أما تعطيل العالم عن الصانع العالم القادر الحكيم فلست أراها مقالة لأحد ولا أعرف عليه صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية أنهم قالوا العالم كان في الأزل أجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة واصطكت اتفاقا فحصل عنها العالم بشكله الذي تراه عليه ودارت الأكوار وكرت الأدوار وحدثت المركبات ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع بل هو معترف بالصانع لكنه يحيل سبب وجود العالم على البحث والاتفاق احترازا عن التعليل فما عددت هذه المسئلة من النظريات التي يقام عليها برهان فإن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على صانع حكيم عالم قدير " أفي الله شك فاطر السموات والأرض ولئن سألهم من خلقكم ليقولن الله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم " وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء " دعوا الله مخلصين له الدين وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه " ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشريك أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد " ذلك بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا " الآية " وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا " وقد سلك المتكلمون طريقين في إثبات الصانع تعالى وهو الاستدلال بالحوادث على محدث صانع وسلك الأوائل طريقا آخر وهو الاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح لأحد طرفي الإمكان ويدعى كل واحد في جهة الاستدلال ضرورة وبديهة.
وأنا أقول ما شهد به الحدوث أو دل عليه الإمكان بعد تقديم المقدمات دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج في ذاته إلى مدبر هو منتهى الحاجات فيرغب إليه ولا يرغب عنه ويستغني به ولا يستغني عنه ويتوجه إليه ولا يعرض عنه ويفزع إليه في الشدائد والمهمات فإن احتياج نفسه أوضح له من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب والحادث إلى المحدث وعن هذا كانت تعريفاته الخلق سبحانه في هذا التنزيل على هذا المنهاج أمن يجيب المضطر إذا دعاه أمن ينجيكم من ظلمات البر أمن يرزقكم من السماء والأرض أمن يبدأ الخلق ثم يعيده وعن هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " خلق الله تعالى الخلق على معرفته فاحتالهم الشيطان عنها " فتلك المعرفة هي ضرورة الاحتياج وذلك الاحتيال من الشياطين هو تسويله الاستغناء ونفي الاحتياج والرسل مبعوثون لتذكير وضع الفطرة وتطهيرها عن تسويل الشيطان فإنهم الباقون على أصل الفطرة " وما كان له عليهم من سلطان " وقال " فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى " وقوله " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " ومن رحل إلى الله قربت مسافته حيث رجع إلى نفسه أدنى رجوع فعرف احتياجه إليه في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله وأنحائه ثم استبصر في آيات الآفاق إلى آيات الأنفس ثم استشهد به على الملكوت لا بالملكوت عليه " أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد " عرفت الأشياء بربي وما عرفت ربي بالأشياء ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ومن تعالى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط فثبت بالدلائل والشواهد أن العالم لا يتعطل عن الصانع الحكيم القادر العليم سبحانه وتقدس.
وأما تعطيل الصانع عن الصنع فقد ذهب وهم الدهرية القائلين بقدم العالم إلى أن الحكم بقدم العالم في الأزل تعطيل الصانع عن الصنع وقد سبق الرد عليهم بأن الإيجاد قد تحقق حيث تصور الإيجاد وحيث ما لم يتصور لم يكن تعطيلا وكما أن التعطيل ممتنع كذلك التعليل ممتنع وأنتم عللتم وجود العالم بوجوده وسميتم معبودكم علة ومبدا وموجبا وذلك يودي إلى أمرين محالين أحدهما بثبوت المناسبة بين العلة والمعلول وقد سبق تقريره والثاني أن العلة توجب معلولها لذاتها والقصد الأول وجود العالم من لوازم وجوده بالقصد الأول فإن العالي لا يريد أمرا لأجل الأسفل فبطل أيضا التعليل وهذا من الإلزامات المفحمة التي لا جواب عنها.
صفحة ٤٢