نهاية الرتبة في طلب الحسبة
تأليف
محمد بن أحمد ابن بسام المحتسب
تحقيق
محمد حسن محمد حسن إسماعيل
أحمد فريد المزيدي
صفحة غير معروفة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
قال محمد بن بسام المحتسب: أحمد من الحمد له، والنعمة منه، والهداية به، والفضل من عنده، والصلاة على خير خلقه وبه نستعين، قال الله تعالى: ﴿الذين مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾ [الحج: ٤١]، فأمر بذلك مع القدرة عليه، والتمكن منه، ومن الأمر بالمعروف أيضًا، تصفح أحوال السوقة في معاملاتهم، واعتبار موازينهم، وغشهم، ومراعاة ما تجري عليه أمورهم.
وقال ﵎: ﴿ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون﴾ [المطففين: ١ - ٣]، وقال عز من قائل حكاية عن نبيه شعيب، ﵇: ﴿ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين﴾ [هود: ٨٥].
وقد رأيت المؤلفين من المتقدمين سبقوا إلى ذكر كثير مما يحتاج إليه وينتفع به، ولم أجد أحدًا منهم ذكر ما ينبغي ذكره من الغبن، والفحش، والغش، والخيانة بين الناس في المعاملات والمبايعات، والتنبيه على ذلك، والتحذير منه، حتى لا يكون ولا شيء منه بعون الله تعالى، فأحببت أن أؤلف عليه كتابًا فيه على ما تيسر من أنواع ذلك، رجاء لثواب الله، وجعلته أبوابًا، أذكر في كل باب منها ما يقربه ويشاكله، وبالله التوفيق.
* * *
1 / 284
فصول الأبواب
قال الشيخ الإمام الأوحد عبد الرحمن بن نصر بن عبد الله الشيزري: أحمد الله على ما أنعم، وأستعينه فميا ألزم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعظم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الأكرم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، وبعد:
فقد سألني من استند لمنصب الحسبة، وقلد النظر في مصالح الرعية، وكشف أحوال السوقة، وأمور المتعيشين، أن أجمع له مختصرًا كافيًا في سلوك منهج الحسبة على الوجه المشروع؛ ليكون عمادًا لسياسته، وقوامًا لرياسته، فأجبته إلى ملتمسه، ذاهبًا إلى الوجازة لا إلى الإطالة، وضمنته طرفًا من الأخبار، وطرزته بحكايات وآثار، نبهت فيه على غش المبيعات، وتدليس أرباب الصناعات، وكشف سرهم المدفون، وهتكت سرهم المصون، راجيًا بذلك الثواب المنعم ليوم الحساب، وذكرت فيه الحرف المشهورة دون غيرها؛ لمسيس الحاجة إليها، وجعلته أبوابًا يحتذي المحتسب على أمثالها، وينسج على منوالها، وسميته: «نهاية الرتبة في طلب الحسبة»، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
الباب الأول: فيما يجب على المحتسب من شروط الحسبة ولزوم مستحباتها.
الباب الثاني: في النظر في الأسواق والطرقات.
الباب الثالث: في الخبازين.
الباب الرابع: في السقائين وغشهم.
الباب الخامس: في السوقة وغشهم.
الباب السادس: في جزاري الضأن والمعز والإبل، والقصابين وغشهم.
الباب السابع: في الشوائين.
1 / 285
الباب الثامن: في الهرائسيين.
الباب التاسع: في الزلبانيين.
الباب العاشر: في الرواسين وغشهم.
الباب الحادي عشر: في الطباخين وغشهم.
الباب الثاني عشر: في الحلوانيين وغشهم.
الباب الثالث عشر: في هرايس التمر ومطبوخ العدس.
الباب الرابع عشر: في الباقلانيين، أي الفوالين.
الباب الخامس عشر: في السماكين والسمك.
الباب السادس عشر: في باعة الصير والبوري والملح.
الباب السابع عشر: في قلائي السمك وسمك الطاجن.
الباب الثامن عشر: في صيادي الطيور والعصافير.
الباب التاسع عشر: في الطحانين وغشهم.
الباب العشرون: في الفرانين وصبيانهم.
