نداء القلب
نداء القلب
نداء القلب
نداء القلب
تأليف
إلياس أبو شبكة
نداء القلب
الإناء
عصرت فؤادي في إناء من الهوى
وأدنيته من مرشف الفقراء
فقالوا: «خمور ما تبرد غلة.»
فتمتمت: «واها أكبد الشعراء
أينكر حتى البؤس ما فيك من غنى
وأي غذاء أنت للبؤساء؟» •••
وذوبت قلبي في إناء من الهوى
وأدنيته من مرشف الرؤساء
وقلت لهم: «هذا هو العدل فاشربوا
لعلكم تصغون للضعفاء.»
فمالوا جميعا عن إنائي وغمغموا: «إناؤك محظور على الزعماء.» •••
وذوبت قلبي في إناء من الهوى
وأدنيته من مرشف السجناء
وقلت لهم: «هذا عزاء قلوبكم
فللأبرياء التاعسين دمائي.»
فقالوا: «دماء ما تحل قيودنا
فهات قوانينا لغير قضاء.» •••
وذوبت قلبي في إناء من الهوى
وأدنيته من مرشف الحكماء
وقلت لهم: «هذا هو النور فاشربوا
فآراؤكم في حاجة لضياء.»
فقالوا، وقد هزوا الرءوس شماتة: «ضياؤك هذا خداعة الجهلاء.» •••
وذوبت قلبي في إناء من الهوى
وأدنيته من مرشف الأمراء
وقلت لهم: «هذا هو النبل فاشربوا
وطوفوا بأقداحي على النبلاء.»
فقالوا: «أتحقير لطغراء جدنا
وما تنسل الأصلاب من شرفاء؟» •••
وذوبت قلبي في إناء من الهوى
وأدنيته من مرشف الشعراء
وقلت لهم: «هذا هو الحب فاشربوا
فأزياؤكم مرهونة لفناء
إذا الحب لم يضرم لهيب قلوبكم
بشعتم ولو جئتم بألف رداء.» •••
وما زلت في الدنيا أطوف بخمرتي
وحولي شعب هازئ بوفائي
إلى أن دهاني اليأس فاخترت عزلة
أفتش فيها عن حطام رجائي
وذوبت خمري في إناء من الهوى
لأشربها ممزوجة ببكائي
فشاهدت قلبي في إنائي ضاحكا
به دعة عذراء في خيلاء
فأدنيته من مرشفي وشربته
وما زال ماء الحب ملء إنائي
عودة الحب
يا ليل، يا ليل، ما هلك
من نام في الحب أولك
قلبي على جمرة الهوى
عيني على فحمة الفلك
يا مجهلي ما أطولك
الهم لي والسهد لك
أمن جحيم إلى جحيم
أم من نعيم إلى نعيم
يا حب قل لي من أرسلك
أساحر أنت أم ملك
أطفأت ناري بمقلتيك
وأفرغت رحمتي عليك
فمن أعاد اللهيب لي
ومن أعاد الضيا إليك
أخليت قلبي مذ ودعك
بحق حبي من أرجعك
ولم تعود ومن غصوني لم يبق عود
وفي عيوني لم يبق دمع ليطمعك
أعذب الشعر
أيا قبلة مرت على ضفتي فمي
كطيف حبيب مر في الحلم وانطلق
فأجرت به نهرا من الحب والجوى
تدفق نارا في عروقي إلى الرمق
ملكت شعوري إذ ملأت جوارحي
لك الله، إني في ذهول وفي غرق
أقضي نهاري في انقباض وريبة
ويشتد بي وجدي إذا أقبل الغسق
إذا قدمت خف اللهيب بمهجتي
وإن غادرتني عاودت مهجتي الحرق
أقول لقلبي إنها الصدق في الهوى
وفي قلبها حب لغيرك ما خفق
فآمن بها، آمن بما في عيونها
ألم ترها أرغى بها الماء واحترق
ويا بصري حد مرة عن طريقها
كأنك ممدود بخيط من القلق
ويا شعراء الأرض ما أصدق الندى
إذا ابتسمت ليلى وما أكذب الورق
وإن نظرت ما أبلغ الشعر صامتا
وإن نطقت ما أعذب الشعر إن نطق
مررت بألوان الكلام ووهجه
فما جاز عيني ثم مات على الحدق
كغيم خفيف يمسح النور وجهه
لأولى رياح الليل ينحل في الشفق
فيا أذن لا تخدعك في القول بهجة
ويا قلب علم أعذب الشعر ما صدق
الشاعران
الشاعران - تبارك الغزلان!
