أما الأولى فنحن قد بينا استحالة وجود أمر جايز في ذاته مع وجود موجود واجب في ذاته في الأزل من وجهين أحدهما استحالة اقتران وجود ما لا أول له مع وجود ما له أول فإن الجمع بينهما من المحالات والوجود الواجب لذاته يجب أن يتقدم الوجود الجايز لذاته تقدما ما في وجوده بحيث يكون الواجب موجودا ولا وجود معه لا من حيث الوجود ولا من حيث الذات ولا من حيث الزمان ولا من حيث الرتبة والمكان ولا من حيث الفضيلة وبالجملة فحيث ما تحقق الجواز والإمكان في شيء تحقق نفي الأزلية عنه وإثبات الأولية له واقتران الأزلية والأولية في شيء واحد محال وقولكم العالم جايز الوجود وكل جايز وجوده يجب وجوده أزلا وأبدا جمع بين قضيتين متناقضتين ومن اعترف بالجواز والإمكان فقد سلم المسئلة من كل وجه فإن الشيء إذا تطرق إليه الجواز في الوجود من وجه تطرق إليه الجواز من ساير الوجوه أعني الوقت والمقدار والشكل إذا كان الموجود قابلا لها أو لواحد منها والداير بين وجوه الجواز إذا تخصص بأحد الجايزين دون الثاني احتاج إلى مخصص وانتفى الوجوب والدوام عنه.
وأما الوجه الثاني في بيان الاستحالة أن الحوادث التي لا تتناهى قد تبين استحالتها.
فإن قيل ما المانع من وجود العالم في الأزل كان الجواب استحالة حوادث لا تتناهى لما بينا من البرهان الدال عليه.
وأما الكلام على المقدمة الثانية وهي أن ما يجوز وجوده يجب وجوده.
قلنا هذا الكلام أولا متناقض لفظا ومعنى أما اللفظ فإن الجواز والوجوب متناقضان إلا أن يقال أن ما يجوز وجوده في ذاته يجب وجوده بغيره قيل وهذا أيضا باطل فإن الوجوب بالغير إنما يكون بإيجاب الغير والجايز إنما يحتاج إلى الواجب في وجوده لا في وجوبه فيكون وجوده بايجاد الغير ثم يلزمه من حيث النسبة وجوبه وقد تبين هذا المعنى فيما قبل وأما التناقض من حيث المعنى فهو أن الجايز وجوده مما لا يتناهى فلو كان ما جاز وجوده وجب وجوده لوجد ما لا يتناهى دفعة واحدة وإذا شرط الترتيب في الذوات حتى حصل في الوجود أول ثم ثان ثم ثالث ثم ينتهي إلى موجودات محصورة كذلك يشترط الترتيب في الموجود حتى حصل موجود له أول ثم ثان ثم ثالث فالترتيب في الذوات تقدما وتأخرا كالترتيب في الموجودات أولا وآخرا وهذا بناء على ما ذكرناه من إثبات قسم آخر في أقسام التقدم والتأخر وذلك واجب الرعاية.
وأما الكلام في المقدمة الثالثة وهي المغلطة الزباء والداهية الدهيا وكثيرا ما كنا نراجع أستاذنا وإمامنا ناصر السنة صاحب الغنية وشرح الإرشاد أبا القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري فيها ويتكلم عليها فما يزيد فيها على أن إثبات وجه فاعلية الباري سبحانه وتعالى مما يقصر عن دركه عقول العقلا ثم الذي كان يستقر كلامه عليه إن قال ثبت جواز وجود العالم عقلا وثبت حدوثه دليلا ويعرف أن ما حدث بذاته فيجب نسبة حدوثه إلى واجب الوجود بذاته والخصم إنما يطالب بوجه النسبة فإن الموجد إذا كان لا يوجد وأوجد فنسبة الحادث إليه قبل الإيجاد كنسبته إليه حال الإيجاد وبعده ولم يحدث أمر ما ولا سبب فلم وجد ولم أوجد وبالجملة فما معنى الإيجاد والإبداع إن قلت انه علم وجوده في هذا الوقت وأراد وجوده فيه قيل العلم عام التعلق والإرادة عامة التعلق فنسبة وجوده إلى الإرادة العامة في هذا الوقت على هذا الشكل كنسبة وجوده في غير هذا الوقت على غير هذا الشكل وكذلك القول في القدرة فإنها في عموم تعلقها كالإرادة والعلم فلا خصوص في الصفات فكيف يختص الفعل وهذا الموضع منشأ ضلال بعض المتكلمين فإن الكرامية أثبتوا حوادث في ذات الباري تعالى من الإرادة والقول وهي التي تخصص العالم بالوجود دون العدم والمشية القديمة تتعلق عندهم تعلقا عاما والإرادة تعلق تعلقا خاصا وفرقوا بين الأحداث والمحدث والخلق والمخلوق والمعتزلة أثبتوا إرادات حادثة لا في محل هي التي تخصص العالم بالوجود دون العدم ولم يفرقوا بين الأحداث والمحدث والخلق والمخلوق والأولى أن نسلك في حل الإشكال طريق إبطال مذهب الخصم ثم نشير إلى ما يلوح للعقل من معنى الإيجاد.
صفحة ١٤