الباب الحادي والعشرون: في الحطب والحطابين.
الباب الثاني والعشرون: في القصب والقصابين.
الباب الثالث والعشرون: في الجبس والجباسين.
الباب الرابع والعشرون: في الجير والجيارين.
الباب الخامس والعشرون: في الحمامات، وذكر قوامها، ومنافعها، ومضارها، وما يلزم حراسها، والبلانين، والمزينيين، والوقادين، وباعة النورة.
الباب السابع والعشرون: في الكتاتينيين.
الباب الثامن والعشرون: في الحريريين.
1 / 286
الباب التاسع والعشرون: في القطانين والندافين.
الباب الثلاثون: في القلانسيين وغشهم.
الباب الحادي والثلاثون: في الخياطة والخياطين وغشهم.
الباب الثاني والثلاثون: في سماسرة البز.
الباب الثالث والثلاثون: في البز والبزازين.
الباب الرابع والثلاثون: في الغسالين.
الباب الخامس والثلاثون: في القصارة والقصارين.
الباب السادس والثلاثون: في المطرزين.
الباب السابع والثلاثون: في الرفائين وغشهم.
الباب الثامن والثلاثون: في الصيادلة والعقاقير.
الباب التاسع والثلاثون: في الأشربة والمعاجين وما يضاف إلى ذلك.
الباب الأربعون: في العطر والعطارين.
الباب الحادي والأربعون: في الصيارف.
الباب الثاني والأربعون: في الصاغة والصياغة.
الباب الثالث والأربعون: في الأطباء والفصادين.
الباب الرابع والأربعون: في الكحالين والكحل.
الباب الخامس والأربعون: في المجبرين.
الباب السادس والأربعون: في الجرائحيين.
الباب السابع والأربعين: في البياطرة.
الباب الثامن والأربعون: في صباغي الحرير والغزل.
الباب التاسع والأربعون: في الخزارين صناع الشراك.
الباب الخمسون: في الأساكفة وصناع الأخفاف.
1 / 287
الباب الحادي والخمسون: في عمل الأسفاط.
الباب الثاني والخمسون: في عمل البطط.
الباب الثالث والخمسون: في الحناطين والعلافين.
الباب الرابع والخمسون: في صنعة الشرابات.
الباب الخامس والخمسون: في الحاكة والقزازين.
الباب السادس والخمسون: في الزنهار وغشه.
الباب السابع والخمسون: في الإبزار والإبزاريين.
الباب الثامن والخمسون: في السماسم وبائعيه.
الباب التاسع والخمسون: في الخشب وباعته.
الباب الستون: في الزفاتين.
الباب الحادي والستون: في الحدادين.
الباب الثاني والستون: في المساميريين وغشهم.
الباب الثالث والستون: في النحاسين وسباكي النحاس.
الباب الرابع والستون: في النجارين، والبنائين، والفعلة، والنشارين.
الباب الخامس والستون: في نجاري الضبب.
الباب السادس والستون: في نجاري المراكب.
الباب السابع والستون: في النخاسين باعة العبيد.
الباب الثامن والستون: في النخاسين باعة الدواب.
الباب التاسع والستون: في الطوابين وغشهم.
الباب السبعون: في دلالين العقارات.
الباب الحادي والسبعون: في تقديرات المراكب.
الباب الثاني والسبعون: في باعة الفخار.
1 / 288
الباب الثالث والسبعون: في شعابي البرام.
الباب الرابع والسبعون: في الزجاجين وغشهم.
الباب الخامس والسبعون: في معلمي الصبيان، ومعلمات البنات.
الباب السادس والسبعون: في الدهانين وغشهم.
الباب السابع والسبعون: في المكارية.
الباب الثامن والسبعون: في النحاتين، والمصولين في التراب.
الباب التاسع والسبعون: في كساحي السماد وحمالته.
الباب الثمانون: في الغرابيل ومناخل الشعر.
الباب الحادي والثمانون: في حافري القبور.
الباب الثاني والثمانون: في الوراقين والمبهرجين.
الباب الثالث والثمانون: في من يكتب الرسائل على الطريق والرقاع والدروج.
