ولكن الأبيض في زمن أمين باشا هيمن على النيل، فقد وفق النمسوي مارنو لاختراق ذلك السد في ستة أشهر وبمائة عامل، وهذا بعد الأمطار التي غمرت الخرطوم وخربت مصر في سنة 1878، وهذا بعد أن قطعت الأسداد النباتية ذلك الاتصال مدة سنتين، ولم يأت الإنكليز على آخر السد الأصلي إلا في سنة 1900، وكان لا بد من تعاون المدفعيين وبواخر المبشرين، ومن اتحاد القوة والدين الذي هو طليعتها لجعل النيل صالحا للملاحة وللانتصار على عالم الطين والنبات هذا.
ويبحث المهندس الذي يسير نحو منبع النيل بعد الخرطوم عن مكان النهر وعن ضفافه قبل كل شيء؛ وذلك خشية خلط الجزر والشفير، ويريد المهندس حرق كلأ الجزيرات، ويعن له إمكان دوران الريح وإحاطة الخطر بسفينته، ويرى اتخاذ خطة الهجوم بغرز الأوتاد في الأعشاب وربطها بالحبال ووصلها بالسفينة المتجهة نحو منبع النيل، وتسير الآلة رويدا رويدا، وتسرع الآلة مقدارا فمقدارا، ثم تتقدم بجميع قوتها، وتقوم بنصف دورة مقتلعة قطعا من السد كما كانت تقتلع الأسنان فيما مضى، ويظهر النبات أقوى من الأوتاد أحيانا ولو أمسكها ثمانية رجال، وهنا تتجلى المهارة في معرفة شد الحبال وإرخائها.
وإذا كان الجريان المعاكس غير كاف وكانت الجزر قديمة مستعصية أو كانت المناقع عميقة قسمها المهندس إلى مربعات وجز العشب بسيوف قصيرة وقطع الجذور، ويدخل مائة زنجي في الماء حتى الصدور، ويرشحون عرقا وطينا، ويهاجمون النبات بالسكاكين من الأعلى وبالمعاول من الأسفل، ولكن السيل إذا ما اشتد تعلقوا بأقوى سوق للبردي وربطوا القلوس
11
بها، وهنالك تقتلع السفينة تلك المربعات نصف المفصولة، وذلك على حين يحل الرجال أوتادهم بسرعة ويصعدون المركب ويرتمون على ظهره منهوكين.
ويأتي الليل بالأخطار، وفيما يغرق كل في بحر من الراحة؛ إذ ينفصل مربع مرتخ ضد التيار فتسوقه الريح نحو الباخرة ويحصر الحصن بذلك، ومما يحدث أحيانا أن يشعر النيل بقوته بغتة فيقلع قطعا صغيرة من الجزر ويصدم بها الباخرة ويطرحها على الزوارق وراءه وتكسر المراسي وتقصم السلاسل وتعوج العجال ويحاط بسكان
12
السفينة في بلد لا توجد فيه قطعة غيار، وتلتقي في مرات أخر بعض الحواجز فتتألف منها كتلة كما في السياسة، والإنكليز قد طهروا ثمانية كيلومترات في ثلاثة أشهر بخمس بواخر وثمانمائة أسير نوبي مع عدم فحم وعدم اتصال وبين قبائل هائجة وعلى الرغم من الأخطار والبعوض والحمى.
واليوم أيضا لا يمكن البصر بأهواء النهر في أثناء ذلك السير الطويل من غير صلة بضفافه، ومنذ بضع سنوات مضت فصل فيضان مفاجئ مقادير كثيرة من النباتات ذوات الجذور القصيرة من أهوار
13
صفحة غير معروفة