طرفي وطرفك حين يلتقيان
عيناي في عينيك: أشعر ما يرى
قلبي وأنقى ما يذيب حناني
يا خير من حنت إليها مهجة
وأحب من غزلت لها عينان
الله من قبل طرفت بها دمي
قوتا ولم تدنس بها الشفتان
أرسلت فيك الشعر عفو سليقتي
والفن أخلصه من الوجدان
لم أغتصب حبر الكلام وإنما
عيناي من عينيك تغترفان
أتلومني حطم النساء؟ فإنني
خلل الملام نشقت عرف زواني
ورأيت أشواقا تود لو انها
ريح يمر عبيرها ببياني
لولاك
أيحق لي في غيرها الغزل
وعلى فمي من قلبها قبل
وكأنني في عينها لهب
بفؤادها الولهان متصل
يبدو رمادا حين تلحظنا
عين، وحين تغيب يشتعل
يا خير من حنت لها مهج
وأحب من غزلت لها مقل
أفرغت عطرك في دمي فعلى
شعري عبير منك منهمل
لولاك جف الشعر في كبدي
وحييت لا حب ولا أمل!
الناسكة
حبيبي، على هذه الرابيه
أحس خيالك يرقى بيه
فأغلق - إلا على ما تحب
روحك - قلبي وأهدابيه
أتيت أحبك في ما تحب
ويضفي على وحيك العافيه
فما دفق الشعر من أصغريك
تجمع في هذه الناحيه
أراه على المنحنى والخليج
وفي هذه الغابة الجاريه
وفي ما يقوت عروق الدوالي
وما يضمر الكرم للخابيه
أراه على أمل الزارعين
في موسم الحقل والماشيه
وفي كبر الدلب والسنديان
يحنو على دعة الساقيه
أتيت أحبك في ما تحب
وأوصد دون الورى بابيه
فما عالمي غير مغنى الجمال
أهواك فيه وتهوانيه
بروحك مغمورة يقظتي
ونشوى بسحرك أحلاميه
وحلمي بحبك لا ينتهي
وهل تنتهي الغفلة الواعيه
مصادر وحيك معقودة
بقلبي رؤاها وأجفانيه
ففي كل مطوى من الطير راو
وفي كل منعطف راويه
من الأرض أنشق أعراف شعرك
ريانة كالندى صافيه
أحس لها في صميمي غليلا
يخب على وهج أعراقيه
وأسمع صوتا كهمس عميق
فأصغي لتسمع أعماقيه
وأبصر ما لا تراه العيون
فأطويه كالله في ذاتيه
حبيبي، على هذه الرابيه
أقرب للحب إيمانيه
إذا هجر الحب دنيا القلوب
فما تنفع الحطم الباقيه؟
الشاعر
خلقتك صورة مما هويت
فخمر أنت من وحيي وقوت
وتنزعك المزاعم من حقوقي
كأني ما عشقت وما شقيت
لغيري تدعي الدنيا سراجا
له منه الفتيل ولي الزيوت
وكم نكر الزمان علي حقا
وكم فني الزمان وما فنيت
وفاؤك بهجة الأجيال ذكر
وحبك آية العشاق صيت
خيال أنت من روحي وقلبي
تشع له بديواني البيوت
سكبت عليه من حبي عطورا
ومن شعري جمالا لا يموت
أنت لي
كل ما في الحياة أنت، فقد سكر
سمعي وأطبقت مقلتايا
صوتك العذب ما سمعت سواه
غير عينيك ما رأت عينايا
كيفما ألتفت أحسك حولي
أنت ملء المنى وملء هوايا
ملء نهر الحياة، تزداد روحي
عطشا كلما ارتوت شفتايا
غير أني أحس نارا بقلبي
أيكون الهوى بقلبي خطايا
هاجس خاطف يساور نفسي
وانقباض تحسه رئتايا
ماء عينيك، فيم يصلب أحيا
نا ويقسو، كأن فيه سوايا
أي طيف أرى خلال شكوكي
لم يذب بعد في لهيب غنايا
أنت لي في حقيقتي وخيالي
لي في يقظتي، ولي في رؤايا
إن أكن من دمي بقية شعر
وخيال فأنت مني بقايا
يد كريمة
يا حب كلي شباب
كلي ندى وملاب
على صعيدي جنان
وفي سمائي رباب
لولاك جفت عروقي
وساد روحي الضباب
ولم يكن لي شعر
ولم تكن آداب
ملأت عيني نورا
فكان هذا الكتاب
روحي عليه صريح
لا خدعة، لا خضاب
عصرت قلبي ففيه
للظامئين شراب
فأنت أكرم كف
أعطى عليها العذاب
كاسان
لا يحملون، وأحمل
أنا في الغرام الأول
هم يعشقون بشعرهم
أما أنا فبأدمعي
بدمي، بأعراقي، برو
حي، بالشباب الممرع
قالوا: «ثملنا واستفق
نا.» قلت: «لا، لم يفعلوا
لم يعرفوا سكر الغرا
م لأنهم لم يحفلوا
بالخمر، بل بزجاجة ال
كأس التي لا تثمل.»
