كان الانطباع الأول الذي تولد لدى دستويفسكي تجاه أنا جريجوريفنا مؤلما على نحو لا يمكن تصديقه. تتذكر أنا بعد خمسين عاما (في شتاء عام 1917م) لقاءها الأول مع زوج المستقبل بشعور بالعذاب لا ينسى: «لا يمكن لأي كلمات أن تعبر عن هذا الانطباع الثقيل المؤسف الذي تركه في نفسي فيودور ميخايلوفيتش لدى لقائنا الأول. بدا لي حائرا، مهموما بشدة، عاجزا، وحيدا، مضطربا، مريضا، وأنه يعاني وطأة البؤس، وأنه لا يرى وجهك، وليس بمقدوره أن يقيم معك حوارا ... والحقيقة أن هذا الانطباع قد زال عني في اللقاءات التالية ...»
لم تضم أنا جريجوريفنا هذه الكلمات في «مذكراتها»، وإنما وردت في واحدة من مذكراتها الأولى المؤرخة 26 مايو 1883م، وقد تحدثت هنا بصراحة مطلقة: «أود أن أذكر انطباعا واحدا: لا يوجد أحد في هذا العالم، من قبل أو من بعد، ترك في نفسي مثل هذا الانطباع الثقيل، الانطباع الخانق في الحقيقة، مثل الذي تركه علي فيودور ميخايلوفيتش في لقائنا الأول. لقد رأيت أمام عيني إنسانا تعيسا، مقتولا، معذبا. كانت ملامحه تشي بأنه إنسان فقد لتوه اليوم أو بالأمس شخصا عزيزا على قلبه، وأن مصيبة ما مؤلمة حلت به. عندما تركت فيودور ميخايلوفيتش، تبدد مزاجي الوردي السعيد مثلما يتبدد الدخان. انقشع قوس قزح أحلامي، وانتابني حزن وكدر شديدان، ورحت أسير في الطرقات وقد غشيني إحساس ما مبهم.»
ومن المشاهد المميزة لخبرة الإملاء الأولى: طلب مني الجلوس إلى مكتبه، وراح يقرأ بضعة سطور من «البشير الروسي». لم أتمكن من الكتابة، ونبهته إلى أنني لا أستطيع أن أتابعه، وأنه عند الحديث أو الإملاء لا يتحدثون بمثل هذه السرعة. راح يقرأ ببطء أكثر، ثم طلب مني أن أترجم ما كتبته اختزالا إلى الحديث العادي. كان يتعجلني طوال الوقت قائلا: «أخ، وقت طويل، هل يستغرق الأمر كل هذا الوقت للكتابة؟»
أسرعت، ولكنني لم أضع نقاطا بين عبارتين، على الرغم من أن الجملة التالية كانت تبدأ بحرف كبير، وكان من الواضح أنني أسقطت نقطة فقط. استاء فيودور ميخايلوفيتش بشدة بسبب إسقاط النقطة، وكرر عدة مرات عبارة: «هل هذا ممكن؟»
بعد انتهاء الكتابة المسائية في اليوم الأول لم يتبدل انطباعي. «عدت إلى البيت تحت تأثير نفس الانطباع الثقيل. كنت آسفة على آمالي التي انهارت، وكنت مشفقة على هذا الإنسان الغريب، التعيس وغير المفهوم بالنسبة لي. أمطرتني أمي، التي كانت تنتظرني على أحر من الجمر، بالأسئلة، ولكنني اكتفيت بأن أجيبها بقولي: أخ، ماما، لا تسأليني عن دستويفسكي ...»
لكننا، وفي «مذكرات» أنا جريجوريفنا أيضا، يمكننا على نحو واضح أن نتلمس هذا الانطباع الحزين وقد تسلل بين السطور.
