مقدمة المؤلف
(بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله ذي المن والإحسان، والطول والامتنان، والقدرة والسلطان، مدبر الأمور بحكمته، ومنشئ الخلائق بقدرته، كرم بني آدم وشرفهم بخلع الإيمان وفضلهم بالعقل ومزيد البيان. اصطفى منهم أصفياء، وجعل منهم بررة أتقياء. فهم خواص عباده، وأوتاد بلاده، خصهم بالخيرات والعطايا، وصرف عنهم الآفات والبلايا، وحبب إليهم المعروف، وأعانهم على إغاثة الملهوف، ليكمل عليهم المنة والفضل، ليزدادوا له شكرا بالعطاء والبذل.
والصلاة على رسوله محمد القائم بحججه، والداعي إلى منهجه، أرجح العرب ميزانا، وأفصحها لسانا، وأوضحها بيانا، وأسمعها بنانا، وأوثقها إيمانا وأعلاها مقاما، وأحلاها كلاما، وأوفاها ذماما، فأوضح الحقيقة، ونصح الخليفة، ونصب أدات الدين وأعلا أعلامه، فرفع آيات اليقين وأحكم أحكامه، وشرع بأمر ربه حتى ظهر دينه على كل دين، وبلغ ما تحمل من رسالته حتى أتاه اليقين، استخرجه من الحسب الصميم، والأصل الكريم، في أفضل أوان، وخير زمان، بأنوار منار، وأشهر شعار، وأكثر فخار، من أطهر بيت في مضر بن نزار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه من الأنصار والمهاجرين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد:
يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه، الراجي العفو عن جرائمه الفادحة، وعظيم ذنبه المؤمل، شفاعة نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) وأهل بيته كرام الأنام المرتجين، وصحبه عليهم صلوات الله ما حن واله وحيا الحيا وادي العقيق بمكة: محمد بن يوسف بن الحسن بن محمد بن محمود الحسن الزرندي محتدا ونجارا، المدني مولدا ودارا، الأنصاري نسبا وفخارا، المحدث بالحرم الشريف النبوي (صلى الله عليه وسلم)، أولاه الله تعالى سعادة الدارين، ورزقه العمل بما أوتيه من النورين، ورحم سلفه وسقى صوب الرحمة والغفران ضريحه، وأناله بكرمه محض لطفه
صفحة ٨
وصريحه:
إني لما خرجت من الأوطان، وفارقت الأولاد والإخوان والخلان، وبعدت عن المدينة الشريفة المعظمة المنيفة التي هي مسقط رأسي وميلادي، ومهبط نظارة العيش والعمر بين أسرتي وتلادي لضرورة من بوائق الزمان، وطوارق الحدثان ساقني القدر المحتوم والرزق المقسوم من تلك التربة إلى كربة الغربة ، فوصلت إلى (شيراز) حفت بالإكرام والإعزاز في أثناء خمس وأربعين وسبعمائة، قاصدا جناب سيدنا مولانا السلطان الأعظم الأعدل الأكرم الأعلم الأفخم، مالك رقاب الأمم، ملك ملوك العرب والعجم، مولى الأيادي والنعم، ومعلى ألوية الجود والكرم، الجامع بفضائله وهمته بين رتبتي العلم والعلم، والقامع لأعدائه بسطوته وباستخدام أرباب السيف والقلم، مر بي العلماء والموالي، مسند مثاني المكارم والمعالي، قبلة ذوي الإقبال، وكعبة أولي الآمال، الذي فاقت مناقبه الزاخرة العباب، وتاهت مفاخره الدائمة التسكاب عن الحصر والعد والحساب، كهف الإسلام والمسلمين، وعون الضعفاء والمساكين، عمدة الملوك والسلاطين، ظل الله في الأرضين، جمال الدنيا والدين الشيخ أبو إسحاق بن الملك السعيد المرحوم المغفور الشهيد شرف الدولة والدين محمود شاه الأنصاري (1) خلد الله ملكه، ورحم أسلافه وأعلا شأنه، ورفع قدره وأعز سلطانه، وعظم سموه واقتداره، وكثر أعوانه وأنصاره.