العفاف المغوي
أتيت فأورق الأدب السني
وغنى الحب واخضل الروي
وكنت على الجفاف، ومن قنوطي
يفيض على دمي ظل شقي
عليك من الهوى قوت منيع
ومن أعرافه عبق شهي
وفي عينيك يستهوي عفاف
له في النفس جاذبه الخفي
وفي شفتيك إغواء لذيذ
يذوب عليه قربان نقي
أتيت، من السماء عليك ظل
ومن أغراسها خضر طري
فقبلني على شفتي رسول
ومس فمي كلام عبقري
أرض الميعاد
هبة الحب، يا شعاع رؤايا
وطريق السماء في مغنايا
رعشة أنت في عروقي ووحي
في دمي والنجي من نجوايا
أنت أرض الميعاد ما سمح الله
بها أو بمثلها لسوايا
غمر المن من سمائك صحرا
ئي وفجرت كوثرا من هوايا
فاطمأن الصباح أخضر في عي
ني وطابت على أديمي العشايا
وجرى الشعر من دمي، وإماء
ما لغير من القيان، سبايا
يا سنا الحب، يا سنا الله، ما أح
رقت ناري إلا لينقى سنايا
كان لي في الغرام قلب بغي
وعيون على الجمال بغايا
حين مرت على جبيني يداها
واستحمت في عينها عينايا
وتلاشي لهاثها في جوى قل
بي تلاشت عليه تلك الخطايا
أحبك
أحبك فوق ما تسع القلوب
وخيل شاعر ووعى حبيب
لأنت من السماء سحاب عطر
يسح علي منك ندى عجيب
أحسك بي فعرقك صار عرقي
وما لقذى بعرقينا دبيب
فنحن إذا التقى صدر وصدر
لنا فكما التقى كوب وكوب
وإن مزجت بنا خمر وخمر
تمازج في الندى نسم وطيب
أرى أدبي بعينك حين يهوي
على فمك الأديب فمي الأديب
بنا نار وليس بنا هشيم
وعاصفة وليس لنا هبوب
العذاب الحي
يا حب عذب
عذب فؤادي
ألهب عروقي
أطفئ رشادي
وهات سهدي
وخذ رقادي
يا حب عذب
عذب فؤادي
سقيت روحي
من الألم
فمن جروحي
هذا النغم
وكل ما بي
من العذاب
يذوب حبا
على كتابي
يفيض نور
من الشعور
على مدادي
يا حب عذب
عذب فؤادي •••
أهوى غزال
من الحضر
ملء الخيال
ملء الفكر
لما أتينا
في الحب آيه
نمت علينا
عين الوشايه
لكن حبي
دمي وقلبي
خمري وزادي
يا حب عذب
عذب فؤادي •••
رأيت نوري
عليك بادي
وسوف يبقى
على رمادي
يا حب عذب
عذب فؤادي
ليل الصيف
الصيف، يا ليل، طار
فارفق بأشواقي
واسلخ فضول النهار
من بعضه الباقي
ما العمر إلا
ليل وبدر
إذا تولى
تلاه ذكر
ملء السنين
للعاشقين •••
يا ليل ما في الحقول
حي سوى البدر
ليت الليالي تطول
لآخر العمر
وليت كوبي
يا ليل يبقى
أسقي حبيبي
منه وأسقى
ذاك الرحيق
ولا نفيق •••
والغاب صدر حنون
غامت عليه الحلم
سكرانة، والسكون
حلو الشذا والنغم
وللنسيم
وللقمر
يد الكريم
على الشجر
وللحفيف
همس لطيف
والنور أشهى قبل
تلفها الأسرار
وفي السماء الجبل
لحن بعيد القرار
يا ليل دعنا
ننس الزمان
كما عشقنا
فالعمر كأس وعاشقان
استغراق
ألقيه مخمورا على صدري
وانسي الزمان
فكل ما أذكر من عمري
هذي الثوان
الطير يبني عشه النديان
في الغار، في الشربين، في الريحان
والحب يبني عشه فينا
وغابنا ما أنبت الوزال
إلا ليخفينا
عن أعين العذال
لا حس في الدنيا لإنسان
فالناس كالأرواح قد راحوا
ولم يزل إلا خيالان
حيين، والباقون أشباح •••
ألقيه مخمورا على صدري
فكلنا إلا الهوى فان
وكل ما أذكر من عمري
هذي الثواني
إلا ليالينا