الباب الرابع والثمانون: في كتاب الشروط.
الباب الخامس والثمانون: في الوكلاء بأبواب القضاة وتدليسهم.
الباب السادس والثمانون: في الميازيب ومضرتها.
الباب السابع والثمانون: في إصلاح الجوامع والمساجد.
الباب الثامن والثمانون: فر قراء القرآن قدام الموتى.
الباب التاسع والثمانون: في غسالي الموتى، نفع الله بهم.
الباب التسعون: في المراصد والمراقب.
الباب الحادي والتسعون: في طباخي الولائم.
الباب الثاني والتسعون: في معرفة الموازين.
الباب الثالث والتسعون: في معرفة المكاييل.
الباب الرابع والتسعون: في معرفة مثاقيل الذهب وصنج الفضة.
1 / 289
الباب الخامس والتسعون: في معرفة الأرطال والقناطير.
الباب السادس والتسعون: في معرفة الأقساط.
الباب السابع والتسعون: في معاصير الزيت وغشهم.
الباب الثامن والتسعون: في التبن والتبانين.
الباب التاسع والتسعون: في القرط والقراطين.
الباب المائة: في الأنماط وصناعتها.
الباب الحادي والمائة: في صناع الأخمرة والحرير والوقايا.
الباب الثاني والمائة: في الحصر العبداني.
الباب الثالث والمائة: في الخيزرانيين.
الباب الرابع والمائة: في اللبود واللبادين.
الباب الخامس والمائة: في الأرجوان وصناعته.
الباب السادس والمائة: في العصار.
الباب السابع والمائة: في الأبارين.
الباب الثامن والمائة: في الحلفاء وعدده ورسومه.
الباب التاسع والمائة: في المحامل وصناعتها.
الباب العاشر والمائة: في الروايا والقرب.
الباب الحادي عشر والمائة: في الدباغين.
الباب الثاني عشر والمائة: في دباغي الكيمخت.
الباب الثالث عشر والمائة: في دباغ جلود البقر.
الباب الرابع عشر والمائة: في أهل الذمة.
الباب الخامس عشر والمائة: يشتمل على تفاصيل وجمل.
الباب السادس عشر والمائة: في ترتيب التعزير.
1 / 290
الباب السابع عشر والمائة: في مجالس الحكام.
الباب الثامن عشر والمائة: في مجالس الأمراء والولاة.
* * *
1 / 291
الباب الأول
فيما يجب على المحتسب من شروط الحسبة ولزوم مستحباتها
اعلم وفقك الله لما كانت الحسبة أمرًا بمعروف، ونهيًا عن منكر، وإصلاحًا بين الناس، وجب أن يكون المحتسب فقيهًا، عارفًا بأحكام الشريعة؛ ليعلم ما يأمر به وينهى عنه، فإن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، ولا مدخل للعقول في معرفة المعروف والمنكر إلا بكتاب الله ﷿، وسُنة نبيه ﷺ، ورُب جاهل يستحسن بعقله ما قبحه الشرع، فيرتكب المحظور وهو غير عالم به، ولهذا المعنى كان طلب العلم فريضة على كل مسلم، كما قال النبي ﷺ.
فأول ما يجب على المحتسب أن يعمل بما يعلم، ولا يكون قوله مخالفًا لفعله، فقد قال الله ﷿ في ذم علماء بني إسرائيل: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤]، وروى أنس بن مالك، ﵁، أن النبي ﷺ قال: "رأيت ليلة
1 / 292
أسرى بي رجالًا تقرض شفاهم بالمقاريض، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم"، وقال الله ﷿ مخبرًا عن شعيب، ﵇، لما نهى قومه عن بخس الموازين ونقص المكاييل: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ [هود: ٨٨]، ولا يكون المحتسب كما قال ابن همام السلولي:
(إذا نُصبوا للقول قالوا فأحسنوا ... ولكن حسن القول خالفه الفعل)
(وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما يدر لها ثعل)
وقال الآخر:
(لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم)
ويجب على المحتسب أن يقصد بقوله وفعله وجه الله تعالى، وطلب مرضاته، خالصًا مخلص النية، لا يشوبه في طويته رياء ولا مراء، ويجتنب في رياسته منافسة الخلق، ومفاخرة أبناء الجنس، لينشر الله تعالى عليه رداء القبول، وعلم التوفيق، ويقذف له في القلوب مهابة وجلالة، ومبادرة إلى قبول قوله بالسمع والطاعة، وقد قال النبي ﷺ: "من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله شرهم، ومن أرضى الناس بسخط الله وكله الله إليهم، ومن أحسن فيما بينه وبين الله، أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه".
