بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لدينه القويم ومن علينا بكتابه المبين، وخصه بمعجز دل على تنزيله، ومنع من تبديله، وبين به صدق رسوله، وجعل ما استودعه على نوعين: ظاهرًا جليًا وغامضًا خفيًا يشترك الناس في علم جلية ويختص العلماء بتأويل خفية حتى يعم الإعجاز، ثم يحصل التفاضل والامتياز.
ولما كان ظاهر الجلي مفهوما بالتلاوة، وكان الغامض الخفي لا يعلم إلا من وجهين: نقل واجتهاد جعلت كتابي هذا مقصورا على تأويل ما خفي علمه، وتفسير ما غمض تصوره وفهمه، وجعلته جامعًا بين أقاويل السلف والخلف، وموضحًا عن المؤتلف والمختلف، وذاكرًا ما سنح به الخاطر من معنى يحتمل، عبرت عنه بأنه محتمل، ليتميز ما قيلب مما قلته ويعلم ما استخرج مما استخرجته.
وعدلت عما ظهر معناه من فحواه اكتفاء بفهم قارئه وتصور تالية، ليكون أقرب مأخذًا وأسهل مطلبًا.
وقدمت لتفسيره فصولا، تكون لعمله أصولا، يستوضح منها ما اشتبه تأويله، وخفي دليله، وأنا أستمد الله حسن معونته، وأسأله الصلاة على محمد وآله وصحابته.
1 / 21
أسماء القرآن
سمى الله القرآن في كتابه بأربعة أسماء:
أحدها: القرآن، قال الله ﷿: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا الْقُرآنَ﴾.
والثاني: الفرقان قال الله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾.
والثالث: الكتاب قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾.
والرابع: الذكر قال الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾.
فأمَّا تسميته بالقرآن ففيه تأويلان:
أحدهما: وهو قول عبد الله بن عباس، مصدر من قولك قَرَأْتُ أي بينت، استشهادًا بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأَناهُ فَاتِّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ يعني إذا بيناه فاعمل به.
1 / 23
والتأويل الثاني: وهو قول قتادة، أنه مصدر من قولك قرأت الشيء، إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض، لأنه آي مجموعة، مأخوذ من قولهم: ما قرأت هذه الناقة سلى قط، أي لم ينضم رحمها على ولد، كما قال عمرو بن كلثوم:
(تريك إذا دخلت على خلاء ... وقد أمنت عيون الكاشحينا)
(ذراعي عيطل أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنبينا)
أي لم تضم رحما على ولد، ولذلك سمي قرء العدوة قرءًا لاجتماع دم الحيض في الرحم.
فأما تسيمته بالفرقان، فلأن الله ﷿ فرق بين الحق والباطل، وهو قول الجماعة، لأن أصل الفرقان هو الفرق بين شيئين.
وأمَّا تسميته بالكتاب، فلأنه مصدر من قولك كتبت كتابا، والكتاب هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة ومتفرقة، وسمي كتابًا وإن كان مكتوبًا، كما قال الشاعر:
(تؤمل رجعة مني وفيها ... كتاب مثل ما لصق الغراء)
يعني مكتوبا، والكتابة مأخوذة من الجمع من قولهم: كتبت السقاء، إذا جمعته بالخرز قال الشاعر:
(لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسياد)
وأما تسميته بالذكر، ففيه تأويلان:
أحدهما: أنه ذكر من الله تعالى ذكر به عباده، وعرفهم فيه فرائضه وحدوده.
والثاني: أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به، وصدق بما جاء فيه، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ يعني أن شرف له ولقومه.
1 / 24
أما التوارة، فإن الفراء يجعلها مشتقة من قولهم: وري الزند إذا خرج ناره، يريد أنها ضياء.
