T. Kuhn (1922-1996) أيقونة الثورة من كارل بوبر، وأقام تفسيره لتاريخ العلم على أساس من مفهوم الثورة التي هي انتقال من براديم أو نموذج قياسي إرشادي
إلى آخر ... وذلك في كتابه الشهير «بنية الثورات العلمية» (1962م) الذي يعد بمثابة الإعلان الصريح للربط الوثيق بين فلسفة العلم وتاريخه. يعني هذا أن العلم ليس نسقا واحدا ووحيدا، فهو ظاهرة اجتماعية متغيرة عبر التاريخ الإنساني، وتتدخل في هذا العوامل الخارجية الثقافية والحضارية والأيديولوجية؛ لأن العلم ذاته لا ينفصل عن أيديولوجيا خاصة به. وكان هذا خروجا من أطر المثال الحداثي التنويري، مثال نسق العلم الواحد والوحيد وإلغاء التعددية الثقافية في عالمه؛ وبالتالي كان مقدمة ضرورية لفلسفة العلم النسوية التي هي شديدة الامتنان له، حتى عدت فلسفة كونية؛ أي لا تفهم إلا في إطار الطريق الذي شقه توماس كون. إنهن يقسمن فلسفة العلم بأسرها إلى ما قبل كون، وفلسفة العلم بعد كون، مصطلح ما بعد الكونية
أساسي في فلسفة العلم النسوية، من حيث كانت مصطلحات ما بعد التنويرية وما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية أساسية في الفلسفة النسوية بعامة.
تكفل بتوطيد الربط بين تاريخ العلم وفلسفته أخلص تلاميذ بوبر، الفيلسوف المجري إيمري لاكاتوش
I. Lakatos (1922-1974) وصاغ المبدأ النافذ: فلسفة العلم بدون تاريخه خواء، وتاريخ العلم بدون فلسفته عماء. ثم يأتي رفيقه بول فييرآبند
(1924-1994) ليبرز أهمية النظريات القابعة في تاريخ العلم وقدرتها على إخصاب الواقع العلمي الراهن، ويتكرس لتأكيد التعددية المنهجية، وتأكيد النسبوية
Relativism ، واللامقايسة
incommensurability
بمعنى عدم قابلية النظريات العلمية المتتالية للمقارنة والخضوع للمعايير نفسها والحكم عليها بالمقاييس نفسها، كل نظرية لها دورها ومكانها في تاريخ العلم، والحكم عليها ليس البتة في إطار قيمتي الصدق والكذب، بل يجب أن يكون بالنسبة لسياقها، لظروفها وتحدياتها؛ لأن النظرية العلمية في جوهرها محض طريقة للنظر إلى العالم، توضع بجوار طرق أخرى. وبالتالي نادى فييرآبند - أجرأ نقاد العلم الغربي - بأن يكون العلم شكلا من أشكال عديدة للمعرفة يتسع لها جميعا المجتمع الديمقراطي الحر. يؤكد أن العلم ليس نظاما مقدسا يستلزم الكفر بما خالفه. وحارب بضراوة شوفونية الروح العلمية والمعرفة العلمية، حين تنفي ما عداها من صنوف المعرفة. ورأى مثل هذا محض ذريعة استعمارية لأسطورة الغرب المتفوق، الغرب المعيار، وقهر الحضارات الأخرى باسم العلم. وسنجد فلسفة العلم النسوية أكثر تأكيدا وتوظيفا لهذه التعددية المنهجية واللامقايسة والنسبوية، وأشد ضراوة في حربها لاستبدادية العلم.
بفضل هذا الرباعي الإبستمولوجي، أبرز ممثلي عصر ما بعد الوضعية المنطقية، وآخرين من تلاميذهم وأشياعهم، تم التلاحم أخيرا بين فلسفة العلم وتاريخه، وأصبحت فلسفة إنسانية حية خفاقة، وليست مجرد تحليلات منطقية، لا تستغني طبعا عن صرامة المنطق، لكن لا تكتفي به، فتستوعبه وتتجاوزه، لتصبح شاملة للموقف الإنساني أكثر من أية فلسفة أخرى. إن التحامها بتاريخ العلم جعلها تنظر للعلم من الداخل وأيضا من الخارج، من حيث هو ظاهرة إنسانية تنشأ في إطار الحضارة والسياق الثقافي العام. العلم لا يهبط من السماء ولا يحلق في الفراغ، بل يفلح أرضا مهدتها الحضارة التي أنجبته، ليلبي احتياجاتها ويجيب عن الأسئلة التي تثيرها. وهكذا لا تنفصل فلسفة العلم عن الأبعاد الاجتماعية للظاهرة العلمية، وبالتالي سيكولوجية الإبداع العلمي، قيم البحث والإبداع وقيم المجتمع العلمي ... الكائنة وما ينبغي أن يكون، علاقة العلم بالأطر الأيديولوجية والأنظمة السياسية، اقتصاديات العلم والدراسة المقارنة للمؤسسات العلمية، والأسس التخطيطية لنشأتها وأهدافها
صفحة غير معروفة