1 / 293
وذكروا أن طغتكين أتابك سلطان دمشق، طلب له محتسبًا، فذكر له رجل من أهل العلم، فأمر بإحضاره، فلما بصر به، قال له: إني وليتك أمر الحسبة على الناس، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: إن كان الأمر كذلك، فقم عن هذه الطراحة، وارفع هذا المسند الذي وراء ظهرك، فإنهما حرير، واخلع هذا الخاتم من إصبعك، فإنه ذهب، فقد قال النبي ﷺ في الذهب والحرير: "إن هذين حرام على ذكور أمتي، حلٌ لإناثها"، قال: فنهض السلطان عن طراحته، وأمر برفع مسنده، وخلع الخاتم من أصبعه، وقال: قد ضممت إليك النظر في أمور الشرطة، قال: فما رأى الناس محتسبًا أهيب منه.
وينبغي للمحتسب أن يكون مواظبًا على سنن رسول الله ﷺ من قص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، هذا مع القيام على الفرائض والواجبات، فإن ذلك أزيد في توقيره، وأنفى للطعن في دينه. وقد حكى أن رجلًا حضر عند السلطان محمود يطلب الحسبة، فرأى شاربه قد غطى فاه من طوله، وأذياله تسحب على الأرض، فقال له: يا شيخ، اذهب فاحتسب على نفسك، ثم عد واطلب الحسبة على الناس.
وينبغي أن يكون شيمته الرفق في القول، وطلاقة الوجه، وسهولة الأخلاق عند أمره الناس ونهيه، فإن ذلك أبلغ في استمالة القلوب، وحصول المقصود، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩].
وقد حكى أن رجلًا دخل على المأمون، فأمره بمعروف ونهاه عن منكر، وأغلظ على المأمون في القول، فقال له المأمون: يا هذا، إن الله تعالى أمر من هو خير منك أن يلين القول لمن هو شر مني، فقال لموسى وهارون: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ
1 / 294
يَخْشَى﴾ [طه: ٤٤]، ثم أعرض عنه، ولم يلتفت إليه، ولأن الرجل قد ينال بالرفق ما لا ينال بالتعنيف، كما قال النبي ﷺ: "إن الله رفيق يحب كل رفيق".
وليكن أيضًا متأنيًا، غير مبادر إلى العقوبة، ولا يؤاخذ أحدًا بأول ذنب يصدر، ولا يعاقب بأول زلة تبدو؛ لأن العصمة من الناس مفقودة، فيما سوى الأنبياء.
وإذا عثر بمن نقص المكيال، أو بخس الميزان، أو غش بضاعة، بما يأتي وصفه في أبوابه من أنواع الغشوش، استتابه عن معصيته، ووعظه وخوفه، وحذره العقوبة والتعزير، فإن عاد إلى فعله عزره على حسب ما يليق به من التعزير بقدر الجناية، ولا يبلغ به الحد.
ويتخذ له سوطًا، ودرّة، وغلمانًا، وأعوانًا، فإن ذلك أرعب للقلوب، وأشد خوفًا ويلازم الأسواق والدروب في أوقات الغفلة عنه، ويتخذ له فيها عيونًا يوصلون إليه الأخبار وأحوال السوقة، فقد ذكر أن على بن عيسى الوزير ببغداد وقع إلى محتسب كان في وقت وزارته، ذكروه له بأنه يكثر الجلوس في داره، فكتب له يقول: الحسبة لا تحتمل الحجبة، فطف بالأسواق تدر لك الأرزاق، وإن لزمت دارك صار الأصر كله عليك، والسلام. فإذا فعل المحتسب كذلك، فقد أوفى ما يجب عليه، والذي يجب له أيضًا على سلطانه إدرار الرزق عليه بما يكفيه، وبسط يده، وترك معارضته، وترك الشفاعة عنده في الخاصة والعامة.