وأما الزبور، فإنه مشتق من قولهم: زَبَرَ الكتاب يزبُره إذا كتبه، ومنه قول الشاعر:
(عرفت الديار كرقم الكتا ... ب يزبره الكاتب الحميري)
وأما الإنجيل، فهو مأخوذ من نجلت الشيء، إذا أخرجته، ومنه قيل لنسل الرجل نجله، كأنه هو استخرجهم، قال الشاعر:
(أنجبت أيام والديه معا ... إذ نجلاه فنعم ما نجلا)
فصل
روى أبو بردة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، عن النبي ﷺ أنه قال: " أعطاني ربي مكان التوراة السبع الطول، ومكان الإنجيل المثاني، ومكان الزبور المئين، وفضلني ربي بالمفصل ".
فأما السبع الطول، فالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف
1 / 25
ويونس، في قول سعيد بن جبير ونحوه، عن ابن عباس، وهو الصحيح، وإنما سميت السبع الطول لطولها على سائر القرآن.
أما (المئون) فهي ما كان من سور القرآن عدد آية مائة آية أو تزيد عليها شيئًا أو تنقص عنها شيئًا. وأما المثاني، ففيها ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها السور التي عني الله فيها القصص والأمثال والفرائض والحدود، وهذا قول عبد الله بن عباس وسعيد بن جبير.
والثاني: أنها فاتحة الكتاب، وهو قول الحسن البصري، قال الراجز:
(نشدتكم بمنزل القرآن ... أم الكتاب السبع من مثاني)
(نثين من آي من القرآن ... والسبع سبع الطول الدواني)
والثالث: أن المثاني ما ثنيت المائة فيها من السور، فبلغ عددها مائتي آية أو ما قاربها، فكأن المائتين لها أوائل، والثاني ثواني، وقال بعض الشعراء:
(حلفت بالسبع اللواتب طولت ... ومائتين بعدها قد أمنت)
(وبمثاني ثنيت وكررت ... وبالطواسين التي قد ثلثت)
(وبالحواميم التي قد سبقت ... وبالتفاصيل التي قد فصلت)
وأما المفصل، فإنما سمي مفصلا لكثرة الفصول التي بين سوره، وهو بسم الله الرحمن الرحيم، وسمي المفصل محكما، لما قيل إنه لم ينسخ شيء منه.
واختلفوا في أول المفصل على ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو قول الآكثرين: أنه سورة محمد ﷺ إلى سورة الناس.
1 / 26
والثاني: من سورة ق إلى الناس، حكاه عيسى بن عمر، عن كثير من الصحابة.
والثالث: وهو قول ابن عباس: من سورة الضحى إلى الناس، وكان يفصل في الضحى بين كل سورتين بالتكبير، وهو رأي قراء مكة.
فصل
وأما السورة من سورة القرآن، وتجمع سورا ففيها لغتان:
إحداهما: بهمز.
والأخرى: بغير همز.
فأما السورة بغير همز، فهي المنزلة من منازل الارتفاع، ومن ذلك سمي سور المدينة لارتفاعه على ما يحويه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
(ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب)
يعني منزلة من منازل الشرف، التي قصرت عنها منازل الملوك، فسميت السورة لارتفاعها وعلو قدرها.
وأما السورة بالهمزة، فهي القطعة، التي قد فضلت من القرآن على سواها وأبقيت منه، لأن سؤر كل شيء بقيته بعدما يؤخذ منه ولذلك سمي ما فضل في الإناء بعد الشرب منه سؤرا، وقال النبي ﷺ: " إذا شربتم فأسئروا " يعني
1 / 27
فأبقوا فضلة في الإناء، ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة يصف امرأة فارقته، فأبقت في قلبه بقية من حبها:
(فبانت قد أسأرت في الفؤا ... د صدعا على نأيها مستطيرا)
والأول من القولين أصح.
