فإن قيل فما الفرق بين وجوب العالم بإيجاب الباري تعالى وبين وجوده بإيجاد الباري تعالى فإن العالم إذا كان ممكنا في ذاته ووجد بغيره فقد وجب به وهذا حكم كل علة ومعلول وسبب ومسبب فإن المسبب أبدا يجب بالسبب فيكون جايزا باعتبار ذاته واجبا باعتبار سببه ثم السبب يتقدم المسبب بالذات وإن كانا معا في الوجود كما تقول تحركت يدي فتحرك المفتاح في كمي ولا يمكنك أن تقول تحرك المفتاح في كمي فتحركت يدي وإن كانت الحركتان معا في الوجود.
والجواب قلنا وجود الشيء بإيجاد موجده صواب من حيث اللفظ والمعنى بخلاف وجوب الشيء بإيجاب الموجب وذلك أن الممكن معناه انه جايز وجوده وجايز عدمه لا جايز وجوبه وجايز امتناعه وإنما استفاد من المرجح وجوده لا وجوبه نعم لما وجد عرض له الوجوب عند ملاحظة السبب لأن السبب إفادة الوجوب حتى يقال وجب بإيجابه ثم عرض له الوجوب بل أفاده الوجود وفصح أن يقال وجد بإيجاده وعرض له الوجود فانتسب إليه وجوده إذ كان ممكن الوجود لا ممكن الوجوب وهذه دقيقة لطيفة لا بد من مراعاتها والذي نثبته أن الواجب والممتنع طرفان والممكن واسطة إذ ليس بواجب ولا ممتنع فهو جايز الوجود وجايز العدم والوجود والعدم متقابلان لا واسطة بينهما والذي يستند إلى الموجد من وجهين الوجود والعدم في الممكن وجوده فقط حتى يصح أن يقال أوجده أي أعطاه الوجود ثم لزمه الوجوب لزوم العرضيات فالأمر اللازم العرضي لا يستند إلى الموجد فأنتم إذا قلتم وجب وجوده بإيجابه فقد أخذتم العرضي ونحن إذا قلنا وجد بإيجاده فقد أخذنا عين المستفاد الذاتي فاستقام كلامنا لفظا ومعنى وانحرف كلامكم عن سنن الجادة ولربما نقول أن الممكن إذا وجد في وقت معين أو على شكل مخصوص يجب وجوده على ذلك الوجه لأن الموجد إذا علم حصوله في ذلك الوقت على ذلك الشكل وأراد ذلك فهو واجب الوقوع لأن خلاف المعلوم مستحيل الوقوع والحصول وإذا كان ممكن الجنس جايز الذات لكن لم يكن وجوب ذلك إلا بإيجاب العلم والإرادة فإذا تحقق أن الوجود هو المستفاد في الحوادث لا الوجوب بطل الإيجاب الذاتي الذي يتحجوا به حين بنوا عليه مقارنة وجود العالم بوجود الباري تعالى ولم يبق لهم إلا التمثيل بمثال وذلك من سخف المقال لأن الخصم ربما لا يسلم أن حركة اليد سبب حركة الكم والمفتاح ولا يقول بالتولد يبقى مجرد فاء التعقيب والتسبيب لفظا في قوله تحركت يدي فتحرك المفتاح وهذا كما أن المادة عند الخصم سبب ما لوجود الصورة حتى يصح أن يقال لولا المادة لما وجدت الصورة وهما معا في الوجود وليس وجود الصورة بإيجاد المادة بل بإيجاد واهب الصور ثم إن سلم ذلك فيجوز أن يسبق السبب المسبب ذاتا ويقارنه زمانا فيكون زمان وجودهما واحدا وأحدهما سبب والثاني مسبب كما يقال في الاستطاعة مع الفعل لكن الممتنع وجود ما له أول مع وجود ما لا أول له وقد بينا أن هذه المعية ممتنعة على الوجود كلها أعني بالذات والوجود والزمان والرتبة والفضيلة فإن التقدم والتأخر والمع يطلق على الشيئين إذا كانا متناسبين نوعا من المناسبة ولا نسبة بين الباري تعالى وبين العالم إلا بوجه الفعل والفاعلية والفاعل على كل حال متقدم والمفعول متأخر يبقى أن يقال هل كان يجوز أن يخلق العالم قبل ما خلقه بحيث يكون نسبة بدوه إلى وقتنا أكثر زمانا فيجاب عنه أن إثبات الأولية والتناهي للعالم واجب تصوره عقلا إذ البرهان قد دل عليه وما وراء ذلك تقدير وهمي يسمى تجويزا عقليا والتقديرات والتجويزات لا تقف ولا تتناهى وهو كما إذا سئلتم هل كان يجوز أن يحدث العالم أكبر مما خلقه بحيث يكون نسبة نهايته إلى مكاننا أكبر مسافة فيجاب عنه إن إثبات الحد والتناهي للعالم واجب تصوره عقلا إذ البرهان قد دل عليه وما وراء ذلك فتقدير ذهني يسمى تجويزا عقليا والتقديرات والتجويزات لا تتناهى فتقدير مكان وراء العالم مكانا كتقدير زمان وراء العالم زمانا وبالجملة حدث العالم حيث يتصور الحدوث والحادث ما له أول والقديم ما لا أول له والجمع بين ما له أول وبين ما لا أول له محال هذا ما نعقله من الحدوث ضرورة وهو كتناهي العالم من الحجمية والجسمية حذو القدة بالقدة.
صفحة ٨