7
وفي أحيان أخرى يتخذ هذا النقد طابع الثورة الساخطة، فيتساءل: «أيكون إلها خيرا ذلك الذي يعلم كل شيء، ويقدر على كل شيء، ولا يعبأ مع ذلك بأن تكون مقاصده مفهومة لمخلوقاته ... ألا يكون إلها شريرا ذلك الذي يملك الحقيقة، ويرى ذلك العذاب الأليم الذي تعانيه البشرية من أجل الوصول إليها؟»
8
على أنه يؤكد بعد ذلك أن كل هذه الأنواع من النقد ليست حاسمة. «فمن قبل كان المرء يسعى إلى أن يبرهن على أنه ليس ثمت إله، واليوم يبين المرء كيف أمكن أن «ينشأ» الاعتقاد بوجود إله، وإلى أي شيء ترتد أهمية هذا الاعتقاد وقوة تأثيره. وفي هذه الحالة يكون البرهان الآخر على أنه ليس ثمت إله؛ يكون هذا البرهان سطحيا؛ ذلك لأنه عندما كان المرء من قبل يفند البراهين القديمة على وجود الله، كان يظل هناك شك دائم في احتمال كشف براهين أفضل من تلك التي فندت.»
9
فالتفنيد التاريخي إذن هو التفنيد الحاسم. وإذا استطاع الفيلسوف أن يثبت أن هذه الفكرة قد «نشأت»؛ أعني أن لها أصلا تاريخيا أو نفسيا معينا، وأنها قد ظهرت لكي تفي بمقتضيات إنسانية خاصة في ظروف معينة، فعندئذ يكون في نفس الوقت قد قضى على ما تنطوي عليه الفكرة من ثبات وأزلية، وفي هذا قضاء على الفكرة ذاتها.
ولقد أوضحنا من قبل أمثلة للأحوال النفسية المنحرفة التي تؤدي - في رأي نيتشه - إلى ظهور الروح الدينية والآلهة، وكلها ترمي إلى هدف واحد، هو أن تثبت أن الفكرة قد «نشأت»، وأن نشأتها راجعة إلى ظروف معينة. وهو من جهة أخرى يبحث في نشأة الفكرة من الوجهة التاريخية، فيقارن بين تصور الله في مختلف الأديان، وينتهي إلى وجود اختلاف أساسي بين هذه التصورات مما يقضي عليها كلها معا. وهو يحمل بوجه خاص على تصور الألوهية في المسيحية واليهودية؛ فهذا التصور مرتبط برغبة الإنسان في معاقبة نفسه، ومرتبط بشعوره بالذنب؛ وهذه الرغبة والشعور هي التي تتجسم في فكرة الله ذاتها، فتصوره على نحو مضاد للإنسان تماما، وتنسب إليه من الأوامر ما يقف في وجه الطبيعة البشرية ويعوق سيرها التلقائي. ويؤكد نيتشه أن الارتباط بين الأمرين؛ أعني بين تصور الألوهية وبين الحملة على الطبيعة البشرية، ليس ضروريا. فهناك شعوب تصورت آلهتها على نحو مخالف تماما لفكرة الشعور بالذنب هذه؛ فعند اليونان مثلا يؤله الإنسان ما هو إنساني - وربما ما هو حيواني - فيه، وتختفي تماما فكرة الخطيئة والذنب، ولا يدأب على لوم نفسه والحط من قدرها، كما هو الحال في المسيحية.
10
والحق أن نظرة نيتشه إلى المسيحية كانت تتأثر دائما بعاملين رئيسيين: أولهما نقده للروح الدينية بوجه عام، وهو النقد الذي امتد ضرورة إلى المسيحية بوصفها الصورة الرئيسية لتلك الروح الدينية في المجتمع المحيط به. وأما العامل الثاني، فهو تعلقه بكل ما هو يوناني، حتى يكاد المرء يحس في كتاباته تمجيدا للعقائد اليونانية ذاتها! وعلى أية حال، فقد كان نمط الحياة اليونانية في رأيه أرفع بكثير من نمط الحياة المسيحية؛ ذلك لأن العقائد اليونانية لم تكن تقف في وجه نمو القوى الطبيعية للإنسان، بينما كانت العقائد المسيحية واليهودية عنده عقبة كبرى تحول دون نمو هذه القوى.
ومن العجيب حقا أن نيتشه يذكر، ضمن أسباب حملته على المسيحية، أنها تعتمد على المشاعر أكثر مما تعتمد على العقل؛ أي إنها كانت رد فعل على النزعات الفلسفية العقلية السابقة عليها، والتي سادت العصر اليوناني؛ فالفضائل المسيحية ليست انتصارا للعقل على المشاعر، كما قال الفلاسفة الإغريق، بل إنها كلها تنبع من مشاعر أو انفعالات معينة، مثل «حب» الله، و«خشية» الله، و«الإيمان» بالله، و«الأمل» في الله.
صفحة غير معروفة