ابن سلام: الأموال، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب المصرية، القاهرة 1353ه. (42)
السهيلي: الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، دار المعرفة، بيروت، 1978م. (43)
السهيلي: الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، ضبط طه عبد الرءوف، دار المعرفة، 1978م. (44)
ابن سيد الناس: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1980م.
ش (45)
الشريف (أحمد إبراهيم): مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2، د.ت. (46)
د. شعبان محمد إسماعيل: مقدمة لكتاب النحاس (الناسخ والمنسوخ). (47)
شلبي (أحمد): السيرة النبوية العطرة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط12، 1987م. (48)
الشهرستاني: الملل والنحل: طبعة البابي الحلبي، تحقيق محمد سيد كيلاني، القاهرة، 1961، والمطبعة الأزهرية، القاهرة، 1951م. (49)
الشيباني: الاكتساب في الرزق المستطاب، تلخيص محمد بن سماحة، تحقيق محمد عرنوس، مطبعة الأنوار، القاهرة، 1938م. (50)
الشيباني: شرح كتاب السير الكبير، تحقيق صلاح الدين المنجد، معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية، القاهرة، 1972م. (51)
شيخو (الأب لويس) شعراء النصرانية، في الجاهلية، مكتبة الآداب، الحلمية الجديدة، القاهرة، 1982م.
ص (52)
صالح (أحمد عباس): الصراع بين اليمين واليسار في الإسلام، مجلة الكاتب، القاهرة، 24 نوفمبر 1964م.
ط (53)
الطائي (حاتم): ديوانه، تحقيق وشرح كرم البستاني، مكتبة صادر، بيروت، د.ت. (54)
الطبري: تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل، دار المعارف، القاهرة، ط2، د.ت. (55)
الطبري: تاريخ الرسل والملوك، دار المعارف، القاهرة، د.ت.
ع (56)
ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها، مكتبة المثنى، بغداد، د.ت. (57)
عبد الرحمن (عبد الهادي): جذور القوة الإسلامية، دار الطليعة، بيروت، 1988م. (58)
العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، مطبعة السعادة، القاهرة، 1323ه. (59)
العقاد (عباس محمود) إبراهيم أبو الأنبياء، دار الكتاب العربي، بيروت، 1967م. (60)
العقاد (عباس محمود) طوالع البعثة المحمدية، دار نهضة مصر. القاهرة، 1977م. (61)
علي (جواد): تاريخ العرب في الإسلام، دار الحرية، ط1، بيروت، 1983م. (62)
علي (جواد): المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الحرية، بيروت، ط1، 1983م. (63)
علي (جواد): المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، المجمع العلمي العراقي. بغداد، د.ت. (64)
علي حسن العريض: فتح المنان في تفسير القرآن، مطبعة الخانجي، القاهرة، د .ت. (65)
العمري (أحمد جمال) الشعراء الحنفاء، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1981م.
ق (66)
ابن قتيبة: الشعر والشعراء، دار الثقافة، بيروت، 1969م. (67)
ابن قتيبة: عيون الأخبار، دار الكتب العلمية، بيروت، ط، 1986م. (68)
القزويني (أحمد): فاجعة الطف، مطبعة الأهرام، كربلاء، ط9.
ك (69)
ابن كثير: البداية والنهاية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط4، 1988م. (70)
الكلبي: الأصنام، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 1924م.
م (71)
الماوردي: الأحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978م. (72)
د. محمد حسين الصغير: تاريخ القرآن، الدار العلمية، بيروت، 1983م. (73)
مدكور (د. إبراهيم بيومي): في الفلسفة الإسلامية. (74)
مروة (حسين): النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الفارابي، بيروت، ط6، 1988م. (75)
المسعودي: مروج الذهب، تحقيق محيي عبد الحميد، المكتبة الإسلامية، بيروت، د.ت. (76)
المقدسي: البدء والتاريخ، مكتبة المثنى، بغداد، 1916م. (77)
منقوش (ثريا) التوحيد يمان: التوحيد في تطوره التاريخي، دار الطليعة، بيروت، 1977م. (78)
الموسوي (عبد الحسين شرف الدين): النص والاجتهاد، مؤسسة الأعلمي، كربلاء، العراق، 1966م.
ن (79)
النحاس (أبو جعفر): الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، تحقيق د. شعبان محمد إسماعيل، مكتبة عالم الفكر، القاهرة، 1986م. (80)
د. نصر حامد أبو زيد: مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990م.
ه (81)
ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق طه عبد الرءوف، ومحمد محيي، شركة الطباعة الفنية المتحدة، القاهرة، 1974م. (82)
ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط2، 1955م. (83)
الهمداني: الإكليل، بغداد، 1931م.
و (84)
الواقدي: كتاب المغازي، تحقيق مرسدن جونز، منشورات جامعة أكسفورد، لندن، 1966م، وأيضا نشر مؤسسة الأعلامي، بيروت، د.ت.
ي (85)
اليعقوبي: التاريخ، المكتبة الحيدرية ، النجف، ط4، 1974م. (86)
أبو يوسف: الخراج، دار المعرفة، بيروت، 1979م.
صفحة غير معروفة