وأما الآية من القرآن، ففيها تأويلان:
أحدهما: إنما سميت آية لأنها علامة يعرف بها تمام ما قبلها، لأن الآية العلامة، ومنه قول الله تعالى: ﴿ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عبدا لأولنا وآخرنا وآية منك﴾ يعني علامة منك لإجابتك دعاءنا. وقال الشاعر، وهو عبد بني الحسحاس:
(ألكني إليها - عمرك الله - يا فتى ... بآية ما جاءت إلينا تهاديا)
والتأويل الثاني: أن الآية في كلامهم، القصة والرسالة، كما قال كعب بن زهير:
(ألا أبلغا هذا المعرض آية ... أيقظان قال القول أو قال ذو حلم)
فيكون معنى الآية القصة، التي تتلو قصة بفصول ورسول وأصول.
وروي أبو حازم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: " نزل القُرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر (ثلاث
1 / 28
مرات)، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم فردوه إلى عالمه ".
وروى محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: " أنزل القرآن على سبعة أحرف، عليم حكيم غفور رحيم ".
اختلف المفسرون في تأويل السبعة الأحرف، التي نزل القرآن بها على أربعة أقاويل:
أحدها: معناه على سبعة معان، وهي أمر ونهي ووعد ووعيد وجدل وقصص ومثل.
روى عون، عن أبي قلابة قال: بلغني أن النبي ﷺ قال: " أنزل القرآن على سبعة أحرف: أمر، ونهي، وترغيب، وترهيب، وجدل، ومثل، وقصص ".
والثاني: يعني سبع لغات مختلفة، لا مما يغير حكمًا في تحليل ولا
1 / 29
تحريم، مثل هل وتعال وأقبل، هي مختلفة ومعانيها مؤتلفة، فكانوا في صدر الإسلام مخَّيرين فيها ثم اجتمعت الصحابة، عند جمع القرآن على أحدها، فصار ما أجمعوا عليه مانعًا مما أعرضوا عنه.
والثالث: يريد على سبع لغات من اللغات الفصيحة، لأن بعض قبائل العرب أفصح من بعض لبعدهم من بلاد العجم، فكان من نزل القرآن بلغتهم من فصحاء العرب سبع قبائل.
والرابع: يريد على سبع لغات للعرب في صيغة الألفاظ، وإن وافقه في معناه، كالذي اختلف القراء فيه من القراءات والله أعلم.
فصل
فأما إعجاز القرآن الذي عجزت به العرب عن الإتيان بمثله، فقد اختلف العلماء فيه على ثمانية أوجه:
أحدها: أن وجه إعجازه، هو الإعجاز والبلاغة، حتى يشتمل يسير لفظه على كثير المعاني، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ في القِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ فجمع في كلمتين، عدد حروفهما عشرة أحرف، معاني كلام كثير.
والثاني: أن وجه إعجازه، هو البيان والفصاحة، التي عجز عنها الفصحاء، وقصّر فيها البلغاء، كالذي حكاه أبو عبيد، أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: ﴿فاصدع بما تؤمر﴾ فسجد، وقال سجدت لفصاحة هذا الكلام، وسمع آخر رجلا يقرأ: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًا﴾ فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام.
1 / 30
وحكى الأصمعي قال: رأيت بالبادية جارية خماسية أو سداسية وهي تقول:
(أستغفر الله لذنبي كله ... قتلت إنسانا لغير حله)
(مثل غزال ناعم في دله ... فانتصف الليل ولم أصله)
فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك، فقالت: أتعد فصاحة بعد قول الله ﷿: ﴿وَأْوْحَيْنَا إِلَى أُمَّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمَّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِ] إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكَ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ فجمع في آية واحدة، بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وإنشاءين.
والثالث: أن وجه إعجازه، هو الوصف الذي تنقضي به العادة، حتى صار خارجا عن جنس كلام العرب، من النظم، والنثر، والخطب، والشعر، والرجز، والسجع، والمزدوج، فلا يدخل في شيء منها ولا يختلط بها، مع كون ألفاظه وحروفه في كلامهم، ومستعمله في نظمهم ونثرهم.
حكي أن ابن المقفع طلب أن يعارض القرآن، فنظم كلاما، وجعله مفصلا، وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرأ في مكتب: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِيِ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ فرجع، ومحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدا، وما هو من كلام البشر، وكان فصيح أهل عصره.