ولا زالت رايات نصرته على البرايا مرفوعة، وعين الكمال عن ساحة سلطنته مدفوعة، بمحمد وآله، وقد أوجز الداعي لجنابه العالي في تخطيطه الجلالة والإطناب، ولزم التعداد في الألقاب، اعتمادا على شهور تعظيمها، واكتفاء بتجواز كرمها وكريمها، وصرت ذلك إلى الدعاء، فإنه أولى ما يودى به المنعم من الأشياء، وغاية جهد أمثالي دعاء يدوم مع الليالي أو ثناء، فأطل اللهم عمره وأيد جماله، وأدر نعمتك عليه وضاعف جلاله، وأدم على كافة الأنام ظلاله، وحقق في الدارين آماله، واجعل خير من أولاه مآله، فلقد وفقته للخيرات، فقه شر الشيطان وإغوائه وإضلاله، وثبته بالقول الثابت، فقد وجه إلى كرمك بصدق الرغبة
صفحة ٩
آماله، وأعني اللهم على القيام بشكره والدعاء له بسر القول وجهره، وسدد اللهم عند الثناء عليه أقوالي، فإني معترف بالعجز عن شكره، وعجزي عن ذلك أقوى لي، ووفقني اللهم لما يرضيك عني في عملي أوقى لي، وأدم علي درع إيمانك التي ألبستنيها، فهي أحصن جنة لي وأوقى لي، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وقد قلت متمثلا في مجده المؤثل وأصله المؤصل بيتين وهما:
فعش ليد تولي وعز بحفظه
ونائبة تكفى ونعمى تنيلها
ودم للمعالي فهي خير ذخيرة
ومشتبه إلا عليك سبيلها
وقد كنت لما نويت الرحلة من المدينة النبوية قاصدا حضرته وسدته الرفيعة العلوية ألفت كتاب: الأربعين الصحاح المسمى (بغية المرتاح إلى طلب الأرباح) ووشحته بألقابه الشريفة، وطرزته بدل أياديه المعظمة المنيفة، حين انتشر ذكره في الآفاق، واشتهر إحسانه وتقليده المنن للأعناق، وأجرى الله تعالى ذكره ذكر مدائحه بالسلطنة على لساني وقلمي، حتى أتيت ساعيا منها إليه على راحلتي وقدمي، فكان الفأل على ما جرى، وظهر أثر ذلك بين الورى، وتشرف السكة والخطبة في الآفاق، بذكر السلطان الفاضل الكامل أبي إسحاق خلد الله تعالى ملكه، وجدد على ممر الزمان سعوده، وبلغه من خير الدنيا والآخرة مراده ومقصوده، إن شاء الله.
فلما وصلت إلى جنابه الكريم، وحللت حماه الرحب العميم، الذي هو مجمع الأشراف ومنبع الألطاف، ومنجح الوسائل ومعدن الفضائل، وشرفت بطلعته الميمونة وقبلت رواحبه وقضيت لمشافهة الدعاء مفترض حقه وواجبه، وجدته بحرا لا ساحل له، وألفيته درا لا مثال له، فلذت بعد قضاء الله تعالى بجواره، والتجأت إلى حضرته الحية وجاره، ورجوت بجاهه حصول المقاصد وإصلاح الأمر الفاسد، فكان لي أكرم ملاذ وأشرف معاذ، أعاذه الله تعالى من الأسواء، ومتعه بطول البقاء.
فلما رأيت تضاعف مكارمه وترادف مراحمه أحببت أن أذكر شطرا من أياديه، وأذكر عشرا مما فيه وأضم إلى كتابي الأربعين كتابا آخر في فضائل سيد المرسلين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين، وفضائل ابن عمه أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب، أول من آمن به وصدقه من المؤمنين، ومناقب الزهراء البتول فاطمة قرة عين الرسول (صلى الله عليه وسلم)،
صفحة ١٠
ومناقب ولديها السيدين السعيدين الشهيدين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة المخصوصين بشرف أهل الطهارة والاصطفاء والمحبة والاجتباء المظللين بالعباء، وأبذل جهدي فيه بالدعاء للسلطان جمال الدنيا والدين ظلل الله في الأرضين وأطرزه بإلقائه بالإعزاز والتمكين، يبقى ذكره فيه منتشرا في الآفاق مخلدا في بطون الأوراق.
واقصر فيه بعض ما يجب له من حقه وأشكره كما ينبغي ويلزم من شكره واجعله وسيلة إلى استعطاف عوارفه المألوفة، وذريعة إلى إتمام إحسانه جريا على شيمه المألوفة، فيذكرني بذلك عنده ولا ينساني بعده، فاستخرت الله تعالى في ذلك وانشرح له صدري وشرعت في تأليفه؛ لأقابل بعض الإحسان المنعم بشكري وجمعت فيه ما ورد في فضائلهم من الأحاديث مما نقلها العلماء والأئمة منبها على عظم قدرهم وشرفهم وموالاتهم الواجبة على جميع الأمة، فإن الله تعالى جعل محبتهم مثمرة السعادات في الأولى والعقبى، وأنزل في شأنهم: قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى (1).
وقد قال الإمام الشافعي (رحمه الله) في وصفهم ومنبها على هذا المعنى في فضلهم:
يا أهل بيت رسول الله حبكم* فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القدر أنكم
من لم يصل عليكم لا صلاة له
(2) ولغيره:
هم القوم من أصفاهم الود مخلصا
تمسك في أخراه بالسبب الأقوى
هم القوم فاقوا العالمين مآثرا
محاسنها تجلى وآياتها تروى
موالاتهم فرض وحبهم هدى
وطاعتهم قربى وودهم تقوى
(3).
