مكث أرسطاطاليس في أتينا يدرس ويعلم ثلاث عشرة سنة، ولكن موت الإسكندر غير كل شيء في بلاد اليونان تغييرا مؤقتا، فثار اليونان بالمقدونيين وأرادوا أن يستردوا حريتهم، وكان الأتينيون أول الثائرين، وقد أصابت هذه الثورة كل من كان يتصل بالمقدونيين ومنهم أرسطاطاليس، فحاول بعض الأتينيين أن يتهمه بالفجور والإلحاد، وأشفق أرسطاطاليس أن يصيبه ما أصاب سقراط ففر من أتينا إلى كلسيس، وفيها مات سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
وقد روى القدماء ووافقهم على ذلك بعض المحدثين أن أرسطاطاليس إنما هاجر من أتينا مشفقا عليها أن تجني عليه أو على الفلسفة في شخصه ما جنته على الفلسفة في شخص سقراط، ويخيل إلي أن هذه أسطورة أريد بها تمجيد الرجل وهو عن هذا التمجيد غني، وما أظن أنه قد هاجر إلا احتفاظا بحياته وحرصا عليها.
في نفس هذه السنة التي مات فيها أرسطاطاليس مات نابغة آخر من نوابغ هذا العصر هو ديموستنيس الخطيب الأتيني المعروف، كلا الرجلين يمثل عصره أحسن تمثيل، وكلا الرجلين يناقض صاحبه أشد المناقضة، فأما أرسطاطاليس فقد كان يمثل من هذا العصر ميل العقل اليوناني إلى التأليف والترتيب وجمع كل ما أثمرته القريحة اليونانية من أدب وعلم وفلسفة في صورة واحدة متماسكة قادرة على أن تؤثر فيما يأتي بعد هذا العصر من العصور، وكان يمثل مع هذا الأمة الجديدة الناهضة التي كان قد قدر لها القضاء أن تهدم سلطان اليونان في بلاد اليونان وسلطان الفرس في بلاد الفرس، وأن تقيم على أنقاضهما سلطانا جديدا يجمع بين الشرق والغرب ويقارب ما بينهما من البعد الفكري، ويأخذهما جميعا بأن يتصورا الأشياء بطريقة واحدة، وأن يفكرا فيها بطريقة واحدة، وعلى الجملة كان أرسطاطاليس يمثل هذه الأمة التي جعلت العقل اليوناني عقلا عاما ورسمت للإنسانية سبيلها التي ستسلكها إلى الرقي.
وأما ديموستنيس فكان يمثل من هذا العصر ما بقي فيه من قديم يريد أن يدافع عن وجوده ويحتفظ بشخصيته، كان يمثل الحرية مدافعة عن نفسها مجاهدة لعدوها، فكان موته موتا للحرية اليونانية، وكان موت أرسطاطاليس بعد أن أتم عمله حياة خالدة للعقل اليوناني.
لا يعرف التاريخ الأدبي اليوناني مؤلفا من هذا العصر بلغت آثاره من الكثرة والاختلاف ما بلغته منهما آثار أرسطاطاليس، كما أن التاريخ لا يعرف قبله مؤلفا كثر الدرس عليه وانتحال الكتب التي تنسب إليه بمقدار ما كثر ذلك على هذا الفيلسوف.
فقد كان القدماء يروون له مئات من الكتب تختلف طولا وقصرا في موضوعات شديدة الاختلاف والافتراق، وقد كانوا يشعرون بأن كثيرا من هذه الكتب إنما كان مزورا منتحلا، وهم مع ذلك كانوا لا يشكون في أن أرسطاطاليس قد ترك أكثر من أربعمائة كتاب، وقد ضاع معظم هذه الكتب ولم يبق لنا منها إلا نيف وأربعون كتابا كاملا، وإلا متفرقات كثيرة من كتب مختلفة وأسماء كتب لم يبق منها شيء، بحيث نستطيع أن نجزم بأن أرسطاطاليس قد ترك ما يزيد على خمسين ومائة كتاب.
على أن احتياطنا في حصر كتب أرسطاطاليس ليس معناه أن الرجل لم يترك من الكتب إلا ما نعلم، وإنما معناه أن بحثنا التاريخي العلمي لم يصل بنا إلا إلى هذا العدد.
فإذا لاحظنا أن جزءا عظيما من كتب أرسطاطاليس قد ظل بعد موته مهملا في نفق من الأنفاق أكثر من قرنين، وأنه لم ينشر ولم يستنسخ إلا في أيام سيلا الذي نقله من أتينا إلى روما، وأنه حين أريد نشره واستنساخه كان الفساد قد أصابه وعمل فيه، عرفنا أن القدماء كانوا غير مسرفين فيما يعدون من كتب أرسطاطاليس، وعرفنا أنا لا نخطئ إذا اصطنعنا الشك والتردد قبل أن نجزم بصحة كتاب ينسب إليه.
ومهما يكن من عدد الكتب التي ألفها والتي تنسب إليه، فإن ما بقي لنا منها على قلته وعلى فساد نصوصه في أكثر الأحيان كاف كل الكفاية لإقناعنا بهذا الجهد العظيم الذي بذله أرسطاطاليس في حياته العلمية، والذي لا نكاد نتصوره إلا مع شيء من المشقة والعناء.
وما ترى في رجل لم يترك أثرا من آثار العقل اليوناني أو الشعور اليوناني ولا ظاهرة من ظواهر الاجتماع اليوناني إلا درسه وكتب فيه، ثم لم يكتف بذلك، بل أضاف إلى ما كان قد حصله اليونان من علم وإلى ما كانوا قد أقاموا من بناء فلسفي، ثم لم يكتف بهذا كله، بل حاول أن يصوغ كل هذا المقدار الذي جمعه والذي ابتدعه صيغة واحدة ويصبه في قالب واحد ليكون كلا متماسكا متماثل الأجزاء.
صفحة غير معروفة