ويكون متورعًا عن قبول الهداية من المتعيشين من أرباب الصناعات، فإن ذلك رشوة، قال النبي ﷺ: "لعن الله الراشي والمرتشي"، والتعفف عن ذلك أصون، ويُلزم أيضًا غلمانه وأعوانه، فإن علم أن أحدًا منهم قبل رشوة، أو أخذ هدية، صرفه عنه؛ لتنتفي عنه المطلوب، وتنجلي عنه الشبهات.
ويجب عليه أن يجعل له نائبًا على ساحل البحر مكان ترد إليه الغلة ليعلمه ما يرد إليه
1 / 295
في كل يوم، ويحتم على مخازن من غلته رسم عبور إلى وقت الحاجة؛ لأن ربما جرى بعد ذلك تفريط في أوجه، وهذا أمر جليل لا ينبغي الغفلة عنه، ولا التفريط فيه. ويلزم المحتسب بعد ذلك أن يفرق الغلة بالتعريف على مقدار ما في البلد، وينظر فيمن عنده من الناس، وذلك مأخوذ من الأحجار التي تطحن في البلد؛ لأن كل حجر فارسي يطحن في كل يوم وليلة ستة أرادب، فإذا جعلناها أقداحًا كانت خمسمائة قدح وستة وسبعين قدحًا، يقيت كل إنسان منها قدح، فهذه الأحجار يعرف بها عدد الناس في كل مدينة بالتقريب.
* * *
الباب الثاني
في النظر في الأسواق والطرقات
ينبغي أن تكون الأسواق في الارتفاع والاتساع على ما وضعته الروم قديمًا، ولا يجوز لأحد من السوقة إخراج مصطبة دكانه عن سمت أركان السقائف إلى الممر الأصلي؛ لأنه عدوان وتضييق على المارة، فيجب على المحتسب إزالته والمنع من فعله، لما في ذلك من إلحاق الضرر بالناس، ويجعل لأهل كل صنعة سوقًا يختص بهم، تعرف صناعتهم، ومن كانت صناعته تحتاج إلى وقود نار، كالخباز، والجردقاني، فالمستحب أن يبعد حوانيتهم عن البرازين والعطارين، لعدم المجانسة بينهم وحصول الأضرار.
وينبغي للمحتسب ويستحب له أن يجعل له على أهل كل صنعة عريفًا من صالح أهلها، خبيرًا بصناعتهم، بصيرًا بغشوشهم وتدليسهم، مشهورًا بالثقة والأمانة، يكون
1 / 296
مشرفًا على أحوالهم، ويطالعه بأخبارهم، وما جلب إلى سوقهم من المتاجر والبضائع، وما تستقر عليه من الأسعار، وغير ذلك من الأسباب التي يلزم المحتسب معرفتها، لقوله ﷺ: "استعينوا على كل صنعة بصالح من أهلها".
ولا يجوز للمحتسب أن يسعر البضائع على أهلها، ولا أن يلزمهم بيعها بسعر معلوم، فقد غلا السعر على عهد رسول الله ﷺ، فقال الناس: يا رسول الله، سعِّر لنا، فقال ﷺ: "هو القابض والباسط والمسعّر، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس ولا في مال".
وإنما إذا رأى المحتسب أحدًا قد احتكر الطعام من سائر الأقوات، وهو أن يشتري في وقت الغلاء، ويتربص به ليزداد في ثمنه أكثر منه، ألزمه بيعه إجبارًا؛ لأن الاحتكار حرام، والمنع من فعل الحرام واجب، وقد قال النبي ﷺ: "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون".
ولا يجوز تلقى الركبان، وهو أن تقدُم قافلة فيلتقيهم إنسان خارج البلد، فيخبرهم بكساد ما معهم ليبتاعه منهم رخيصًا، وقد نهى النبي ﷺ عن ذلك، ونهى عن بيع السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق، فإن عثر المحتسب بمن يقصد ذلك، عزره وردعه عن فعله.