ثم إن هذه الأحاديث فوائد أخبار من بحر فضائلهم مستخرجة، وفوائد آثار في سلك شمائلهم بالإخلاص منظومة، مديحه ينبئ بعضها عما خص الله تعالى به رسوله (صلى الله عليه وسلم) وأهل بيته من الفضائل المتلألئة الأنوار والمناقب العلية المنار والمآثر الكريمة الآثار والمكارم
صفحة ١١
الفائضة التيار، والمنائح الفاتحة الأزهار، والمقامات الظاهرة الأقدار، والكرامات الوسيعة الأقطار، والمراتب الرفيعة الأخطار، يزهى بها رياض المزايا والمفاخر، ويقر بفضلها ويعترف الأول والآخر، مما تتعطر الآفاق من فوائح نشرها وتبتهج الأرواح والقلوب بمشاهدة لوائح بشرها، ويرتوي الظماء عند سماع ذكرها ووصفها، وتتوشح عرائس المفاخر بفرائد دررها وحسن وصفها، ويبهر أبصار الحاسدين شعاعها ويا حبذا عند المحب سماعها:
دراري صدق ضمها درر العلى
وليس بمولي مثلها يد مسند
نضائر أنس في حظائر قدست
بذكر هداة الدين من بعد أحمد
فصوص نصوص في ذوي الفضل والتقى
شموس علي خرت لأشرف محتد
لهم في سماء المجد أشرف موضع
وهم في عراص الدين أكرم مرصد
نظمت جواهرها في هذا الكتاب في سلكين وسلكت دررها في سمطين، وقسمت أحاديثها على شطرين، واتخذتها لأثقال الذنوب في لجج بحار رجاء الغفران فلكين، وسميته كتاب: نظم درر السمطين في فضائل المصطفى والمرتضى، والبتول والسبطين، جعلته لي عندهم سببا متينا وبرهانا مبينا واعتقادا صافيا ويقينا وديدنا ودأبا ودينا، أرجو النجاة بهم يوم المعاد وإن جنت يداي من الذنوب:
قوم لهم مني ولاء مخالص
في حالة الإعلان والأسرار
أنا عبدهم ووليهم وولائهم
سوري وموضع عصمتي وسواري
فعليهم مني السلام فإنهم
أقصى مناي ومنتهى إيثاري
فالسمط الأول: يشتمل على فضائل سيد المرسلين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين محمد عليه أفضل صلوات المصلين وشمائله وصفاته وما خصه الله تعالى به من آياته ومعجزاته، وعلى مناقب ابن عمه وباب مدينة علمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضى الله عنه)، ولهذا السمط فاتحة وخاتمة، فالفاتحة في امتنان الله تعالى بنبيه (صلى الله عليه وسلم) على الأمة وكشف الآصار التي كانت من قبلنا غيا بسببه، وإزاحة الغمة، وذكر نسبه وأصحابه وما شرفه الله تعالى به من بين أنبيائه.
والخاتمة في فضل الصلاة والسلام عليه، فإن ذلك أشرف ما يتقرب به إليه (صلى الله عليه وسلم).
والسمط الثاني: يحتوي على مناقب سيدة النساء البتول فاطمة زوجة علي المرتضى
صفحة ١٢
وقرة عين الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وعلى مناقب ولديها السعيدين الشهيدين سيدي شباب أهل الجنة السبطين الحسن والحسين، وطرف من مآثر أولادهم الأتقياء المخصوصين بكرامة التطهير والاصطفاء، الأسرة الطاهرة النقية، والعصبة العلوية، المبرئين من كل رذيلة ودنية، والمتحلين بكل فضيلة جليلة ومنقبة سنية:
مطهرون نقيات ثيابهم* تجري (1) الصلاة عليهم أينما ذكروا هم الملأ الأعلى وعندهم* علم الكتاب كما جاءت به السور (2) وصلوات الله على محمد وآله وذوي قرابته وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والكل وصحابته، ما لمع البرق وسجع الورق ورقع الخرق وجمع الخزق، ونظرت عين وسطر عين وتبعت عين عينا، ورضوان الله تعالى على المنتمين إليهم والمرفرفين بأجنحة الإخلاص من حواليهم والمطافين كعبة موالاتهم بأقدام اليقين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ما سبح سحاب وارتكم ضباب ونفح أناب مسك، ونفخ كتاب وعلا على عذر الماء حباب، وسلامه وتحياته على أرواحهم الزاكية الطيبات ما لاح في أفق السماء سحاب:
ولا تخطت سواري الزمن ساحتهم
ولا عدتها غوادي العارض الهطل
ويرحم الله عبدا قال آمينا.
وفي هذا الكتاب سلكت مسلك الشيخ الإمام العالم المحدث صدر الدين أبي إسحاق إبراهيم بن محمد المؤيد الحموي (3) رحمة الله عليه، وأوردت فيه بعض ألفاظه في صدر الكتاب، ولم أقف من كتابه إلا على كراريس من أوله، رأيته أتى فيها بأحاديث غير مشهورة
من لم يكن علويا حين تنسبه
فما له في قديم الدهر مفتخر
الله لما برى خلقا فأتقنه
صفاكم واصطفاكم أيها البشر
صفحة ١٣
ولا معروفة في كتب الحديث المعتمدة، فأضربت عن ذكرها في كتابي هذا وأثبت ما كان مشهورا مذكورا في الكتب المعتمدة مما لم يذكره، وحذفت أسانيدها حذرا من الإطالة واعتمادا على نقل الأئمة، وزدت عليه فذكرت نبذة من فضائل سيد المرسلين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين (صلى الله عليه وسلم) وعلى آله وصحبه أجمعين، فإنه خلاصة البريات باليقين ونقاوة ما خط على لوح الوجود بقلم التكوين، ونقطة دائرة الوجود، وبه تشرف أهل بيته وكل موجود (صلى الله عليه وسلم)، ومن نظر في كتابه وطالع هذا الكتاب علم بون ما بينهما وما أخلى به فيه عن وجه الصواب، ومع هذا فإني أقول: كان الفضل للمتقدم.
