وما كلُّ موصوفٍ له الحقُّ يهتدي ... ولا كلُّ من أمَّ الصُّوى يستبينها
وله يذم رجلًا بقوله:
وكمْ نعمةٍ آتاكها الله جزلةٍ ... مبرّأةٍ من كلِّ خلقٍ يذيمها
فسلطتَ أخلاقًا عليها ذميمةً ... تعاورنها حتى تفرَّى أديمها
ولوعًا وإشفاقًا ونطقًا من الخنا ... بعوراءَ يجري في الرجال نميمها
وكنتَ امرءًا لو شئت أن تبلغ المدى ... بلغت بأدنى نعمةٍ تستديمها
ولكنْ فطامَ النفسِ أثقلُ محملًا ... من الصخرة الصَّماء حين ترومها
وله في البرامكة:
إنَّ البرامكَ لا تنفكُ أنجيةً ... بصفحةِ الدِّين من نجواهم ندبُ
تخرمت حججٌ عشرٌ ومنصلهم ... مضرَّج بدمِ الإسلام مختضبُ
فيما بعد ما بين هذا وبين قول أبي جعفر، محمد بن مناذر الصبيري، مولى لبني صبير بن يربوع بن تميم فيهم:
أتانا بنو الأملاكِ من آل برمك ... فيا طيبَ أخبارٍ ويا حسن منظر
لهم رحلة في كلِّ عامٍ إلى العدا ... وأخرى إلى البيتِ العتيق المطهَّر
فتظلم بغدادٌ وتجلو لنا الدُّجى ... بمكّةَ وما حجُّوا ثلاثة أقمر
إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقتْ ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فما خلقت إلاّ لجودٍ أكفهم ... وأقدامهم إلاّ لأعوادِ منبر
إذا راض يحيى الأمر ذلَّت صعابهُ ... وحسبك من راعٍ له ومدبر
ترى الناس إجلالًا له كأنّهم ... غرانيقُ ماءٍ تحت بازٍ مصرصر
قال أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي: قال لي الرشيد: هل تعرف كلمات جامعات لمكارم الأخلاق، يقل لفظها، ويسهل حفظها، تكون لأغراضها لفقًا، ولمقاصدها وفقًا، تشرح المستبهم، وتوضح المستعجم، قلت: يا أمير المؤمنين، دخل أكثم بن صيفي حكيم العرب على بعض ملوكها فقال: إني سائلك عن أشياء ما تزال بصدري معتلجة، وما تزال الشكوك عليها والجة، فأنبئني عنها بما عندك منها، فقال أكثم، أبيت اللعن، سألت خبيرًا، واستنبأت بصيرًا، والجواب يشفعه الصواب، فسل عما بدا لك، قال: ما السؤدد؟ قال: اصطناع العشيرة، واحتمال الجريرة، قال: فما الشرف؟ قال: كف الأذى، وبذل الندى، قال: فما المجد؟ قال: حمل المغارم، وابتناء المكارم، قال؛ فما الكرم؟ قال: صدق الإخاء، في الشدة والرخاء، قال: فما العز؟ قال: شدة العضد، وكثرة العدد، قال: فما السماحة؟ قال: بذل النائل، وإجابة السائل، قال: فما الغنى؟ قال: الرضى بما يكفي، وقلة التمني، قال: فما الرأي؟ قال: لب تعينه تجربة، قال له الملك: أوريت زناد بصيرتي، وأذكيت نار خبرتي، فاحتكم، قال: بكل كلمة هجمة من الإبل، قال هي لك.
قال الأصمعي: فقال لي الرشيد: ولك عندنا بكل كلمة بدرة، [قال]: فانصرفت بثمانين ألف درهم.
كتب بعض أهل العصر، وهو أبو بكر الخوارزمي إلى بعض إخوانه جوابًا: قرأت كتابك العذب الموارد والمصادر، الحلو الأوائل والأواخر، الذي نثره غرر، ونظمه درر، ونشره مسك وعنبر، يقطر منه ماء الكتابة، وتنسم منه روائح البلاغة، وتهب من ألفاظه رياح الخطابة، وينطق عنه لسان الفصاحة، وقد شكرتني أيدك الله على قضاء حق لم يسعني إلا أن أقضيه، وعلى أداء دين لم يجز لي إلا أن أوفيه، وزعمت إني عرفتك من جهلك، ونبهت لذكرك من لم يكن انتبه لك، لا وحق الحق، فإنه الواجب على الخلق، ما رأيت أحدًا لا يعرفك إلا منن لا يعرف القمر طالعًا، والفجر ساطعًا، والبرق لامعًا، والبحر زاخرًا، والفلك دائرًا، وهل يخفى على الناس النهار؟ وهل يستتر علم في رأسه نار؟ وقد شكرتك على هذا الشكر، فلا تعد لغيره آخر الدهر.
وله اعتذار عن تخلف المكاتبة:
أتاني مع الرُّكبانِ ظنٌّ ظننته ... لففتُ له رأسي حياءً من المجد
كتابي إلى مولاي أطال الله بقاءه، وحفظ به على الزمان بهاءه، وأدام عزه، وعلاه، وأراه في أوليائه، وأعدائه ما تمناه، وجعل الأيام إلى مطالبه سفراءه، والسعود بحاجاته كفلاءه، والأقدار غرماءه، وأنا من الحياء عليلٌ، ومن الشربة التي سقانيها ثقيل، وخماري منها عريض طويل.
1 / 11