وينبغي أن يمنع أحمال الحطب، والحلفاء، وأحمال التبن، وروايا الماء، والرماد، وما أشبه ذلك، من الدخول إلى الأسواق، لما فيه من الضرر بلباس الناس، ويأمر أهل الأسواق بكنسها، وتنظيفها من الأوساخ، وغير ذلك مما يضر بالناس، فإن النبي ﷺ قال:
1 / 297
"لا ضرر ولا إضرار".
وأما الطرقات وأزقة الحارات، فلا يجوز لأحد إخراج جدار داره إلى الممر المعهود، وكذلك كل ما فيه أذية على السالكين، كمجاري الأوساخ الخارجة من الدور في زمن الصيف إلى وسط الطريق، فإنه يكلف بسده في الصيف، ويحفر له في داره حفرة يجمع فيها.
ولا يجوز التطلع إلى الجيران من الأسطحة والنوافذ، ولا أن يجلس الرجال في طرقات النساء من غير حاجة، فمن فعل ذلك عزره المحتسب، سيما إذا رأى رجلًا أجنبيًا مع امرأة أجنبية يتحدثان في موضع خلوة، فإنه أكثر للتهمة في حقها، وإذا تكررت خيانة رجل من أهل السوق أدبه، فقد روى أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ﵁، أمر بضرب رجل وجب عليه الحد، فقال له وهو يضربه: قتلتني يا أمير المؤمنين، فقال له: الحق قتلك، قال: فارحمني، قال: لست أرحم بك ممن أوجب عليك الحد. فإن عاد إلى الخيانة أقامه من السوق.
* * *
الباب الثالث
في الخبازين
ينبغي أن يعرف عليهم عريفًا ثقة من أهل صناعتهم، ويأمره أن يكتب له جريدة بأسمائهم وعدتهم، ويطالبوا برسومهم في كل يوم، ولا يسامحوا منها بشيء، ومتى سومحوا منها بشيء، كان ذلك سببًا للاضطراب في الأسواق وفساد الأحوال.
ويتفقد ما يغشون به الأخباز من دقيق الجلبان، والفول، فإنهما يسودانه، وكذلك
1 / 298
دقيق الحمص، فإنه يثقله ويفججه، وكذلك دقيق الشعير والسميذ ما يخفى نظرهما على وجهه، وأيضًا في كسره، وإذا لم ينضج الخبز أدب الخباز والفران جميعًا؛ لأن الخباز إذا أمر الفران ائتمر.
ويطالبون بنظافة أوعية الماء وتغطيتها، ونظافة المعاجن، وما يغطى به الخبز، وما يفرش تحته، ولا يعجن عجان بقدميه، ولا بركبتيه، ولا بمرافقه؛ لئلا تنحدر أعراق أبدانهم في العجين، وفي ذلك أيضًا احقار بالطعام، ويكون العجان متلثمًا؛ لئلا يبدر من بصاقه أو مخاطه شيء في العجين إذا تكلم أو عطس، ولا يعجن إلا وعليه ملعبة، أو ثوب مقطوع الأكمام، ويشد جبينه بعصابة بيضاء لتمنع عرقه أن يقطر، ويحلق شعر ذراعيه كل قليل، وإذا عجن في النهار، فليكن عنده من ينش عنه الذباب، هذا كله بعد نخل الدقيق بالمنخل الصفيق.
وأما الجرذقانيون، فلا يضع أحد منهم في عجينه شيئًا من النطرون؛ لأنه يورث العطش، ويسهل البطن، ويورث البواسير. وينبغي أن يجعلوا عوضه الكمون الأبيض، وأن لا يحمي أحد منهم تنوره بساس الكتان، ولا بقرمة؛ لأنه يورث النسيان. وكذلك حوانيتهم التي توقد فيها التنانير، تكون سقوفها مرتفعة، وتفتح أبوابها، ويجعل في سقوفها منافس واسعة يخرج منها الدخان، وإذا فرغ من حموه مسحه بخرقة، ثم يسرع في الخبز، ويقرر بيع الخبز بلا غبن ولا حيف على الخباز ولا على الرعية. ويؤمرون أن يلا يخبزوا خبزًا إلى أن يختمر، فإن غير الخمير يثقل في الميزان، ويثقل في المعدة. وكذلك إذا كان قليل الملح، فإنهم يقصدون بذلك ثقله ووزانته.