وقد جمعت هذا الكتاب تحفة للجناب العالي المولوى السلطان الجمالي أعلى الله تعالى شأنه وأعز سلطانه، وتذكرة لي ولأحبابي وإخواني وأنصاري في دين الله تعالى وأعواني الذين أرجو بركة دعائهم وإجابتهم في إصلاح حالي ورفع شأني، وأن يثبت بالقول الثابت في طلب مرضاته قلبي وعلى صراطه المستقيم قدمي، ويجري بالصدق والصواب لساني ويختم لي بالسعادة والحسنى، فهي آخر سؤلي وأعظم أماني:
متوسلا منهم وسائل فضلهم
أن يسألوا في العفو عن أوزاري
متوقعا لمواهب ورغائب
ومطالب مثل السحاب غزار
وأنا أسأل الله تعالى أن يجعل سعيي فيما نظمت فيه من الدرر، وجمعت فيه من الغرر خالصا لوجهه الكريم، وينفعني ويسعفني بها ومن جمعت ومن بسببه، بمنه العظيم ولطفه العميم، ويجعلها عدة وذخيرة لنا عندهم يوم تبلى السرائر وتظهر المخبئات، وتنكشف الضمائر، لنفوز بحبهم ونكون في شفاعتهم ونحشر في زمرتهم، وندخل ولايتهم دار السلام، فإنه غاية المرام وهو ولي الفضل والإنعام والتكرم والإكرام وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وها أنا أشرع في ابتداء الكتاب مستعينا بالله العزيز الوهاب سائلا منه الهداية فيه إلى الصواب غير غال فيه ولا مقصر عما ينبغي لهم من إبراز خافية، فمنه كل خير وهو القادر عليه والاستغاثة منه والاستعانة به والمصير إليه.
صفحة ١٤
المدخل:
فاتحة: فتوح فاتحة الأزهار وسائحة الوضوح سائحة الأنهار، هي فاتحة الكتاب ومبتدأ الخطاب: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، وبعثه إليهم مستقلا بأعباء الرسالة داعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا لرسوله بالحنيفية السمحة (السهلة) ليظهره على الدين كله، وجعل له من لدنه سلطانا نصيرا، وأمر بالصلاة عليه قربة إليه وزلفى لديه، وجعلها للذنوب ممحقة وللآثام ممحاة وللسيئات تكفيرا، وختم به النبيين والمرسلين وجعله من خلاصة البريات باليقين ما خط على لوح الوجود بقلم التكون، تعظيما بشأنه وتعزيزا وتكريما لمحله، وتوفية بحقه وتعظيم قدره، وتنويها بأنه أتاه فضلا كثيرا وانتخب له من أهله عليا أخا وعونا وودا وخليلا ورفيقا ووزيرا، وصيره على أمر الدين والرسالة مؤازرا ومساعدا ومنجدا وظهيرا وجعله أمينه، وجمع كل الفضائل فيه وأنزل عليه في شأنه: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (1) تعظيما له وتوقيرا وتعريفا له بحق ولايته وتنبيها على كمال رعايته ليحافظوا عليها وينالوا بها سعادة ونظارة وتنصيرا نصر به الشريعة والإسلام، وأذل ببأسه الكفر والأصنام، وشكر إطعامه الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، ما بارزه مبارز إلا عاد عنه حسيرا، ولا قارنه قرن إلا نكص عنه كسيرا. فكم فرج عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من كربة وبؤس حتى شرفه بقوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»، وكشف عنه كل غمة وكربة حتى نزل فيه: قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى (2) فتوفر بها حظه من أقسم العلى توقيرا، ثم زانه شرفا وتعظيما بين
رأيت ولائي آل طه فريضة
بتبليغه إلا المودة في القربى
موالاتهم فرض على كل مسلم
وحبهم أسنى الذخائر للأخرى
صفحة ١٥
الأنام، ففاز لمدح العلى بما أنزل فيه وفي أولاده: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (1) والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على محمد عبده ونبيه، المنعوت بالخلق العظيم والمبعوث إلى الثقلين بالكتاب الكريم الذي فاز وظفر بنيل الأماني ودرك المطالب والمطالي تظفيرا، وعلى آله أهل بيته وأصحابه الطيبين الطاهرين وأزواجه أمهات المؤمنين، صلاة تنوه بذكرهم وتضاعف لهم الدرجات العلى، إنعاما وتبجيلا وتعزيزا، وتزيدهم رفعة وتمكينا وسعادة ونصرة ونصيرا، وسلم عليه كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون تسليما ناميا زاكيا مباركا فيه طيبا كثيرا ما تصلصلت عن دوحات الحمى الحمام الورق، وتسلسلت من نسمات الصبا الحمام الزرق، ووضح نهار وطمى تيار وجن ليل وسال سيل، وحن صاحب شوق وصاحت ذات طوق.
