قيل وكلامنا في أصل الحوامل لم انحصر في عدد معلوم فلم انحصرت السماوات في سبع أو تسع ولم انحصرت العناصر في أربعة ولم انحصرت المركبات في عدد معلوم ولم تناهت هذه الموجودات فهلا ذهبت السموات إلى غير نهاية مكانا كما ذهبت حركاتها إلى غير نهاية زمانا.
فإن قلتم منعنا من ذلك برهان عقلي على أن العالم متناه مكانا قلنا ومنعنا عن ذلك أيضا ذلك البرهان بعينه كما بينا وكل ما ذكرتموه في العناية الإلهية التي أوجبت ترتيب الموجودات على نظامها الأكمل نقدره نحن في الإرادة الأزلية التي اقتضت تخصيص الموجودات على النظام الذي علمه أو ليس لم يكف على أصلكم مجرد وجود مطلق حتى خصصتم بالوجوب ولم يكف الوجوب حتى خصصتم بالتعقل ولم يكف التعقل حتى خصصتم بالعناية ثم عدتم فقلتم هذه صفات إضافية أو سلبية لا توجب تكثرا في ذاته وتغيرا فما سميتموه تعقلا نحن نقول هو علم أزلي وما سميتموه عناية نحن نقول هو إرادة أزلية فكما أن العناية عندكم ترتبت على العلم فعندنا الإرادة إنما تتعلق بالمراد على وفق العلم فلا فرق بين الطريقين إلا أنهم ردوا معاني الصفات إلى الذات وعند المتكلمين معاني الصفات لا ترجع إلى الذات فالأولى بالمناظرة في هذه المسئلة أن يدفع الخصم إلى تعيين محل النزاع وتبيين مذهبه فيستفيد بذلك بطلان مذهب الخصم فإن يقول أول ما صدر عن الباري تعالى فهو العقل الأول لأنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد ثم العقل أوجب عقلا آخر ونفسا وجسما هو فلك الأفلاك وبتوسط كل عقل عقلا ونفسا وفلكا حتى انتهت الأفلاك بالفلك الأخير الذي يديره العقل الفعال الذي هو واهب الصور في العالم وبتوسط العقول السماوية والحركات الفلكية حدثت العناصر وبتوسطها حدثت المركبات وآخر الموجودات هي النفس الإنسانية لأن الوجود ابتدأ من الأشرف فالأشرف حتى بلغ إلى الأخس وهو الهيولي ثم ابتدأ من الأخس فالأخس حتى بلغ الأشرف فالأشرف وهو النفس الناطقة الإنسانية.
فيقال لهم هذه الموجودات السفلية على هيئتها وأشكالها من أنواعها وأصنافها التي تراها أوجدت دفعة واحدة أم على ترتيب فإن وجدت دفعة واحدة بطل الترتيب الذي أوجده في وجود الموجودات وإن حصلت على ترتيب شيئا بعد شيء فأنى تحقق سبق ذاتي وتأخر ذاتي بين المعلول الأول والمعلول الأخير.
ونقول ما نسبة المعلول الأخير إلى المعلول الأول من حيث الزمان وهما وإن كانا في ذواتهما غير زمانيين إلا أن النفس الإنسانية حدثت حدوثا لم تكن قبل ذلك موجودة فتحقق لها أول فما نسبة أولية النفس إلى العقل الأول فإن كان بينهما نفوس غير متناهية حدثت في أزمنة غير متناهية كان غير المتناهي محصورا بين حاصرين وذلك محال وإن كانت متناهية فبطل قولهم أن الحوادث لا تتناهى إذ لو كانت الحركات السماوية غير متناهية كانت الموجودات السفلية غير متناهية أيضا وحصل من نفس بيان المذهب بطلانه ثم هم منازعون في الترتيب الذي ذكروه فإن أصحابهم قد اختلفوا في المبادي اختلافا ظاهرا فمنهم من قال أول الموجودات هو العنصر ثم العقل ثم النفس ثم الجسم ومنهم من قال العقل ثم النفس ثم الهيولي ثم الأفلاك ثم العناصر ثم المركبات كما سيأتي بيان ذلك.
شبهة من شبه برقلس قال الباري سبحانه جواد بذاته وعلة وجود العالم جوده وجوده قديم لم يزل فيلزم أن يكون وجود العالم قديما لم يزل قال ولا يجوز أن يكون مرة جوادا ومرة غير جواد فإنه يوجب التغير في ذاته قال ولا مانع من فيض جوده إذ لو كان مانع لما كان من ذاته إذ المانع الذاتي مانع أبدا وقد تحقق الجود بإيجاد الموجود فهو خلف ولو كان المانع من غيره كان الغير هو الحامل لواجب الوجود وواجب الوجود لا يحمل على شيء ولا يمنع من شيء.
شبهة أخرى تقارب هذه الشبهة قال ليس يخلو الصانع من أن يكون لم يزل صانعا بالفعل أو لم يزل صانعا بالقوة فإن كان الأول فالمصنوع معلول لم يزل وإن كان الثاني فما بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بمخرج ومخرج الشيء من القوة إلى الفعل غير ذات الشيء فيجب أن تتغير ذات الصانع لمغير وذلك باطل.
شبهة أخرى قال كل علة لا يجوز عليها التحرك والاستحالة فإنما تكون علة من جهة ذاتها لا من جهة الانتقال من غيرها وكل علة من جهة ذاتها فمعلولها من جهة ذاتها وإذا كانت ذاتا لم تزل فمعلولها لم يزل.
صفحة ١٦