وبدأ درش يلاحظ أن هناك، في حذاء وجهه تماما يوجد حبل غسيل صغير ممتد بين حائطي الحمام، وهز كتفيه كمن يقول: كأننا يا بدر لا رحنا ولا جئنا. ففي حمام بيتهم أيضا يوجد حبل غسيل مثل هذا تعلق عليه زوجته ملابس ابنتهم الداخلية. ما فائدة أوروبا إذن إذا كان أناسها يستعملون نفس الأشياء التي نستعملها؟
غير أن ما استرعى انتباهه حقيقة هو أنه وجد الحبل يزدحم بعدد لا يحصى من الملابس الداخلية للأطفال أكثر من عشرين قطعة معلقة على حبل لا يتعدى المترين وكلها ملابس صغيرة في حجم الكف، وكأنها صنعت لترتديها عرائس أطفال . لا بد أن هذه المرأة نظيفة ونشيطة، كيف يا ترى تجد الوقت الذي توفق فيه بين عملها في الصباح والمساء وبين بيتها وهذه العناية التي توليها أولادها.
غير أن إعجابه بالمرأة لم يستمر طويلا، فقد لسعه شيء ما ... في هذه اللحظة فقط أدرك أن المرأة التي اصطحبته إلى منزلها حقيقة أم. وشيء غريب هذا! لقد نقل معها ابنتها، وحدثته طويلا عن أبنائها ولكنه أبدا لم يؤمن أنها أم إلا حين رأى هذا العدد الكبير من ملابس الأطفال الداخلية. هي أم ولها بيت وزوج وأولاد، والأعجب من هذا أنه ربما للمرة الأولى في حياته أيضا يدرك، في تلك اللحظة بالذات، إنه هو الآخر أب له بيت وزوجة وابنة لها ملابس داخلية مثل تلك الملابس التي تلاصق وجهه والتي تنفذ منها رائحة الصابون الذي غسلت به إلى خياشيمه.
وأحس أنه لم يعد في حاجة لاستعمال التواليت، فخرج، وذهب إلى حجرة النوم.
وحين فتح الباب ودخل لم يجدها عارية، كانت قد تمددت فوق السرير الذي صنع لشخص ونصف شخص، وغطت نفسها بملاءة السرير البيضاء، ولم يبق ظاهرا منها إلا وجهها وعيناها فقط، أو على وجه الدقة لم يبق ظاهرا منها إلا انفعال واحد التقطه درش من لحظة أن وضع قدمه في الحجرة ... انفعال تختلط فيه الرغبة بالاستسلام والأماني بالحقائق.
ودلف إلى جوارها في السرير وتأمل وجهها المبتسم ... كان به نمش صغير كرءوس الدبابيس لا يرى إلا عن قرب. وسمع دقا عاليا يتصاعد بجوار أذنه ويقلقه، والتفت ... كان المنبه الصغير هو الذي يرسل دقاته، فقال لها: هل باستطاعتنا أن نخرج هذا الشيء المزعج من الحجرة؟
وبدا أنها أفاقت قليلا من هيامها، وما لبثت أن قالت: لقد كدت أنسى، لا بد لي من ضبطه على السادسة. هل نسيت؟ لا بد لكي أصل إلى المكتب في الثامنة أن أستيقظ في السادسة.
ومضت تملأ جرس المنبه، وقالت بدلال وهي تضبط عقربه: الساعة الآن الثانية.
وحين انتهت أخذ منها المنبه ولفه في فوطة وجه ليخفي صوته، وقام من الفراش ووضعه في ركن الغرفة البعيد ليخمد أنفاسه نهائيا، وعاد إلى رقدته بجوارها. غير أنه ما كاد يستريح هنيهة حتى جاءته دقات المنبه منتظمة عالية في انتظامها، بل خيل إليه أنها أعلى مما كانت.
وتولته حالة عصبية، واحتضنها بقوة فقالت: ستكسر ظهري يا أفريقي.
صفحة غير معروفة