كتب أبو الفضل محمد بن أحمد بن الحسين بن العميد إلى أبي عبد الله الطبري: سألتني عمن شفني وجدي به، وشغفني حبي له، وزعمت أني لو شئت لذهلت عنه، واعتضت منه، زعمًا، لعمرو أبيك، ليس بمزعم، كيف أسلو عنه، وأنا أراه، وأنساه وهو لي تجاه، هيهات هو أغلب علي، وأقرب إلي، من أن يرخي لي عناني، أو أن يخليني واختياري، بعد اختلاطي بملكه، وانخراطي في سلكه، وبعد أن ناط حبه بقلبي نائط وشاطه بدمي شائط، فهو جار مجرى الروح في الأعضاء، متنسم تنسم روح الهواء، إن ذهبت عنه رجعت إليه، وإن هربت منه وقعت عليه، وما أحب السلو عنه مع هناته، ولا الخلو منه مع ملاته، وهذا على أني إن قابلني لم يهنني إقباله، وإن أعرض عني لم يطرقني خياله، يبعد علي مناله، ويقرب من غيري نواله، ويرد عيني خاسئة، ويدي خالية، وصله ينذر بصده، وقربه يؤذن ببعده، يدنو عندما ينزح، ويأسو مثلما يجرح، مخالته أحوال، وخلته خلال، وحكمه سجال والحسن في عوارفه والجمال في معاطفه والبهاء في فضوله وصفاته، والسناء من نعوته وسماته، اسمه مطابق لمعناه، وفحواه موافق لنجواه، يتشابه قطراه، وتتضارع حالات، من حيث تلقاه يستنير، ومن حيث تنساه يستدير.
وكتب إليه وصل كتابك فصادفني قريب عهد بانطلاق، من حيث عنت الوثاق، ووافقني مستريح الجوانح والأعضاء من حر الاشتياق، فإن الدهر جرى على حكمه المألوف في تحويل الأحوال، ورسمه المعروف في تبديل الأبدال، وأعتقني من مخالبك عتقًا لا تستحق معه ولاء، وابرأني من عهدة مودتك براءة لا تستوجب معها دركًا ولا استثناء، ونزع من عنقي ربقة الذل من إخائك، بيدي جفائك، ورش [على] ما كان يحتدم في ضميري من نيران الشوق ماء السلو، وشن على ما كان يتلهب في صدري من الوجد روح اليأس ومسح أعشار قلبي فلأم فطورها بجميل الصبر، وشعب أفلاذ كبدي فلاحم صدوعها بحسن العزاء، وتغلغل في مسالك أنفاسي، فعوضني من النزاع إليك نزوعًا عنك، ومن الذهاب فيك رجوعًا دونك، وكشف عن عيني ضبابات ما ألقاه الهوى على بصري، ورفع عنها غيابات ما سدله الشك دون نظري، حتى حدر النقاب عن صفحات طريقتك وسفر عن وجوه خليقتك، فلم أجد إلا منكرًا، ولم ألق إلا مستكبرًا، فوليت منهما فرارًا، وملئت منهما رعبًا، فاذهب فقد ألقيت على غاربك حبلك، ورددت إليك ذميمًا عهدك.
وفي فصل من هذه الرسالة: وأما عذرك الذي رمت بسطه فانقبض، وحاولت تمهيده وتقريره فاستوفز [وأعرض]، ورفعت بضبعه فانخفض، فقد ورد فلقيته بوجه من يؤثر قبوله على رده، وتزكيته على جرحه، فلم يف بما يذله لك عن نفسه، ولم يقم عند ظنك به، أنى؟ وقد غطى التذمم وجهه فلم يقدر على إيقافه، ومضى [يعثر] في فضول ما تغشاه من كذب حتى سقط، فقلنا: لليدين وللفم.
وقوله هذا محلول من عقود نظمه إذ يقول:
وسألتك العتبى فلم ترني لها ... أهلًا فجدت بعذرة شوهاء
وردت مموهة فلم يرفع لها ... طرف ولم ترزق من الإصغاء
وأعار منطقها التذمم سكتة ... فتراجعت تمشي على استحياء
لم تشف من كمد ولم تبرد على ... كبد ولم تمسح جوانب داء
سئل إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن المجيدين من المغنين فقال: من لطف معناه في اختلاسه، وتمكن في أنفاسه، وتفرع في أجناسه، فكاد يعلم ضمائر معاشرين، وشهوات مجالسيه، فقرع كل واحد منهم بالنوع الذي يطابق هواه، ويوافق معناه، فأطرب جميعهم، وأخذ بقلب كافتهم، حتى اتفقت عليه أهواؤهم، واجتمعت على تفضيله كلمتهم، والتأمت على مدحه ألسنتهم.
قال جعفر بن مهلهل: فحدثت بهذا الحديث إبراهيم بن المهدي وعجبته منه، فقال: أيجوز هذا عليك!.. ابن الموصلي في قدره وصناعته ومحله من الخلفاء قد علم أنه مسؤول عن هذا، فتقدم في إعداد الجواب.
وقال كشاجم:
وجارية مثل شمس النهار ... أو البدر إذ لاح بين الدراري
أتتك تميس بقد القضيب ... وترنو بعين مهاة القفار
وترفل في مصمت أبيض ... تلون من خدها جلناري
وتحمل عودًا فصيح اللسان ... يشارك أرواحنا في المجاري
له عنق كذراع الفتاة ... ودستانة بمكان السوار
فجارت عليه وجادت له ... بعسف اليمين ولطف اليسار
ولا أمهلته ولا نهنهته ... من الظهر حتى تقضى نهاري
1 / 28