والرابع: أن وجه إعجازه، هو أن قارئه لا يكل، وسامعه لا يمل، وإكثار
1 / 31
تلاوته تزيده حلاوةً في النفوس، وميلًا إلى القلوب، وغيره من الكلام، وإن كان مستحسن النظمن مستعذب النثر، يمل إذا أعيد ويستثقل إذا ردد.
والخامس: أن وجه إعجازه، هو ما فيه من الإخبار بما كان مما علموه، أو لم يعلموه، فإذا سألوا عنه، عرفوا صحته، وتحققوا صدقه، كالذي حكاه من قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر، وحال ذي القرنين، وقصص الأنبياء مع أممها، والقرون الماضية في دهرها.
والسادس: أن وجه إعجازه، هو ما فيه من علم الغيب، والإخبار بما يكون، فيوجد صدقه وصحته، مثل قوله لليهود: ﴿قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِّنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادقِينَ﴾ ثم قال: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّمْوهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أيدِيِهِمْ﴾ فما تمناه واحد منهم، ومثل قوله تعالى لقريش: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ فقطع بأنهم لا يفعلون، فلم يفعلوا.
والسابع: أن وجه إعجازه، هو كونه جامعًا لعلوم لم تكن فيهم آلاتها، ولا تتعاطى العرب الكلام فيها، ولا يحيط بها من علماء الأمم واحد، ولا يشتمل عليها كتاب وقال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ وقال: ﴿تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ وقال النبي ﷺ: " فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم هو الحق ليس بالهزل من طلب الهدى من غيره ضل " وهذا لا يكون إلا عند الله الذي أحاط بكل شيء علمًا.
1 / 32
والثامن: أن إعجازه هو الصرفة، وهو أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته مع تحديهم أن يأتوا بسورة من مثله، فلم تحركهم أنفه التحدي، فصبروا على نقص العجز، فلم يعارضوه، وهم فصحاء العرب مع توفر دواعيهم على إبطاله، وبذل نفوسهم في قتاله، فصار بذلك معجزا لخروجه العادة كخروج سائر المعجزات عنها.
واختلف من قال بهذه الصرفة على وجهين:
أحدهما: أنهم صرفوا عن القدرة عليه، ولو تعرضوا لعجزوا عنه.
والثاني: أنهم صرفوا عن التعرض له، مع كونه في قدرتهم ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه.
فهذه ثمانية أوجه، يصح أن يكون كل واحدٍ منها إعجازًا، فإذا جمعها القرآن وليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزًا بأولى من غيره، صار إعجازه من الأوجه الثمانية، فكان أبلغ في الإعجاز، وأبدع في الفصاحة والإيجاز.
فصل
وإذا كان القرآن بهذه المنزلة من الإعجاز في نظمه ومعانيه، احتاجت ألفاظه
1 / 33
في استخراج معانيها إلى زيادة التأمل لها وفضل الرويَّة فيها، ولا يقتصر فيها على أوائل البديهة، ولا يقنع فيها بمبادئ الفكرة، ليصل بمبالغة الاجتهاد وإمعان النظر إلى جميع ما تضمنته ألفاظه من المعاني واحتملته من التأويل، لأن الكلام الجامع وجوهًا، قد تظهر تارة، وتغمض أخرى، وإن كان كلام الله منزها من الآفتين: الفكر والروية، ليعمل فيما احتمله ألفاظه من المعاني المختلفة، غير ما سنصفه من الأصل المعتبر في اختلاف التأويل عند احتمال وجوده.
