خاتمة
نيتشه والتأمين ضد أحداث الحياة وصروفها
1
أعتقد أن أي شخص يقضي وقتا طويلا بصحبة نيتشه، ويعامل كتاباته ليس باعتبارها مجرد «نصوص» يجب شرحها وإنما باعتبارها تجارب في الحياة يكون القارئ مدعوا للمشاركة فيها، لا بد أن ينتابه أحيانا إحساس بالنفور، الذي يتناوب معه إحساس بالإثارة والامتنان اللذين يشعر بهما المرء بفضل وفرة آراء نيتشه وحداثة تناوله للعديد من الموضوعات المستهلكة. آمل أن تكون الفصول السابقة من هذا الكتاب قد أوضحت قدرا من دفء تجاوبي تجاه نيتشه؛ لأني أرغب الآن في تسجيل بعض ردود الأفعال التي يستثيرها داخلي عندما أمر بحالة من الشك والريبة. في البداية، ما سأفعله هو الإسهاب في الحديث عن بعض النقاط التي سبق أن أشرت إليها بالفعل، ولكنها تبدو لي في هذه اللحظة أنها ذات قيمة أكبر مما كنت أشعر بها أحيانا، أو أكبر بلا شك مما سأشعر بها مجددا. وبما أنه مصمم - كما رأينا - سواء هو ومتحدثه الرسمي زرادشت ، على ضم أكثر المريدين معارضة، فسوف أعمد إلى إثارة بعض المسائل الجوهرية حول مناهجه وآرائه، وهي مسائل أولية في أغلبها ولكن يجب عدم إخفائها في هذا الصدد. تنبع كل من المسائل المنهجية والأساسية من الإحساس بأن أيا كان ما يزاوله نيتشه، فإنه كاتب مصمم ليس فقط على ألا يخدع، بل أيضا ألا يكون عرضة للخداع، ولهذا يشعر الدارس الجاد - مثلما يشعر عند قراءة فيتجنشتاين - أنه عاجلا أو آجلا ما يوقع به دائما ككبش فداء.
إن أكثر الأدوات شيوعا التي يستخدمها نيتشه ليعصم نفسه من أي انتقادات هي ادعاء أنه لا يجزم بأي شيء قطعا، على الرغم من المظاهر الواضحة التي تدل على عكس ذلك؛ وهي الحالة التي سأحاول أن أبرهنها والتي ينجذب إليها نيتشه بشدة على الرغم من أنني لا أشك في أنه كان سينكر ذلك بانفعال. إنه مستكشف ومجرب، مصمم فقط على أن يكون مثالا يحتذى في كيفية «اكتشاف المرء طريقه الخاص» - هذا إذا استعرنا العبارة المذكورة في «العلم المرح» 338 - وهو أمر صعب للغاية لدرجة أن المدافعين عن دين الشفقة دائما ما يتدخلون في شئون الآخرين لكي يتجنبوا الأمور الأشد قسوة في حياتهم الخاصة. وبما أن نيتشه مهتم فقط بأولئك الأفراد الذين يتوسم فيهم العظمة، فإنه بالضرورة يلزم نفسه بدرجة قصوى معينة من الفردية. ويعني هذا أن المرء يمكن أن يكون مرشحا للعظمة بشرط أن يعرف نفسه، من بين أمور أخرى، بصفته نقيضا للآخرين. ومن ثم، سيظل المرء دائما - طوعا أو كرها - واضعا الآخرين نصب عينيه، وهو الثمن الذي سيضطر أي شخص مؤمن بالفردية أن يدفعه، بأي نسبة في أي مرحلة متقدمة من ثقافته. إنه من دون شك ثمن سيضطر نيتشه إلى دفعه، مثلما يوضح توبيخه المطول لمعاصريه دون كلل. وهو يحب أن يعطي انطباعا باللامبالاة المتغطرسة تجاه الآخرين؛ ومع هذا فهو مفتون بصور الانحطاط المتنوعة التي يظهرونها حتى إنه لا يحلل أيا منها بدقة، ولا يوضح أننا «نحن الآخرين» لسنا كذلك.
