وأما الفلاسفة فالنطق عندهم يطلق على نطق اللسان وهو حروف منظومة بأصوات مقطعة في مخارج مخصوصة نظما يعبر عن المعنى الذي في النفس بحكم الاصطلاح والمواضعة أو بحكم التوقيف والمصادرة ويطلق النطق على التمييز العقلي والتفكير النفساني والتصوير الخيالي وهو معان في ذهن الإنسان مختلفة الاعتبار فإن اعتبرت بمجرد العقل كان تمييزا صحيحا بين الحق والباطل ويلزمه أن يكون معاني كلية مجردة متحدة متفقة فإن اعتبرت بمجرد النفس كان تفكيرا وترديدا بين الحق والباطل حتى يظفر بالحد الأوسط فيطلع على الدليل المرشد والعلة والسبب ويلزمها أن تكون ذاتية كلية أو جزئية بسيطة أو مركبة ويلزمها أن تكون ذاتية أو عرضية موجبة أو سالبة موجهة أو مطلقة يقينية أو غير يقينية منتجة أو غير منتجة وإن اعتبرت بمجرد الخيال كانت تقديرا أو تصويرا فتارة تصوير المحسوس بالمعقول وتارة تقدير المعقول في المحسوس ويلزمها أن تكون من جانب المحسوس عربيا أو عجميا أو هنديا أو روميا أو سريانيا أو عبرانيا ومن جانب المعقول أن يكون بسيطا في صورة مركبة ومركبا على نعت بسيط وذاتيا مع عرضي ويقينا مع وهم وأول ما يرد على السمع حرف وصوت يحصل في الهوى بسبب تموج يقع بحركة شديدة تحدث من قرع بعنف أو قلع بحدة فإن كان من قرع اصطك الجسمان وانضغط الهوى بشدة وحدث الصوت وإن كان من قلع انقطع الجسمان وانفلت الهوى بشدة وحدث الصوت ووصل الموج إلى الهوى الراكد الذي في الصماخ وانفعل به وهو مجاور للعصبة المفروشة في أقصى الصماخ الممدودة مد الجلد على الطبل فيحصل فيه طنين فتشعر به القوة المودعة في تلك العصبة فيصل إلى القوة الخيالية فيتصرف الخيال فيه تقديرا فيصل إلى القوة النفسانية فتتصرف النفس فيه تفكيرا فيصل إلى القوة العقلية فيتصرف العقل فيه تمييزا وللمعنى صعود من المحسوس المسموع إلى المعقول المعلوم صعودا من الكثرة إلى الوحدة ونزول من المعقول المعلوم إلى المحسوس المسموع نزولا من الوحدة إلى الكثرة والعرفان مبتدئ من تفريق ونفض وترك ورفض ممعن في جمع هو جمع صفات الحق للذات المريدة للصدق ثم انتهى إلى الوحدة ثم وقوف وهذا من حيث الصعود والعرفان مبتدئ من توحيد وتفكير وتمييز وتصوير ممعن في معرفة هي معرفة صفات الخلق ثم انتهى إلى الكثرة ثم وقوف وهذا من حيث النزول.
وصار أبو الهذيل والشحام وأبو علي الجبائي إلى أن الكلام حروف مفيدة مسموعة من الأصوات غير مسموعة مع الكتابة وصار الباقون من المعتزلة إلى أن الكلام حروف منتظمة ضربا من الانتظام والحروف أصوات مقطعة ضربا من التقطيع وهل يجوز وجود حروف من غير أصوات كما جاز وجود أصوات من غير حروف فيه خلاف بينهم.
وصار أبو الحسن الأشعري إلى أن الكلام معنى قائم بالنفس الإنسانية وبذات المتكلم وليس بحروف ولا أصوات وإنما هو القول الذي يجده العاقل من نفسه ويجيله في خلده وفي تسمية الحروف التي في اللسان كلاما حقيقيا تردد أهو على سبيل الحقيقة أم على طريق المجاز وإن كان على طريق الحقيقة فإطلاق اسم الكلام عليه وعلى النطق النفسي بالاشتراك.
صفحة ١١١