وأما امتياز النفس الإنسانية عن الأجسام وقواها وسائر النفوس المزاجية من جهة حالاتها فإحدى حالاتها وهي على مراتب فمنها حركاتها من قوة الاستعداد العلمي والعملي إلى الكمال ولما لم تكن هيولى عقلها الهيولاني على مثل هيولى سائر الأجسام لم تكن حركاتها من القوة إلى الفعل على مثل تلك الحركات بل أولى صورة لبستها الهيولى الجسمانية هي الأبعاد الثلاثة من الطول والعرض والعمق وأولى صورة لبستها الهيولى النفسانية هي الأحوال الثلاثة من العقل المستفاد والعقل بالملكة والعقل بالفعل على ترتيب الأول والثاني والثالث وإنما يتصور ذلك الترتيب إذا كان ثم تحرك من مبدأ إلى كمال وإنما تتصور الحركة حيث يتحقق ثم زمان وهاهنا للنفس حالة أخرى غير زمانية وراء الأحوال الثلاثة وهي حالة المنام فإنك لا تشك في نفسك أنك ترى في المنام الصادق أحوالا كثيرة من حضورك في قصورك وترددك بين رباع وديار وتقلبك بين أشجار وجنات وأنهار ومكالمتك كلاما كثيرا من سؤال وجواب وخبر واستخبار وقصة طويلة لو عبرت عنها في اليقظة لوسعتها أوراق وضاق عن بسطها بيان وبنان وكل ذلك في لحظة واحدة كأنها طرفة عين وكما غفوت رأيت جملة من ذلك ثم يعبر عنها بعبارات كثيرة وربما يظن أن مثاله مثال انطباع صورة في المرآة في لحظة وهذا إن صدق مثالا في الصورة المبصرة فكيف يصدق في الكلام الكثير من السؤال والجواب فإنها لا تنطبع معا في المرآة إذ لا بد من تعاقب حروف ولا بد للتعاقب من أزمنة متتالية حتى تدركها النفس وقد يرى الرائي في المنام أنه ختم القرآن ويذكر انتقالات ذهنه من سورة إلى سورة ومن آية إلى آية كل ذلك خطرة ولحظة فيعلم من ذلك ضرورة أن المدرك لذلك لو كان جسما أو قوة في جسم لاستدعى محلا لهذه الإدراكات تتعاقب عليه المعاني والصور وتتتالى عليه الآيات والسور ويستدعي ذلك التعاقب زمانا وأوقاتا وتقدما وتأخرا فاطلع من ذلك على أن النفس ليست من جنس الأجسام والأجرام فإن إدراكاتها التي لها بالذات ليست من جنس الإدراكات الحسية بالآلات الجسمانية وأنها فوق المكان والزمان جوهرا وإدراكا وليست هذه الحالة مخصوصة بالمنام بل وفي حالة اليقظة لها ثلاثة أحوال أحدها أن يرتسم فيها صورة المعلومات مفصلة مسئلة مسئلة والثانية أن ترتسم فيها جملة غير مفصلة لكن يحصل لها قوة وهيئة تقوى بها على تلك المسائل والثالثة أن يحصل لها من العقل بالفعل والملكة في الفعل أنه إذا سمع كلاما في المناظرة مشتملا على شبهة وقع في خاطره جواب ذلك في أوحى ما يقدر وأسرع ما ينتظر كأنه معنى واحد ثم يعبر عنه بعبارات كثيرة ويبسطه بسطا واسعا يشمل أوراقا ويملأ أسماعا فتحدس من ذلك أن النفس الإنسانية لو كانت من جملة الأجسام لما كان حالها كما وصفنا ولو كانت من عداد سائر النفوس الحيوانية المزاجية لما كان إدراكها إدراكا غير زماني وحال اليقظة فيما ذكرنا بحال الأنبياء أشبه وحال المنام بحال الأولياء أقرب فقد تبين مما ذكرنا أن النفس الإنسانية ليست من شبح الأجسام التي تتناهى بالحدود وتنقسم بالقسم وإن النطق الذي لها ليس من جملة النطق اللساني الذي يختلف بالأمصار والأمم وأنها هي الأصل في الإنسانية والمخاطبة بالأحكام التكليفية.
اعترض عليهم معترض من وجوه ثلاثة أحدها اعتراض على الحدود والرسم الذي ذكروه والثاني اعتراض على خواص أفعالها والثالث اعتراض على إدراكاتها وأحوالها وردها إلى مدرك آخر.
صفحة ١١٧