صفحة ١٦
فاتحة:
(في ذكر امتنان الله تعالى بنبيه (صلى الله عليه وسلم) على الأمة وكشف الآصار التي كانت من قبلنا عنا بسببه وإزاحة الغمة وذكر نسبه وأسمائه وما شرفه الله به من بين أنبيائه (عليهم السلام)) قال الله تعالى: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (1).
وقال تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (2).
وقال تعالى: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (3).
قال محمد بن كعب القرظي (4): إن الله ما بعث نبيا إلا أمره أن يعرض على أمته هذه الآية: لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله (5) فكان إذا عرضها عليهم قالوا: لا نستطيع أن يؤاخذنا الله بما توسوس به نفوسنا، فلما بعث الله محمدا (صلى الله عليه وسلم) أنزلها عليه فآمن بها وعرضها على أصحابه فقالوا: كلفنا من العمل ما
صفحة ١٧
نطيق الصلاة والصيام والزكاة والحج، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال لهم (صلى الله عليه وسلم):
«أتريدون أن تقولوا كما قال من قبلكم سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير »، فقالوها وأمنوا بها فخففها الله عنهم وأنزل آمن الرسول - أي صدق- بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله - إلى قوله- وإليك المصير (1). فرفع الله عن أمته حديث أنفسهم بالمعصية ونسخها عنهم بقوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت (2). (3).
وقال (صلى الله عليه وسلم)(عليهم السلام) «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به، ولم يرفع ذلك عن أمة غيرها» (4).
وقال الله له: سل تعطه، فقال (صلى الله عليه وسلم) مخبرا عن نفسه وأمته: «ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا الطاعة أو أخطأنا في ركوب المعصية» قال الرب: لا أؤاخذكم بالنسيان ولا أؤاخذكم بالخطإ ولكن بما تتعمدون وأنزل: وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم (5)؛ ألا ترى أن من أكل ناسيا لا يبطل صومه، ومن قتل مؤمنا خطأ لا يقتص منه ولا يأثم، وقال (صلى الله عليه وسلم): «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، ثم قال: يا محمد سل تعطه، فقال (صلى الله عليه وسلم): «ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا» يعني الشدة والجهد فقال الله: قد رفعت الإصر والشدة عن أمتك وأنزل: وما جعل عليكم في الدين من حرج (6) وأنزل: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (7)، فخفف الله عن هذه الأمة بسببه وبركته ما لم يخفف عن من كان قبلنا من الامم المتقدمة، فقد كان الإصر على بني إسرائيل في عشرة أشياء أو أكثر:
صفحة ١٨
أحدها: أن فرض الصلاة عليهم كان خمسين صلاة.
الثاني: أن الصلاة كانت واجبة عليهم في الكنائس والبيع، ولا يجوز لهم الصلاة في غيرها.
الثالث: أنه كان لا يطهرهم غير الماء، فإذا أصاب أحدهم حدث من جنابة أو حيض أو نفاس ولم يجد الماء بقي رجسا نجسا.
الرابع: أنهم كانوا في صيامهم إذا صلوا العشاء أو ناموا حرم عليهم الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة.
الخامس: أن فرض الزكاة عليهم كان ربع المال.
السادس: أن غنائمهم وصدقاتهم كانت محرمة على الفقراء منهم، كانوا إذا أغنموا شيئا من الكفار جمعوه فتجيء نار من السماء فتأكله.
السابع: كان قبول صدقاتهم بالقربان والفضيحة، إذا تصدقوا جعلوه في مكان، فإن قبله الله جاءت نار من السماء فأكلته وإلا بقي فافتضح صاحبه.
الثامن: كانوا إذا أذنبوا ذنبا حرم الله عليهم طعاما طيبا كما قال: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم (1).
التاسع: أن حسناتهم كانت واحدة بواحدة من غير زيادة.
العاشر: أن ذنوبهم كانت مع الفضيحة، إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبح ذنبه مكتوبا على باب داره أو جبهته فافتضح.
الحادي عشر: أن البول والقذر كان إذا أصاب جسد أحدهم أو ثوبه وجب عليهم فرضه بالمقراض وقطعه ولم يجز له غسله، فنهاهم رجل منهم عن ذلك فعذب في قبره.
الثاني عشر: أن القصاص كان حتما عليهم، ولم يكن لهم العفو ولا أخذ الدية، وخيرت هذه الأمة بين العفو والقصاص والدية.
فكانت هذه الأشياء إصرا على بني إسرائيل كما أخبر به الله عنه: ويحل لهم الطيبات
صفحة ١٩
ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم (1)، ثم قال الله لنبيه (صلى الله عليه وسلم): يا محمد لا أحرم على أمتك الطيبات بذنوبهم كما حرمتها على بني إسرائيل، وحللتها لهم بفضلي ومسألتك، يا محمد لم آمر أمتك بخمسين صلاة كما أمرت بني إسرائيل، بل خففتها عنهم وجعلتها خمسا وأثيبهم ثواب خمسين صلاة بفضلي ومسألتك، كما قال تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها (2) يا محمد: لم آمر أمتك في الزكاة بإخراج ربع المال كما أمرت بني إسرائيل، بل جعلت ربع العشر وطهرت بقية مالهم بفضلي ودعائك، يا محمد لم أدع أمتك في نجاسة الذنوب والجنابة والحيض والنفاس إذا لم يجدوا ماء، كما كان لبني إسرائيل وأبحت لهم التيمم بالتراب بفضلي ودعائك كما قال الله: فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (3).
