وكانت النسوية الاشتراكية أكثر مرونة وانطلاقا وأعلى صوتا؛ لأن الليبرالية تسلم بأن الأسرة مؤسسة ضرورية، ولا تفكير في قضية المرأة إلا داخل الأسرة، إنها مشكلة «المرأة في الأسرة.» أما التيارات الاشتراكية، وخصوصا الشيوعية، فلا تسلم بهذا دائما. رأى بعضها أن الأسرة مؤسسة يمكن القضاء عليها، فكانت قضيتهم «المرأة والأسرة». هذا فضلا عن أن الاشتراكيين لا يعتبرون ما هو طبيعي مثاليا أو يفرض نفسه، فمهما بدا وضع المرأة التقليدي طبيعيا، فليس من الضروري فرضه ولا بد من تغييره. ومنذ مطالع القرن التاسع عشر دافع رواد الاشتراكية الأوائل في إنجلترا وفرنسا وألمانيا عن الحقوق المتساوية للجنسين، وعن أن الاشتراكية تحرير لكليهما. كان الاشتراكي الفرنسي الرائد شارل فورييه
C. Fourier (1772-1837) الذي نادى بتطبيق الاشتراكية في مجتمعات تعاونية صغيرة تستغنى عن النقود، هو أول من استخدم وضع النساء في المجتمع كمقياس لدرجة تقدمه، وهذا بات شبه معتمد في أيامنا هذه، وأول من قدم وضع المرأة كسبب أساسي للتقدم الاجتماعي، وهذا ما طوره ماركس في مخطوطات عام 1884، حين أعلن أن تقويم مسألة تطور الإنسان ككل يتأتى من تقويم تطور علاقة المرأة بالرجل.
25
ولئن كان ماركس لم يعتبر النسوية في حد ذاتها موضوعا رئيسيا، فإن رفيقه فردريك إنجلز اعتبرها هكذا إلى حد ما، وأخرج في العام نفسه 1884 مؤلفه الثاقب: «أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة»، حيث أوضح أن الوضع الأدنى للمرأة يعود في أصله إلى الملكية التي تبغي الشيوعية القضاء عليها. ويسير في هذا التيار أوجست ببل
A. Bebel (1840-1913)، وهو من أبرز قادة الحزب الشيوعي الديمقراطي الألماني. وبشكل عام يؤكد الاشتراكيون أن الاشتراكية هي التي تعطي المرأة حقوقها وتحمل المساواة الكاملة بين الجنسين، وعمل المفكرون الماركسيون - نذكر منهم على وجه الخصوص الثورية المناضلة روزا لوكسمبورج
R. Luxemburg (1870-1919) على إبراز الماركسية كفلسفة للتحرير، وأن البروليتاريا والنساء كليهما يتحرر بالتطور الاقتصادي الحتمي نحو الشيوعية، وبالمثل تتحرر البشرية بأسرها من نير الاستعمار والإمبريالية التي ربطت تحليلات روزا وسواها - بينهما وبين الرأسمالية. (6) إنها الموجة النسوية الأولى
هكذا كانت النسوية ماثلة في كلا التيارين المتقابلين المشكلين لقطبي الفكر الاجتماعي والسياسي في القرن التاسع عشر، كانعكاس شامل لحركية الواقع في الفكر.
في منتصف هذا القرن كانت الحركة النسوية على أشدها. انعقد في أمريكا العام 1848 مؤتمر سينيكا فولز للمرأة وحضره أربعون رجلا ومائتان وخمسون امرأة، ارتبط بحركة تحرير العبيد والمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات، ويعد المؤتمر الأول لحقوق المرأة في الولايات المتحدة، وظل يعقد سنويا حتى نشوب الحرب الأهلية العام 1861. كانت معاهدة برلين لإلغاء الرق قد عقدت العام 1855، وفي العام نفسه تأسس الاتحاد النسائي الوطني في أمريكا، وتأسست العام 1869 جمعية المرأة الأمريكية للحقوق السياسية بولاية أوهايو، ثم اندمجت مع الجمعية الوطنية لحقوق المرأة 1890. وفي إنجلترا تشكلت جمعيات كانت لها أحيانا أشكال من السلوك الحاد العنيف في بحثها عن حق المرأة في التصويت والمشاركة في الحياة العامة وفي التعليم والعمل حين يفوتها قطار الزواج.
في الربع الأخير من القرن التاسع عشر كانت أمريكا فقدت من الرجال في سن الزواج ثلاثة ملايين في الحرب الأهلية، وغاب عن إنجلترا خمسة ملايين في توسعاتها الاستعمارية. تكاثرت جحافل العوانس على جانبي المحيط، فكان هذا دافعا آخر لكي يشتد أوار الحركة النسوية. وفيما بين عامي 1880 و1910 كانت أكثر مراحل الحركة النسوية توهجا، وكان اقتحام النساء لمجال التعليم العالي والبحث العلمي. فقد بات مطلوبا توسيع مجال عمل المرأة فلا يقتصر على ما هو امتداد لوضعها التقليدي كالتمريض والتدريس للأطفال. أنشئت أول كلية للبنات في إنجلترا على الطريق المؤدي إلى كمبردج، وإن كانت جامعة كمبردج لم تمنح الطالبات درجة جامعية مساوية تماما للطلاب إلا في العام 1948.
26
صفحة غير معروفة