وينبغي أن يرشوا على وجهه الأبازير الطيبة مثل الكمون الأبيض والأسود، والشونيز، والقرطم، وما أشبه ذلك، وكذلك في العجين، والمصطكي، وعرق الكافور، والشيبة، ويعتبر سعر الأقات ونقصانه، ويفتش على لوح الخبازين أوزانها على أطرافها، وإذا عرض حركة على الخبز أمرهم بعمل وظائفهم كلها خبزًا.
1 / 299
وبعد، فاعلم وفقك الله أن الحملة الدقيق الحواري ثلاثمائة رطل بالقلعى، وكذلك الخشكار، فإذا أردت معرفة مؤونة كل واحد منهم ووقوع خبزهم بالرطل القلعى أيضًا، فوجدت قمح الحملة الحواري مدخلها عشر ويبات ونصف قمحًا غلتا يصبح في سبعة ونصف، وطحينها ستة دراهم، ويلحقها في العجين والخبيز أربعة دراهم، ومن الخمير عشرون رطلًا، وخبزها ثلاثمائة وثمانون رطلًا بالقلعى، وعيار الحملة الخشكار من القمح نظير الحواري، وطحنها ثلاثة ونصف، ويلحقها أيضًا في العجين والخبيز أربعة دراهم، ومن الخمير عشرون رطلًا، ووقوع خبزها عليها في محاسبة الخبازين إذا احتيج إلى ذلك يومًا، وبالله التوفيق.
* * *
الباب الرابع
في السقائين وغشهم
ينبغي أن يعرف عليهم عريفًا، ويعرفه أنه لما كانت الأمواج تجيب الأوساخ والأقذار إلى الشطوط، وجب أن يكون السقاؤون يدخلون في الماء إلى أن يبعدوا عن الأوساخ، وألا يستقوا من مكان يكون قريبًا من سقاية، ولا مستحم، ولا مجراة حمام، ومن اتخذ منهم رواية جديدة، فلينقل بها الماء إلى الطين أيامًا، فإن ماءها يكون متغير الطعم
1 / 300
والرائحة من أثر الدباغ، فإذا زال التغير، أذن له المحتسب في بيع مائها.
وينبغي أن يكون في أوساطهم التبانين؛ ليستروا عوراتهم. وسقاة الماء بالكيزان أصحاب القرب، يؤمرون بنظافة أزيارهم، وصيانتهم بالأغطية، وتغطية قربهم التي يسقون منها في الأسواق بالميازر، ويمنعهم أن يسقوا بكيزانهم المجذم، والأبرص، وأصحاب العاهات والأمراض الظاهرة، وجلاء الكيزان النحاس كل ليلة، وتطييب شبابيكها بشمع المسك واللادن الطيب العنبري، وافتقاد الخوابى بالبخور، والغسل كل ثلاثة أيام.
* * *
الباب الخامس
في السوقة وغشهم
ينبغي أن يعرف عليهم عريفًا ثقة، ويأمر أحدهم أن لا يقدم فرشه خارجًا عن مصطبته بشيء، وأن يجعل فراش أكبرهم إلى داخل حانوته، وإذا أجلس البياع على ميزانه صبيًا دون البلوغ، اشترط على معلمه أنه إذا بخس كانت العقوبة واقعة به دون صبيه، وبعد الشرط، فلا يمنع الصبي التعيش.
ويعبر موازينهم، وصنجهم، وأقداحهم، ويمنعوا من أن يكون في حوانيتهم دستان من الصنج، والأرطال حديد لا يكون في شيء منها حلقة أصلًا، ويختم بالخواتم الرصاص، ويكتب عليها المحتسب، ويرسم الختم بخطه، ويفتقد كل قليل، وربما جلدوا على اللفت وزنوا به في جملة الأرطال، وينبغي إذا شرع في الوزن أن يسكن الميزان، ويضع فيها البضاعة، ولا يهمز حافة الكفة بإبهامه، فإن ذلك بخس وتدليس.