وقد روى سهل بن مهران الضبعين عن أبي عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ " فتمسك فيه بعض المتورعة ممن قلت في العلم طبقته، وضعفت فيه خبرته، واستعمل هذا الحديث على ظاهرهن وامتنع أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، عند وضوح شواهده، إلا أن يرد بها نقل صحيح، ويدل عليها
1 / 34
نص صريح، وهذا عدول عما تعبّد الله تعالى به خلقه في خطابهم بلسان عربي مبين، قد نبه على معانيه ما صرح من اللغز والتعمية، التي لا يوقف عليها إلا بالمواضعة إلى كلام حكيم، أبَان عن مراده، وقطع أعذار عباده، وجعل لهم سبلا إلى استنباط أحكامه، كما قال الله تعالى: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ ولو كان ما قالوه صحيحًا، لكان كلام الله غير مفهوم، ومراده بخطابه غير معلوم، ولصار كاللغز المعمَّى، فبطل الاحتجاج به، وكان ورود النص على تأويله، مغنيًا عن الاحتجاج بتنزيله، وأعوذ بالله من قول في القرآن يؤدي إلى التوقف عنه، ويؤول إلى ترك الاحتجاج به.
ولهذا الحديث - إن صح - تأويل، معناه: أن من حمل القرآن على رأيه، ولم يعلم على شواهد ألفاظه، فأصاب الحق، فقد أخطأ الدليل.
وقد روى محمد بن عثمان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: " القرآن ذلول ذو وجوه فاحْمِلُوهُ عَلَى أحسن وجوهه ". وفي قوله: " ذلول " تأويلان:
أحدهما: أنه مطيع لحامليه، حتى تنطلق فيه جميع الألسنة.
والثاني: أنه موضع لمعانيه، حتى لا تقصر [عنه] أفهام المجتهدين فيه.
وفي قوله: " ذو وجوه " تأويلان:
أحدهما: أن ألفاظه تحمل من التأويل وجوها لإعجازه.
الثاني: أنه قد جمع من الأوامر، والنواهي، والترغيب، والتحليل، والتحريم.
وفي قوله: " فاحملوه على أحسن وجوهه " تأويلان:
1 / 35
أحدهما: أن تحمل تأويله على أحسن معانيه.
والثاني: أن يعمل بأحسن ما فيه، من العزائم دون الرخص، والعفو دون الانتقام، وهذا دليل على أن تأويل القرآن مستنبط منه.
فصل
فإذا صح جواز الاجتهاد في إستخراج معاني القرآن من فحوى ألفاظه، وشواهد خطابه، فقد قسم عبد الله بن عباس ﵁ وجوه التفسير على أربعة أقسام: فروى سفيان، عن أبي الزناد قال ابن عباس: " التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب بكلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله ﷿ " وهذا صحيح.
أما الذي تعرفه العرب بكلامها، فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم.
وأما الذي لا يعذر أحد بجهالتهن فهو ما يلزم الكافة في القرآن من الشرائع وجملة دلائل التوحيد.
وأما الذي يعلمه العلماء، فهو وجوه تأويل المتشابه وفروع الأحكام.
وأما الذي لا يعلمه إلا الله ﷿، فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة.
وهذا التقسيم الذي ذكره ابن عباس صحيح، غير أن ما لا يعذر أحد بجهالته
1 / 36
داخل في جملة ما يعلمه العلماء من الرجوع إليهم في تأويله، وإنما يختلف القسمان في فرض العلم به، فما لا يعذر أحد بجهله يكون فرض العلم به على الأعيان، وما يختص بالعلماء يكون فرض العلم به على الكفاية، فصار التفسير منقسما على ثلاثة أقسام:
أحدهما: ما اختص الله تعالى بعلمه، كالغيوب فلا مساغ للإجتهاد في تفسيره ولا يجوز أن يؤخذ [إلا] عن توقيف، من أحد ثلاثة أوجه:
إما من نصٌّ في سياق التنزيل.
وإما عن بيان من جهة الرسول.
وإما عن اجماع الأمة على ما اتفقوا عليه من تأويل.
فإن لم يرد فيه توقيف، علمنا أن الله تعالى أراد لمصلحة استأثر بها، ألاَّ يطلع عباده على غييه.
