فلا تغفل عن هذه الدقيقة وافرق في المعقولات بين تقدير المحال لفظا أو فرضا وبين تجويزه عقلا أو عقدا واعلم أن التقدير المذكور في الكتاب فرض محال لفظا ليس بطلانه عقلا.
سؤال على وجه دلالة الفعل فإن قيل صادفنا في الموجودات خيرا أو شرا أو نظما وفسادا ووجه دلالة الخير يخالف وجه دلالة الشر بل وجود الخير يدل على مريد الخير ووجود الشر يدل على مريد الشر ومريد الخير على الإطلاق لا يكون مريدا للشر على الإطلاق كما أن مريد الخير في فعل مخصوص لا يكون مريد الشر في ذلك الفعل بعينه فاختلاف وجه دلالة الفعل بالتضاد دل على اختلاف الفاعلين بالتضاد وكما أنكم استدللتم بأنه لو كان معه إلاه لفسدت السموات والأرض فنحن نستدل بفساد فيهما خيرا أو شرا على إلاهين اثنين.
والجواب على قاعدة المتكلمين: قال المحققون منهم وجه دلالة الفعل على الفاعل هو الجواز والإمكان وترجح جانب الوجود على العدم وذلك لم يختلف خيرا كان أو شرا فالوجود من حيث هو وجود خير كله أو يقال لا خير فيه ولا شر والفعل من حيث وجوده ينسب إلى الفاعل لا من حيث هو خير أو شر والفاعل يريد الوجود من حيث هو وجود لا من حيث هو خير أو شر بل الخير والشر إما أمران إضافيان بأن يكون شيء خيرا بالإضافة إلى شيء شرا بالإضافة إلى شيء وإما أمران شرعيان فيرجع الحسن والقبح والخير والشر فيه إلى قول الشارع افعل لا تفعل وهذا هو جوابنا عن قول المعتزلة حيث قالوا في إرادة الكائنات أنه لو كان مريدا للشر لكان شرا فإن الشر لم ينسب إليه إلا من جهة وجوده والوجود من حيث هو وجود لا شر فيه وهو مريد لموجود بمعنى أنه على صفة يتأتى منه التخصيص بالوجود دون العدم وببعض الجائزات دون البعض فلم يكن مريدا للشر في الحقيقة.
ونقول للتنويه أنا كما صادفنا في الموجودات خيرا وشرا متمايزين فقد صادفنا في الموجودات خيرا وشرا مختلطين فإن عالم الخير المحض هو عالم الملائكة وعالم الشر المحض هو عالم الشياطين وعالم الاختلاط والامتزاج هو عالم البشر فهلا أثبتم ثالثا ينسب إليه الامتزاج فإن الممتزج من حيث هو ممتزج على طبيعة غير ما كان المنفرد عليها فهلا كانت الطبيعة المذكورة دالة على ثالث لكن قلتم الخير والشر لم يختلفا بالامتزاج بل دلالتهما واحد كمذلك نقول لم يختلفا في الوجود فإن دلالة الوجود واحدة.
وقد سلك الفلاسفة الإلهيون طريقة أخرى في الوحدانية فأجابوا عن هذا السؤال على طريقتهم: فأما طريقتهم قالوا قد شهد العقل الصريح بأن الوجود ينقسم إلى ما يكون واجبا في ذاته وإلى ما يكون ممكنا في ذاته وكل ممكن فإنما يترجح جانب الوجود منه على جانب العدم بمرجح فإما أن تذهب الممكنات إلى غير نهاية أو تقف على واجب بذاته غير ممكن لكنها لو ذهبت إلى غير النهاية لما وجدت إذ كان يتوقف وجود كل ممكن على سبق وجود مرجحه وذلك محال فلا بد أن يقف على واجب بذاته ثم الواجب بذاته لا يجوز أن يكون لذاته مبادي يجتمع منها واجب الوجود لا أجزاء كمية ولا كالمادة والصورة والجنس والفصل فإن المبادي يجب أن تكون سابقة على ذات واجب الوجود ويكون واجبا بها لا بذاته وقد فرضنا الواجب بذاته فهذا خلف ولو قدرنا اثنين واجبي الوجود اشتركا في كون كل واحد منهما واجب الوجود فلا بد أن ينفصل أحدهما عن الثاني بفصل يخصه فيكون وجوب الوجود مشتركا فيه وهو ذاتي لهما فيكون جنسا وما يخص أحدهما دون الثاني فصلا ويكون ذاته متركبا منهما ويجب أن تكون الأجزاء متقدمة بالذات على ذاته فهو خلف فإذا نوع واجب الوجود سواء أطلق إطلاقا أو خصص تخصيصا لا يجوز أن يكون إلا واحدا فوجوده وجوبه ووجوبه حقيقته وحقيقته وحدته ووحدته تخصصه وتعينه من غير أن يتمايز وجوب عن وجود ووجود عن ماهية وحقيقة وعن هذا نفوا صفات الباري تعالى زائدة على الذات كما سيأتي تفصيل ذلك في مسئلة الصفات إن شاء الله تعالى.
ثم جرحوا دلالة الخير والشر بل وقوع الشر في الوجود على مذهبهم.
صفحة ٣٤