وفي زاوية من الميدان لمح مجموعة لا بأس بها من الفتيات لها نفس الوجوه والبلوزات التي رآها تجوب الشوارع مع البحارة الأمريكان، وأقبل عليها بخطى محترسة، غير أنه لم يقبل كثيرا، فما لبث أن توقف عن اقترابه ومضى يحملق فيهن وعلى فمه ابتسامة استنكار لا تخلو من رثاء. كان يتوسط المجموعة شاب بدا لأمر ما وكأنه الرئيس، يقف مرفوع الرأس، يرتدي ملابس الفتوات النمساويين الجدد: بنطلون محزق يضيق جدا حين يصل إلى الأقدام، وبلوفر جلد، وشوشة العصر الحديث تطل من رأسه، ونظرة وقحة مصطنعة ومبالغ فيها كثيرا تطل من عينيه. والفتى صغير السن يكاد لا يتعدى العشرين، ومع هذا فقد كان مشتبكا في نقاش متنمر مع البنات ومع زميلين له. والتقطت أذنه كلمات. أمريكان ... دولارات وشتائم من كل نوع بالإنجليزية والألمانية ولغات الفئة والحي التي لا يفهمها سوى الخبير بالمهنة. كان واضحا أن في المسألة تجارة وخلافا خطيرا حول المكسب، أخيب نهاية لقصة منافسيه الأفاضل البحارة الأمريكان.
وحين تحرك درش من مكانه، وقد بدأت المسألة تتطور من معركة بالألسن إلى صراع متوحش بالأيدي والبواني، كان قد صمم على أن يغير ذلك الميدان النحس، وليكن ما يكون، وانتقى أوسع الشوارع المتفرعة من الميدان ومشى فيه. لم تكن المدينة قد خلت بعد من الناس، كان المارة لا يزالون كثيرين، وكان مطر خفيف جدا قد بدأ يتساقط. وتردد درش برهة بين ارتداء المعطف البلاستيك الرخيص الذي اشتراه ليقي أوجه حلله من أمطار الصيف في أوروبا، وبين أن يسير بلا معطف؛ فإذا ارتداه فقد يقلل المعطف من قيمته في عيون النساء، وإذا لم يرتده فقد تتلف السترة، خاصة وهي أكثر ستراته جميعا أناقة، وعلى الأقل دفع في كيها بالأمس الشيء الفلاني، وآثر السلامة وارتدى المعطف.
كانت «فتارين» الشارع مضاءة كلها، فتارين حافلة بما يسيل له لعاب كل مسافر، كاميرات وأجهزة تسجيل، وتحف دقيقة الصنع وولاعات. وكان درش في أزمة، فرغبته في التفرج على محتويات الفتارين، ومقارنة الأسعار الموضوعة على المعروضات بأسعار القاهرة، وانتقاء أحسن الأنواع وأرخصها، كانت رغبة ملحة لا يكاد يستطيع مقاومتها. ومع هذا فله يومان وهو يقاومها بعنف، فشيء من اثنين: إما أن يتفرغ لها، أو يتفرغ للمهمة التي أوفد نفسه إلى أوروبا من أجلها. وكان وهو سائر في الشارع الواسع يتألم ألما حقيقيا؛ فالمعروضات في أضوائها الليلية التي تفنن أهل فيينا في زخرفتها وتنسيقها تكاد تخطف البصر. درش مخطوف كله وموجه إلى رواد الشارع القليلين، يكاد ينظر بأربع عيون، عين على الرصيف الذي يمشي عليه، وعين على الرصيف المقابل، وعين على الرصيف الممتد من أمامه تستكشف، وعين على الشارع الممتد من خلفه تفتش، لعل شيئا قد مر غير ملحوظ من عيونه الثلاث الأخرى ... وعيونه كلها تميز في الكائن أول ما تميز ملابسه، لتفرق بين الرجل والمرأة. وحين بدأ المطر يتساقط أصبح همه الأول أن يميز مظلة السيدة ومظلة الرجل، فإذا ما تم تله هذا كان عليه أن يدقق ليميز نوع هذه المرأة، العجوز ينبذها كالرجال، والطفلة طبعا يتركها، وكذلك كل من يشتبه أن تكون من المتبرجات فتيات الليل. وهكذا تبقى أمامه نسبة ضئيلة جدا عليه أن يوجه اهتمامه إليها، ومن أجل هذا كانت طريقة سيره في الشارع أعجب طريقة، فهو يسير على الرصيف مثلا، وفجأة ينتقل إلى الرصيف الآخر، ويسير إلى الأمام مثلا، وفجأة تجده قد استدار وسار في عكس اتجاهه، وهذا كله يحدث مصحوبا بحركة خلع للبالطو البلاستيك الرخيص وارتدائه قائمة على قدم وساق، كلما تبين في الشبح القادم امرأة خلع البالطو. فإذا لم تكن من النوع المطلوب عاد وارتداه، فإذا لمح على الرصيف المقابل واحدة تصلح انتقل إليه ... وانتقل البالطو هو الآخر من يده إلى أكتافه.