ولا يكون في ميزانهم الفضة صنجة ثلاثة دراهم، ولا في ميزان الأرطال ثلث رطل؛ لأن الثلث يشابه النصف رطل، وكذلك صنجة الثلاثة تشابه الدرهمين، ويعتبر حبات القمح التي في موازينهم، فقد تنقع ويدس في أجسامها ما يزيد في ثقلها من أطراف الأبر وغيرها. وتكون كفات موازين الذهب والفضة خفافًا، ومساميرها فولاذًا. وتكون موازينهم الفضة من بين أيديهم حتى يشرف عليها من يزن أو يوذن له.
1 / 301
ويأمرهم أن يجعلوا ما يبيعون به من الدراهم في بطون موازينهم، ولا يتركوها في جملة ما في أيديهم من الصنج، بحيث ألا يكون فوق فراخ موازينهم إلا الصنج لا يغر. ولا ينقد أحد دراهم الناس وبين يديه جوز، أو لوز، ولا شيء من المكسرات، فربما يسقط فيها من دراهم الناس عند النقد، ويجمعها إذا انصرفوا. ويكون سائر ما يكتالون به مختومًا بالرصاص، ومنقوشًا في طرفها اسم الإمام؛ لئلا يبردوا رءوس المكاييل بعد العيار فتنقص. ويكون سائر ما يكال به سعة أسفله أو قريب منه، ويفتقدها بعد ذلك كل قليل؛ لئلا يصب فيها ما ينقصها مثل الجبس وغيره.
وربما حشيت أواقي الزيت التي يطوفون بها البيعة، والمكاييل، بالقير في أسفلها، ويقلعها إذا خاف. ويلزمون أن تكون موازين الأرطال متعرضة في قوس الدكان ليشاهد الزبون ما يحمل له من الأرطال عند الوزن والمأكولات. ويمنعهم أن لا يجعلوا في كفة الميزان خيطًا من حلفاء، فإنه يمنعها النزول، ويجنبها بسرعة الرجحان. ولا يكون لشيء من الأوزان خطافًا، فإن الغرض منه أن يعلق في الكفة القدامية، فتكون الخيانة بمقدار وزنه، وتكون جميع موازينهم وأوعيتهم التي لأطعمة الناس نظيفة مصونة بالأغطية والشد عليها.
ويمنعوا أن يسقوا الجبن السناري بالزيت الطيب، ولا بالشيرج؛ لأنه تدليس. وربما فجوه بأفواههم، فيكون ذلك ضررًا لمن يأكله. ولا يغسلوا الجبن الحيسى في مطاهر الحمامات. ويمنع من يرطب التمر بالماء، ومن يرش الماء الممزوج بعسل القصب على الرطب. وكذلك باعة الزيت يمنعون من فجه بالماء، وينهاهم عن بيع ما دون من البطيخ، والقثاء، والتين، والرطب، وما قد تناهى نضجه حتى يهرأ قشره من جميع ذلك. وتكون ملاعق بيع الصابون من خشب، فإن صدأ ملاعق الحديد يبقى في الصابون، فإن طبوعها محرقة لما يتعلق منه في الملابس.
ويعتبر عليهم الزيوت في زمن نفاقها، فإن الزيوت تغش بزيت القرطم في زمنه، إلا أن له دخانًا عظيمًا في النار، وهو يخلط أيضًا في الشيرج لوقته، وكذلك زيت الخس، وهو يعرف بخفته في الوزن، ورقته في الوعاء، وشمه إذا مسح به على ظهر اليد. وقد يخلط الشيرج بالزيت للإنفاق إذا غلا سعره، وجسم الشيرج أخف من جسم الزيت، فلا يمكنهم من ذلك، فإنه غش وتدليس.
وإذا غشوا الخل بالماء، انحبس فيه خشيشة من الراس، فإنها تشرب الماء وتقبله دون
1 / 302