يا حلو، ما في العيون
حلو كهذا الجنى
يضفي عليك الفتون
ملء المنى
سحت عليك السما
من سحرها كل ما
فات جمال البشر
فالناس يا ملهمي
سفر وأنت السور
يا ملهمي
يا خير ما في دمي
لولاك مات الخيال
ومات حتى الجمال
على فمي
يهفو من اسمك
أريج جسمك
ولا يشم البشر
فالناس يا مسكري
عشب وأنت الزهر •••
يا مسكري
أبعد هواك الطري
تعال نمضي، فهل
في الناس إلا الدوي
فالناس إما غبي
أو عابث مفتر
قوتي على مرشفيك
والنور في مقلتيك
ولا يفيق البشر
فالناس يا مرشدي
ليل وأنت القمر
الغاب، واقينا
حي ينادينا
أنواره لم تزل
سكرانة فينا
لنا الهوى والأمل
والشعر خمر وقوت
يا حب كل يموت
إلا ليالينا
ما نحن في العاشقين
كسيرة الأولين
يا خير ما في السير
الناس ماء وطين
وأنت روح البشر
أنت أم أنا؟
جمالك هذا أم جمالي؟ فإنني
أرى فيك إنسانا جميل الهوى مثلي
وهذا الذي أحيا به، أنت أم أنا؟
وهذا الذي أهواه، شكلك أم شكلي؟
وحين أرى في الحلم للحب صورة
أظلك يجري في ضمير أم ظلي؟
تربع كل الحب في كل ما أرى
أمن روحك الكلي هذا السنى الكلي؟
خلقتك في دنيا الرؤى أم خلقتني؟
وقبلك جئت الوحي أم جئته قبلي؟
وعني قلت الشعر أم عنك قلته؟
ومن في الهوى يملى عليه ومن يملي؟
أحس خيالي في خيالك جاريا
وروحك في روحي وعقلك في عقلي
إذا ما تراءى مبهم في تصوري
رأيت له ضوءا بعينيك يستجلي
كأنك شطر من كياني أضعته
ولما تلاقينا اهتديت إلى أصلي
الناسك
ماذا بوسع الزمن المدعي
ما دمت في شعري وفي أضلعي؟
لن يقطع الدهر لنا ألفة
مهما يفرقنا الورى نجمع
نقول للناس إذا صيحوا
ما قاله البلبل للضفدع •••
شبابنا إن يفن يبق الهوى
نفنى به كالخلق في المبدع
ماذا على الحب إذا لم يفق
هل وعت الخمرة حتى نعي؟
رأيتني شيخا مديد الرؤى
متصل السالف بالمزمع
على فمي أنشودة لا تني
ونغوة خضراء في مسمعي
أعيش في الذكرى بغيبوبة
كما يعيش الطفل في المرضع
طيور أحلامي وحي الهوى
من حوم حولي ومن وقع
إن تمحل الدنيا وتعبس لنا
فأي أرض فيك لم تمرع
غنمت في عينيك كنه المنى
فالكون يحيا بي ويفنى معي
الثالوث البكر
الحب والخمر
يا ليل، والشعر
ثالوثنا البكر
كان الهوى قبلنا
من بعض ما يقتنى
وخدعة في اللسان
والشعر، يا ليل، كان
شيطانه بهلوان
حتى تغنى بنا
جئنا فجاء الخيال
معطرا بالجمال
ملونا بالسنى
هذي الربى من تكون
يا ليل، إلا عيون
ترنو هياما لنا
جئنا فصار الزمان
بحبنا مهرجان
والأرض صارت جنى
لا تنظري، فالسماء
محجوبة بالدماء
والجهل يرعى الورى
أما بنينا بناء
يا ليل، فوق الفناء
فيه السما والثرى
والحب والخمر
يا ليل، والشعر
ثالوثنا البكر
هذه خمري
هذه خمري فذقها يا نديمي
فلها طعم غريب من كرومي
لي في كأسي يقين لم يكن
ذهب الشك مع الحب القديم
إن في عيني حبيبي طربا
شاع آمالا وعطرا في صميمي
أين منه ذلك الهم جرى
من أفاعيه سموما في كلومي
يا نديمي، أبرأت جرحي يد
فاض منها مرهم القلب الكريم
فعلى كل شقي رحمة
من سمائي وعلى كل سقيم
لم يكن ماضي في الحب سوى
مطهر أفضى إلى هذا النعيم
صفحة غير معروفة