وعلى هذا حين لمح درش شبحا مشكوكا في أمره قادما من بعيد، تجهز لكافة الاحتمالات، فخلع البالطو ووضع يده فوق رأسه ليطمئن على هيئة شعره، وتأنى في مشيته وجعلها تبدو رشيقة في وقار تنم عن جاه وشخصية. وحين اقترب الشبح تبين أنه كان على حق، وأنه امرأة فعلا، وأنها فوق هذا من النوع المطلوب، وطبعا لم يتوقع درش أن يتغير الحال معها كثيرا عما جرى عليه منذ أول الليل.
تخطى درش الشارع متجها إلى الرصيف الآخر الذي كانت تمشي عليه السيدة المقبلة وسار في اتجاهها، ومن كثرة ما تدربت عيناه على الرؤية كانت قد تكونت لديه قدرة مؤقتة على معرفة الملامح الجميلة حتى من لون الفستان الذي ترتديه صاحبته، وكان واضحا أن القادمة ليست باهرة الجمال ولكنها على الأقل وسيمة: طريقة مشيها، الزاوية التي تمسك بها المظلة، حتى إمساكها للمظلة نفسه وقد كف المطر. المرأة الجميلة وحدها هي التي تبالغ في الحرص على ملابسها، ومساحيقها، وكل ما يمت إلى جمالها بصلة.
وقبل أن يلتقيا حاول درش أن يجذب أنظارها حتى تمتد أمامها فرصة رؤيته، ولكنه لم ينجح، فلم تره إلا حين أصبح وجهه في وجهها.
وبينما كان درش يلتهمها بعينيه، لم تفعل هي أكثر من أن ألقت عليه نظرة خاطفة سريعة لا تعني شيئا، نظرة مثل آلاف النظرات غير المحبة للاستطلاع التي كانت تلقى عليه في أي مكان ذهب إليه في أوروبا. ألقت عليه النظرة واستمرت في طريقها لا تلوي على شيء. لم تكن بالجمال الذي كان يطلبه أو يحلم به: كانت طويلة تدانيه تقريبا في الطول، ترتدي معطفا من الصوف البيج ذا ياقة عالية، وشعرها طويل على عكس المودة السائدة وغزير أيضا، وكان وجهها طيبا وأنيقا في الوقت نفسه، ولا تضع غير الروج (أو على الأقل هكذا خيل إليه). ولم تكن تبتسم، وكذلك لم يكن بوجهها أي عبوس. امرأة تصلح أن تكون ربة بيت ممتازة أو طبيبة أو عازفة «فيولنسل» في أوركسترا من الدرجة الثانية.
ودون أي قصد أو هدف إلا المحاولة لعل وعسى، غير درش من وجهته وسار وراءها بعدما جاوزته، وأسرع في خطوه. وحين اقترب منها كثيرا حتى كاد يحاذيها تردد كالعادة بين أن يتجاوزها أو أن يتبعها. وآثر أن يتبعها، إذ في هذه الحال سيكون هو سيد الموقف، واستمرت المرأة سائرة في طريقها، وعند منعطف يؤدي إلى شارع جانبي غيرت وجهتها.
واستمر درش في متابعتها، ويبدو أن المرأة أحست أن إنسانا ما يتبعها؛ فالشارع الذي دخلا فيه كان قليل المارة ساكن الحركة نوعا ما ... يبدو أنها أحست بشيء كهذا فقد أسرعت في خطوها.
ومع أن درش لم يكن يعرف أبدا ما يمكن أن تؤدي إليه تلك المطاردة، إلا أنه أسرع هو الآخر في خطوه حتى لا تختفي عن نظره. ولكنه في نفس الوقت لم يشأ أن يضيع نفسه، فقد كان دائم الفحص والحفظ لجغرافية الشارع وموقعه وعلاماته حتى لا يتوه في طريق عودته بعد أن تفشل المطاردة.
صفحة غير معروفة