يا محمد: لا أفسد صلاة أمتك إذا صلوا في غير مسجد وأجعلها مقبولة بفضلي ودعائك كما قال تعالى: فأينما تولوا فثم وجه الله (4).
وقال (صلى الله عليه وسلم): «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (5)
، و# في رواية: «جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا»
(6). يا محمد: لا أحرم على أمتك الطعام والشراب والجماع بعد صلاة العشاء والنوم، كما حرمت على بني إسرائيل، ورخصت لهم في الأكل والشرب والجماع إلى أن يتبين الصبح بفضلي ودعائك. كما قال تعالى: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (7) ورفعت أيضا يا محمد الحساب فيما تأكل أمتك من الفطور والسحور بفضلي
صفحة ٢٠
ودعائك، يا محمد لا أقبل صدقات أمتك مع الفضيحة، كما جعلت صدقات بني إسرائيل بل آخذ صدقاتهم بفضلي ودعائك كما قال تعالى: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات (1) يا محمد لم أجعل حسنات أمتك واحدة بواحدة، بل جعلت حسناتهم الواحدة بعشر إلى سبعمائة وإلى ألفي ألف بفضلي ودعائك، يا محمد لا أفضح أمتك بتبيين الذنوب على أبوابهم كما فضحت بني إسرائيل، بل سترت ذنوبهم من الخلائق والملائكة بفضلي ودعائك.
وقال تعالى: يا محمد سل تعطه فقال: ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به كما حملت بني إسرائيل من أنواع الشدائد وتعجيل العقوبة ، كقطعهم أعضائهم وثيابهم إذا أصابها البول والقذر، وعدم قبول توبتهم إن لم يقتلوا أنفسهم كما قال تعالى: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم (2).
فمعنى «لا تحملنا ما لا طاقة لنا» أي: لا تجعل توبة أمتي القتل، فقال الله له: قد جعلت توبة أمتك الندامة بفضلي، ورفعت عنهم قطع الثياب والأعضاء بسؤالك، ولم أعاجلهم العقوبة وأمهلتهم برحمتي ودعائك كما قال: وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا (3).
ثم قال: يا محمد سل تعطه فقال: واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ، فدعا بثلاث دعوات بالعفو والمغفرة والرحمة، لأن الله أهلك قبل أمته ثلاث أمم بالفسخ والمسخ والقذف والحجارة كقارون وقوم داود (عليه السلام) جعل منهم القردة والخنازير، وقوم لوط [أمطر] عليهم حجارة من سجيل فخاف النبي (صلى الله عليه وسلم) من هذه الخصال على أمته وقال: «واعف عنا من الخسف» فقال تعالى: لا أخسف بأبدانهم الأرض بسؤالك ودعائك لا وأخسف بذنوبهم بفضلي حتى لا ترى الملائكة والآدميون ذنوبهم فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «واغفر لنا من المسخ».
فقال الله تعالى: لا أمسخ أبدانهم ولا أحولهم من حال الإنسانية، وأمسخ ذنوبهم أي أحولها
صفحة ٢١
من السيئات إلى الحسنات بفضلي كما قال الله: فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات (1) فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «وارحمنا من القذف».
فقال الله: لا أمطر عليهم الحجارة برحمتي وأمطر عليهم الرحمة بفضلي ودعوتك.
فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين لأنا قليل مثل الشامة البيضاء، وهم كثير مثل الثور الأسود» قال الله: أنا ناصرك وناصر أمتك يا صفيي وحبيبي.
فأعطى الله محمدا (صلى الله عليه وسلم) في أمته ما سأل وما يسأل وزاده وأمته فضلا عظيما وخصه وإياهم بأشياء لم يخص بها أحدا من خلقه، فأنزل الله عليه الكتاب كما أنزله على الأنبياء قبله، وخصه وأمته بأن جعلهم يقرءونه عن ظهر قلوبهم ولم تقرأ أمة قط كتابها ظاهرا، وجعله ناسخا لجميع الكتب وجعله محفوظا من التبديل والتغيير والزيادة والنقصان كما قال تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (2) وقال تعالى: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (3) بخلاف غيره من الكتب فإنها بدلت وغيرت وزيد فيها ونقص.