ما أحاول إثباته هو أن نيتشه يعتقد فيما يبدو أن منهجيته التجريبية واللادوجماتية، علاوة على الادعاء الشديد الأهمية الذي صاغه قائلا: «إنني لست متعصبا بما يكفي لنظام ما، ولا حتى لنظامي «أنا»»، تقحمه في شكل من أشكال استقلالية المنظور وكذلك استقلالية المبدأ الأساسي. ولكني لا أرى سببا في ألا يعتقد المرء أن الأمر راجع إليه فيما يتعلق باستنباط أساس لآرائه الأخلاقية، وأن يستنتج أن أفضل شيء بالنسبة إليه هو أن يصوغ نفسه بناء على شخص آخر. وإذا لم يصدق المرء على نحو بديهي أنه لكي يكون نفسه يعني أن يكون مختلفا جذريا عن أي شخص آخر، فلن يكون ثمة خلاف، ولا حتى على نحو أولي، حول كون المرء فرديا والاعتقاد بأن أفضل شيء يمكن للمرء عمله هو النظر إلى شخص آخر بصفته قدوته. ستظل درجة تجميل نيتشه للأخلاق أمرا قابلا للمناقشة، ولكن الجانب الوحيد الذي تبدو فيه وخيمة بالفعل هي فكرة أنه مثلما أن الأعمال الفنية يجب الآن أن تكون أصلية بصورة تتخطى مجرد تميزها عن غيرها، فكذلك الأفراد أيضا يحملون مطلبا أخلاقيا مماثلا مفروضا عليهم. ومثلما أشرت في الفصل الخامس، فإن العلاقة بين الأعمال الفنية، على أي نحو في ثقافتنا، تختلف إلى حد ما عن العلاقة بين الأشخاص. ويبدو أن نيتشه يعتقد أن مجموعة من الأشخاص المتشابهين بدرجة بالغة سيكونون مملين وغير مجدين مثل مجموعة من الأعمال الفنية المتشابهة بدرجة بالغة. وإذا ألقيت على العالم نظرة بانورامية، وهو أمر أحيانا ما يتظاهر نيتشه بعمله، فقد تكون النتيجة أن يعتريك الضجر تجاه «الرجل العادي»، ولو كان الناس شديدي الشبه بعضهم ببعض، إذن فقد يسأم منهم أي شخص؛ وحتى مرحلة معينة قد يكون الوضع أيضا أن يصير الأفراد الذين يشجعون وحدة المنظور مملين. لكن نادرا ما يحتاج المرء إلى الانتقال من هذا إلى تطرف المطالبة بأن يتسم كل شخص بأرقى صورة ممكنة. وطبقا للتعريف، فإن العظمة صفة نادرة. ولا يعني هذا أنه يجب ازدراء معظم الأفراد أو النظر إليهم بصفتهم غير ضروريين نظرا إلى عدم تحليهم بهذه الصفة أو عدم تطلعهم إليها .
أحد أسباب حماس نيتشه البالغ تجاه عدم تغيير معتقدات الناس هو أنه على الرغم من إلحاحه علينا كي نكون أنفسنا، ويكون لكل منا طابعه المميز، فإنه لا يلزم نفسه بأي مثل أعلى يجب استكشافه والدفاع عنه. بيد أن المصطلحات التي يستخدمها في مديحه - تلك التي يحاول أن يبقيها رسمية تماما - هي تلك التي تمكننا من انتقاء أفراد معينين لأنهم يظهرون الصفات التي تحددها هذه المصطلحات. فعلى سبيل المثال: يعتبر «الانتصار على الذات» مصطلحا «مطلقا» إلى حد ما؛ فيمكننا أن نقول: إن جوته انتصر على نفسه؛ لأننا نعلم أنه من دون اهتماماته الخاصة لربما لم يصبح أكثر من مجموعة أفكار متناثرة، بل ولفقد تدريجيا قدرته على التأثير بها، ولكن بدلا من هذا كان كلا مؤثرا على نحو مدهش، ولهذا تأثر نيتشه به كثيرا في كتاباته اللاحقة، واعتبره مثلا يحتذى، وشخصا تجب محاكاته بسبب تفرده.
وبناء عليه، فإن رفض نيتشه المزعوم تجاه الذات بألا يقدم لنا أية أداة بعينها بخلاف أن نكون أنفسنا - وما من أحد سينتقد ذلك لكونه مفرطا في التحديد - يجب ألا يخفي حقيقة أنه يميل إلى الجزم أكثر مما يصور نفسه. وفكرة أنه يغير باستمرار المواقف التي يبدو أنه واثق بشأنها يجب ألا تجعلنا ننغمس في الادعاءات التي يروجها بكونه تجريبيا. وأشك في أنه كان عاجزا على نحو فطري عن «الاقتناع بالأمور اللايقينية»، لدرجة أنه لم يمتلك بأية درجة المزاج الشاعري الذي يصفه كيتس بدقة. وتنبع مرونته من تأهبه المستمر لتغيير رأيه. وعندما يقول إنه ليس متعصبا بما يكفي لأي نظام، فإن ما يجب أن يقوله هو أنه ليس متعصبا بما يكفي للتمسك بأي نظام. ولا يعني هذا، بالطبع، أنه في أية مرحلة سيطرح نظاما ما؛ فهو لم يكن صبورا بما يتيح له عمل ذلك. أو ربما يعتمد الأمر على ما تقصده بكلمة نظام. لو كنت تقصد أنك تريد الاتساق بين جميع المعتقدات التي تؤمن بها، إذن فهذا مطلب أولي بعدم الاستسلام للفوضى المفاهيمية. أما إذا كنت تقصد شيئا أكبر من هذا، فلا بد من ذكره، وهو ما لا يفعله نيتشه، بغض النظر عن التعبير عن نفوره من الميتافيزيقا المتسامية.