والقسم الثاني: ما يرجع فيه إلى لسان العرب، وذلك شئيئان، اللغة والإعراب:
فأما اللغة، فيكون العلم بها في حق المفسر دون القارئ، فإن كان مما [لا] يوجب العمل، جاز أن يعمل فيه على خبر الواحد والإثنين، وأن يستشهد فيه من الشعر بالبيت والبيتين، وإن كان مما يوجب العمل، لم يعمل فيه على خبر الواحد والإثنين، ولا يستشهد فيه بالبيت والبيتين، حتى يكون نقله مستفيضًا، وشواهد الشعر فيه متناصرة.
وقد روى أبو حاضر، عن ابن عباس: أن رجلا سأل النبي ﷺ، أي علم القرآن أفضل؟ قال: " غريبه، فالتمسوه في الشعر ". وإنما خص الغريب لاختصاصه بإعجاز القرآن، وأحال عن الشعر لأنه ديوان كلامهم،
1 / 37
وشواهد معانيهم، وقد قال ابن عباس: " إذا أشكل عليكم الشيء من كتاب الله، فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب.
وأما الإعراب، فإن كان اختلافه موجبا لاختلاف حكمه وتغيير تأويله، لزم العلم به في حق المفسر وحق القارئ، ليتوصل المفسر إلى معرفة حكمه، ويسلم القارئ من لحنه، وروي عن النبي ﷺ، أنه قال: " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه ".
وإن كان اختلاف إعرابه لا يوجب اختلاف حكمه، ولا يقتضي تغيير تأويله، كان العلم بإعرابه لازمًا في حق القارئ ليسلم من اللحن في تأويلاته، ولم يلزم في حق المفسر لوصوله مع الجهل بإعرابه إلى معرفة حكمه، وإن كان الجهل بإعراب القرآن نقصًا عامًّا.
والقسم الثالث: ما يرجع فيه إلى اجتهاد العلماء، وهو تأويل المتشابه، واستنباط الأحكام، وبيان المجمل، وتخصيص العموم، والمجتهدون من علماء الشرع أخص بتفسيره من غيرهم حملًا لمعاني الألفاظ على الأصول الشرعية، حتى لا يتنافى الجمع بين معانيها وأصول الشرع، فيعتبر فيه حال اللفظ، فإنه ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يكون مشتملًا على معنى واحد لا يتعداه، ومقصورًا عليه ولا يحتمل ما سواه، فيكون من المعاني [الجلية] والنصوص الظاهرة، التي يعلم مراد الله تعالى بها قطعا من صريح كلامه، وهذا قسم لا يختلف حكمه ولا يلتبس تأويله.
والقسم الثاني: أن يكون اللفظ محتملًا لمعنيين أو أكثر، وهذا على ضربين:
1 / 38
أحدهما: أن يكون أحد المعنيين ظاهرًا جليًّا، والآخر باطنًا خفيًّا، فيكون محمولًا على الظاهر الجلي دون الباطن الخفي، إلا أن يقوم الدليل على أن الجليَّ غيرُ مُرَادٍ، فيحمل على الخفي.
والضرب الثاني: أن يكون المعنيان [جليَّين، واللفظ مستعملًا فيهما حقيقةً، وهذا على ضربين:
أحدهما: أن يختلف أصل الحقيقة فيهما، فهذا ينقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون أحد المعنيين مستعملًا في اللغة، والآخر مستعملًا في الشرع، فيكون حملُه على المعنى الشرعيِّ أولى من حملِهِ على المعنى اللَّغَويِّ، لأن الشرع ناقل.
والقسم الثاني: أن يكون أحد المعنيين مستعملًا في اللغة، والآخر مستعملًا في العرف، فيكون حمله على المعنى العرفي أولى من حمله على معنى اللغة، لأنه أقرب معهود.
والقسم الثالث: أن يكون أحد المعنيين مستعملًا في الشرع، والآخر مستعملًا في العرف، فيكون حمله على معنى الشرع أولى من حمله على معنى العرف لأن الشرع ألزم.