وأمره الله وأمته (صلى الله عليه وسلم) بالصلاة كما أمر بها من قبلنا من الامم وخصه (صلى الله عليه وسلم) بالصلاة هو وأمته؛ بأن جمع لهم فيها جميع صلوات المصلين من القيام والركوع والسجود والقعود، فإن بعضهم كانت صلاته قيام لا ركوع ولا سجود فيها، وبعضهم ركوع لا قيام ولا سجود فيها، وبعضهم سجود لا قيام ولا ركوع فيها، فجمع الله له ولأمته في صلاتهم عبادة العابدين وثواب جميع المصلين، وخصه الله وأمته بصلاة العشاء الآخرة وفضلهم بها ولم يعطها لأمة من الامم قبلهم، وفضله وأمته دون غيرهم بالجماعة لقوله تعالى: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك (4).
وقال (صلى الله عليه وسلم): «صلاة الجماعة تفضل بصلاة الفرد بسبع وعشرون درجة، وكان من قبلنا يصلي كل إنسان لنفسه، وكانت علامة صلاة من قبلنا الناقوس وعلامة صلاتنا الأذان
صفحة ٢٢
والإقامة، وأمر الله من قبلنا بالصيام وأمرنا بذلك»
. ثم فضل الله محمدا (صلى الله عليه وسلم) أمته بليلة القدر وخصهم بها، وأمره بالصلاة والتوجه إلى بيت المقدس في أول الإسلام ليشاركهم ويساويهم في ذلك، ثم فضله وأمته بصرفهم إلى الكعبة قبلة إبراهيم (عليه السلام)، وأعطى الله الامم المتقدمة أعمارا طويلة وكلفهم عملا شاقا وأعطاهم أجرا قليلا، وأعطاه وأمته (صلى الله عليه وسلم) في الأعمار القصيرة على الأعمال اليسيرة ضعف ما أعطى أولئك في أعمارهم الطويلة وأعمالهم الكثيرة الثقيلة، كما جاء في حديث ابن عمر (رضي الله عنهما).
أن اليهود والنصارى غضبوا وقالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء؟
قال الله: هل ظلمتكم من حقكم من شيء؟
قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء، ووصف الله أمته بأنهم خير الأمم فقال:
كنتم خير أمة أخرجت للناس (1) لأنه خير الأنبياء .
يروى أن يحيى بن معاذ الرازي (رحمه الله) حين قرأ هذه الآية قال: إلهي هذه مدحة منك، ولم يكن الله يمدح قوما ثم يعذبهم وقال تعالى: وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها (2) فجعل الله رسوله (صلى الله عليه وسلم) سبب نجاة المؤمنين، وأكمل عليهم المنة به فلما أنجاهم وأنقذهم ولا يردهم إليها (إن شاء الله).
ولما سمع بعض الأعراب هذه الآية تقرأ عند ابن عباس (رحمه الله) قال: والله ما أنقذكم منها وهو يريد أن يطرحهم فيها، فقال ابن عباس: خذوها من غير فقيه.
وهداك قال الله: الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم (3) فلما هداهم وأخرجهم من الظلمات وأنقذهم منها لا يردهم إليها إن شاء الله.
ومما خص الله به محمدا (صلى الله عليه وسلم) وأمته مع كثرة ذنوبهم وارتكابهم الجرائم واقتحامهم المهلكات العظائم، ما روي أن الله لما خلق اللوح والقلم أجراه بما يكون من سائر الامم ثم
صفحة ٢٣
جرى بما يكون من الله إليهم حتى فرغ من الأمم السالفة، ثم كتب ما يكون من الله إلى هذه الأمة وتضاعف إحسان الله إلى هذه الأمة وحدها على إحسانه إلى سائر الخلق، ثم كتب ما يكون من خطاياهم فكانت خطاياهم أضعاف خطايا الأمم السالفة كلها، فكان فيما جرى به القلم بأمر الله أنها أمة تقتل ولد نبيها، فتعجب القلم وتحير من كثرة جرمهم وعظم إحسان الله إليهم مع ذلك، فنظر الرب إلى القلم فانشق رأسه فمن هناك صارت الأقلام تنشق رءوسها، وقال الرب: اكتب يا قلم أمة مذنبة ورب غفور.
فقال القلم: إلهي لو علمت أنك تأمرني بكتابة هذه الحروف لم أبال بما كتبته من الذنوب عليهم.
وفي رواية: لما باليت بكتابة الذنوب عليهم.
ومما خص الله به محمدا (صلى الله عليه وسلم) وأمته ما
روى أبو هريرة (رضى الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن الله فضلني على الأنبياء وفضل أمتي على الامم، أرسلني إلى الناس كافة ونصرت بالرعب مسيرة شهر تسير بين يدي قذفه الله في قلوب أعدائي، وجعل لي الأرض كلها مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت» (1) .
وفي رواية: فأيما عبد أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره، وأحلت لي الغنائم» (2)
. ومما فضل الله به محمدا (صلى الله عليه وسلم) ما شرفه به وأعطاه أن خصه بمقامين عاليين رفيعين: مقام قاب قوسين أو أدنى، ومقام الشفاعة العظمى يوم القيامة في الثقلين، وهو المقام المحمود الذي أعطاه الله كما قال الله: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (3) وقال: ولسوف يعطيك ربك فترضى (4) وبه ساد الخلق كلهم حتى
قال (صلى الله عليه وسلم): «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (5)
. فيكون كل نبي مسئولا بنفسه وهو (صلى الله عليه وسلم) بها وبغيره مشفعا لأمته.