أما البيت الذي عاش فيه دستويفسكي فكان يذكرها بهذا المسكن القبيح الذي عاش فيه راسكولنيكوف؛ بيت من بيوت بطرسبورج المؤجرة من منتصف القرن يضم عددا كبيرا من الشقق التي يسكنها تجار وحرفيون. في الشقة رقم 13 عاش دستويفسكي. كانت غرفة مكتبه يسودها الظلام والصمت: «... كان المرء يشعر هنا بنوع من الكآبة والانقباض من جراء الضجيج والسكون ...» «للوهلة الأولى بدا لي دستويفسكي رجلا تقدم به العمر كثيرا، ولكن ما إن بدأ في الحديث حتى أصبح أصغر عمرا، ورأيت أنه من المرجح أن يكون قد تجاوز الخامسة والثلاثين أو السابعة والثلاثين. كان متوسط الطول، منتصب القامة للغاية، شعره كستنائي فاتح، حتى إنه يميل قليلا للحمرة، مدهون بدهان عطري وقد صفف بعناية، لكن ما أدهشني فيه هو عيناه؛ كانتا مختلفتين؛ فإحداهما بنية اللون، والأخرى متسعة الحدقة بحيث لا تكاد القزحية أن ترى. أضفت هذه الازدواجية على نظرة دستويفسكي شيئا من الغموض في التعبير. بدا لي وجه دستويفسكي الشاحب مألوفا للغاية، ولعل مرجع ذلك أنني شاهدت صورا له من قبل. كان يرتدي معطفا قديما للغاية من الجوخ الأزرق، ولكن قميصه كان ناصع البياض ...»
بدأ العمل اليومي في اختزال رواية «روليتنبورج»، التي تغير اسمها فيما بعد إلى «المقامر»، من الثانية عشرة صباحا وحتى الرابعة بعد الظهر، وذلك على مدى شهر بأكمله تقريبا. من الرابع وحتى التاسع والعشرين من أكتوبر، تمت كتابة واحدة من أكثر أعمال الكاتب روعة فنية، ومن صوته الحي مباشرة. أما الأمر الذي فاق التوقع؛ فقد تمثل في سرعة إيقاع العمل ليعكس على نحو مثمر للغاية تماسك البناء الفني العام للرواية، ويضفي عليها توترا شديدا واندفاعا جذابا. تقع الرواية في عشر ملازم كتبت في ستة وعشرين يوما.
في الثلاثين من أكتوبر، يسلم دستويفسكي مخطوطة «المقامر» إلى ناشره. وبفضل هذا التوتر الإبداعي الفريد استطاع دستويفسكي أن يتجنب خطورة «الغرامات البشعة»، فضلا عن ذلك فقد تفادى دستويفسكي تهديدا آخر كان يعذبه طوال الوقت؛ مستقبله وحيدا، وخطورة أن تطول حياته الشاقة باعتباره كادحا مريضا دون أن يجد العزاء مع إنسان يحمل له مشاعر الحب. إن دستويفسكي الذي دخل عقده الخامس قد وجه كل رصيده الضخم من الحنان الذي ادخره طوال هذه السنين إلى موظفته ذات العشرين ربيعا.
إبان حمية العمل أخبر دستويفسكي كاتبته ذات مرة أنه يقف الآن عند مفترق الطرق، وأنه أمام اختيارات ثلاثة؛ إما أن يذهب إلى الشرق، القسطنطينية أو أورشليم، وأن يبقى هناك إلى الأبد. أو أن يذهب إلى الخارج ليلعب القمار وينغمس في هذا الولع بكل جوانحه. أو، أخيرا أن يتزوج للمرة الثانية ويبحث عن السعادة والسرور في الحياة العائلية. ما هي إلا أيام معدودة بعد انتهاء الكتابة، وإذا بدستويفسكي يروح يقص في الثامن من نوفمبر على أنا جريجوريفنا قصة حياته في شكل رواية اختلقها ليطلب يدها في خاتمتها. بعد مرور ثلاثة أشهر، وفي الخامس عشر من فبراير عام 1867م، يتزوجان، وفي ربيع العام نفسه، وبسبب الظروف المنزلية المرتبكة وتهديد الدائنين، يسافر الزوجان معا إلى الخارج.
صفحة غير معروفة