والضرب الثاني: أن يتفق أصل الحقيقة فيهما فيكونا مستعملين في اللغة على سواء، أو في الشرع، أو في العرف فهذا على ضربيين:
أحدهما: أن يتنافى اجتماعهما ولا يمكن استعمالهما كالأحكام الشرعية مثل القرء الذي هو حقيقة في الطهر، وحقيقة في الحيض، ولا يجوز للمجتهد أن يجمع بينهما، لتنافيهما، وعليه أن يجتهد رأيه في المراد فيهما بالأمارات الدالة عليه، فإذا وصل إليه، كان هو الذي أراده الله تعالى منه، وإن أدى اجتهاد غيره إلى الحكم الآخر، كان هو المراد منه فيكون مراد الله تعالى من كل واحد منهما، ما أداه اجتهاده إليه.
1 / 39
ولو لم يترجح للمجتهد أحد الحكمين، ولا غلب في نفسه أحد المعنيين لتكافؤ الأمارات عنده، فقيه للعلماء مذهبان:
أحدهما: أن يكون مخيرًا، للعمل في العمل على أيهما شاء.
والضرب الثاني: أن يأخذ بأغلظ المذهبين حكمًا.
والضرب الثاني من اختلاف المعنيين: ألا يتنافيا ويمكن الجمع بينهما فهذا على ضربين:
أحدهما: أن يتساويا، ولا يترجح أحدهما على الآخر بدليل، فيكون المعنيان معًا مرادين، لأن الله تعالى لو أراد أحدهما النصب على مراده منهما دليلًا، وإن جاز أن يريد كل واحد من المعنيين بلفظين متغايرين لعدم التنافي بينهما، جاز أن يريدهما بلف واحد، يشتمل عليهما، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة.
والضرب الثاني: أن يترجح أحدهما على الآخر بدليل، وهو على ضربين:
أحدهما: أن يكون دليلًا على بطلان أحد المعنيين، فيسقط حكمهن ويصير المعنى الآخر هو المراد، وحكمه هو الثابت.
والضرب الثاني: أن يكون دليلًا على صحة أحد المعنيين فيثبت حكمه ويكون مرادًا ولا يقتضي سقوط المعنى الآخر، ويجوز أن يكون مرادًا، وإن لم يكن عليه دليل، لأن موجب لفظه دليل، فاستويا في حكم اللفظ، وإن ترجح أحدهما بدليل، فصارا مرادين معًا.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن المعنى الذي يرجح بدليل أثبت حكمًا من المعنى الذي تجرد عنه ولقوته بالدليل الذي ترجح به، فهذا أصل يعتبر [من] وجود التفسير، ليكون ما احتمله ألفاظ القرآن من اختلاف المعاني محمولًا عليه، فيعلم ما يؤخذ به ويعدل عنه.
فإن قيل: فقد ورد الخبر بما يخالف هذا الأصل المقرر، وهو ما روي عن النبي ﷺ، أنه قال: " ما نزل القرآن من آية إلا لها ظهر وبطن ولكل حرف
1 / 40
حد ولكل حد مطلع " قيل ليس هذا الحديث - مع كونه من أخبار الآحاد - منافيا لما قررناه من الأصول المستمرة، لما فيه من التأويلات المختلفة.
أما قوله: " ما نزل من القرآن من آية إلا لها ظهر وبطن " ففيه أربعة تأويلات:
أحدها: معناه أنك إذا فتشت عن باطنها وقسته على ظاهرها، وقفت على معناها، وهو قول الحسن.
والثاني: يعني أن القصص ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين، وباطنها عظة للآخرين، وهذا قول أبي عبيد.
والثالث: معناه ما من آية إلا وقد عمل بها قوم، ولها قوم سيعملون بها، وهذا قول ابن مسعود.
والرابع: يعنى أن ظاهرها لفظها، وباطنها تأويلها، وهذا قول الجاحظ.
وأما قوله: " ولكل حرف حد " ففيه تأويلان:
أحدهما: معناه أن لكل لفظ منتهى، فيما أراده الله تعالى من عباده.
والثاني: أن لكل حكم مقدارا من الثواب والعقاب.
1 / 41