تتسم اللاخطية المفرطة في معظم كتابات نيتشه بالعديد من الإغراءات، من بينها أنها تمكن المرء من اتباع نصيحته بضمير مستريح بالغوص في أعماق كتاب «الفجر» - وهكذا الأمر مع بقية كتبه - حيثما كان يرغب المرء في ذلك؛ وتحرر المرء من مشقة الدخول في سلسلة مطولة من المجادلات والمناقشات المجردة. وهي تحمل في طياتها بذور دمارها، مثلما يعلم أي قارئ حي الضمير ومنجذب إليها. وتوجد ظاهرة استثنائية تتمثل في الطريقة التي تصدم بها فقرات بعينها المرء بأقصى قوة، ثم ينساها العقل بعد ذلك بفترة وجيزة، غالبا لأن فقرة أخرى - مثلما يكتشف المرء - لا تنسى ولا تقل قوة في موضوع مختلف إلى حد ما، قد حلت محلها. هذا النوع من اللامنهجية ناتج عن غياب التنظيم على أقصى تقدير، وهو شيء غير مفاجئ بالنسبة إلى عقل خصب كعقل نيتشه، قادر على الاستجابة لتجربته وردود أفعال الآخرين تجاه تجاربهم لدرجة أنه يتدفق بأفكار عبقرية يقولها في عدد من الموضوعات أكبر من أي فيلسوف آخر، خصوصا لو أخذت بعين الاعتبار المعيار الذي يستخدمه نيتشه على مدار عدة صفحات بلا انقطاع. مثل هذه التدفقات من البلاغة الممتزجة بالرؤية تعني أنك تشعر بالحاجة إلى البدء في قراءة كتبه وخصوصا تلك التي صدرت في فترة حياته الوسطى بمجرد انتهائك منها؛ خجلا من عدم قدرتك على الاستيعاب والتذكر. إنها عملية لا تنتهي أبدا، ولهذا السبب نحن ممتنون للغاية. ومع هذا، يجب ألا يكون الاتسام بالمنهجية مبجلا باعتباره رفضا قائما على مبادئ معينة، في حين أنه ببساطة ما يتوارد إليه على نحو طبيعي؛ قارن أي أجزاء من «تأملات في غير أوانها» ب «إنسان مفرط في إنسانيته» وسوف ترى التطور الهائل بمجرد توقفه عن محاولة كتابة نثر متتال بطول مقال، فضلا عن كتاب. وسواء أكانت هذه استراتيجية دفاعية أم لا، فإن لها نفس التأثير. أما مسألة كيفية التأقلم مع نيتشه، فعلى حد علمي أنها لم تتم الإجابة عنها بعد على نحو مقنع. اقرأ أي كتاب أو مقال عنه، ولاحظ كيف يتمحور التركيز دائما على بضعة تعليقات معدودات له، على الرغم من عددها الهائل وفائدتها العميقة. وعلى نحو خاص - وينطبق هذا بالطبع على كتابي - يتم التعامل مع فقرات مختارة قابلة للنقاش، ربما يشيع استخدامها لبضع سنوات، تماما مثل ما يحدث مع أي كتاب أو نحوه من كتب نيتشه في أية مرة؛ في حين أن الجزء الأكبر من كتاباته لا يحظى أبدا بأي تناول على الإطلاق. ومن ثم، فإن نيتشه هو الخاسر بالإضافة إلى كونه الفائز الظاهري في هذا التكتيك المحدد. إنه يريدنا أن ندمج مأثوراته في حياتنا، ومع هذا يدعي أيضا أنه يريدنا أن ننظر إليه بعين الشك الذي لا يتزحزح. إن التعمق بحق في أحد مأثوراته العميقة سيستغرق جزءا كبيرا من حياة المرء؛ إذ كيف في وسع المرء أن يفعل هذا ويبقى في الوقت نفسه بعيدا بالقدر الذي يتطلبه الشك؟ من الواضح أن المرء لا يستطيع ذلك. وفي الحقيقة، فإن أي شخص يكتب كما يكتب نيتشه يطلب من قرائه قدرا كبيرا من الثقة، على الرغم من أنه يتظاهر أنه لا يطلب شيئا على الإطلاق في هذا السياق.
أرى أن انتقاداتي لأسلوبه قد أصبحت أكثر تعاطفا معه مما توقعت، وهو تأثير آخر مميز يحدثه نيتشه المحير دائما في قرائه.
صفحة غير معروفة