صفحة ٢٤
قال المفسرون في قوله تعالى: قاب قوسين أو أدنى (1): هو من الوتر إلى العروة، ومن القبضة إلى الوتر جعل الله محمدا (صلى الله عليه وسلم) أدنى من ذلك حيث قال: (أو أدنى) فلا يهدي أحد قرب الخالق من محمد (صلى الله عليه وسلم) لأنه سبحانه عرف الخلق قربه.
ثم قال: أو أدنى فلا يعرف مخلوق كم قدر الأدنى، ومعناه قرب المنزلة والجاه لا قرب المكان، فإن الله تعالى منزه عن المكان كما يقال: فلان قريب من فلان.
ومما خص الله محمدا (صلى الله عليه وسلم) أن جعله رحمة للعالمين مؤمنهم وكافرهم فقال عز وجل:
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (2) وقال (صلى الله عليه وسلم): «إنما أنا رحمة مهداة» (3).
فهو مبعوث بالرحمة، لأن الله تعالى وضع في شريعته على أمته ما كان في شرائع الأمم السالفة من الآصال والأغلال ثم بين الله رحمته بالمؤمنين والكافرين فقال تعالى في حق المؤمنين: الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم (4).
وقال تعالى: وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها (5) وهذا خبر منه سبحانه والخلف في خبره محال فقد عظم الرجاء والطمع في رحمته عز وجل بهم، وأما رحمته بالكافرين فقد أخبر سبحانه أن جهال كفار قريش حين سألوا العذاب: و قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (6).
فقال الله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم (7) يعني ما دمت بينهم فإن الله لا يعذبهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (8) يعني في أصلابهم مؤمن يستغفر الله، وهذا بين في رحمته عز وجل بالمؤمنين والكافرين بسببه وشرف لا يشاركه فيه أحد من الأنبياء (عليهم السلام)، فقد أكمل الله على جميع الأمة بإرساله إليهم الرحمة، وأعظم عليهم المنة وأتم عليهم النعمة،
صفحة ٢٥
فله الحمد على ما أنعم أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
وأما نسبه (صلى الله عليه وسلم):
فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان- إلى هنا إجماع العلماء وما بعد عدنان ففيه اختلاف كثير في عدد الآباء وفي ضبطهم.
روي أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان إذا انتسب ووصل إلى عدنان أمسك (1). قال عروة بن الزبير (رضى الله عنه): ما وجدنا من يعرف ما وراء عدنان ولا قحطان إلا تخرصا (2).
وقحطان هو جد معد بن عدنان من جهة أمه، فإن أم معد تنمة وقيل: تيمية بنت يشجب ابن يعرب بن قحطان، وقحطان هو أبو «اليمن» كلهم، وكان أول من تكلم بالعربية.
واسم عبد المطلب شيبة، وقيل: شيبة الحمد، وقيل: عامر غلب لقبه على اسمه، واسم هاشم عمرو، وقيل: عمرو العلى، غلب لقبه على اسمه، وإنما دعي هاشما لهشمه الثريد لقريش بمكة.
واسم عبد مناف الغبرة، غلب أيضا لقبه على اسمه واسمه، قصي زيد فسمته العرب قصيا ومجمعا، لأنه جمع القبائل من الفهر من البلد القصي، غلب لقبه على اسمه، وقيل:
إنما سمي قصيا لأنه كان قاصيا من قوم في قصاعة ثم قدم مكة وقريش متفرقة في القبائل فجمعهم بمكة وأنزل بعضهم ظاهرها فهم قريش الظواهر، وبعضهم داخلها فهم قريش الأبطح.
وأمه (صلى الله عليه وسلم) آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة قرشية زهرية.
وأما أسماؤه (صلى الله عليه وسلم): فكثيرة تنيف عن السبعين (3)، منها ما ورد في القرآن الكريم، ومنها
صفحة ٢٦
ما جاءت به السنة، قال أبو الحسين بن فارس (1): إن لنبينا (صلى الله عليه وسلم) ثلاثة وعشرين اسما: محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب، والمقفى، والخاتم، ونبي التوبة، ونبي الرحمة، والمتوكل، والضحوك، والنذير، والمبشر، والشاهد، والفاتح، والقتال، والأمين، والنبي، والرسول، والمصطفى، والأمي، والقثم (2).
ومن أسمائه في القرآن: عبد الله، والمزمل، والمدثر، وطه، ويس، ورحمة للعالمين، وصدق، ومذكر، وهاد، وذكر، وشافع، ونور، وسراج منير ومنذر وبشير، وحق مبين، وقدم صدق، وكريم، ونعمة الله، والعروة الوثقى، والصراط المستقيم، والنجم الثاقب.
ومن أسمائه في الكتب: المختار، ومحي السنة، والمقدر، وروح الحق، وهو معنى الغار قليطا في الانجيل (3) وقيل: معناه أنه يفرق بين الحق والباطل، وفي التوراة أنه حرز للأميين، ومن أسمائه: أبو القاسم، والمجتبى، والحبيب، ورسول رب العالمين، والشفيع، والمشفع، والتقي، والمصلح، والظاهر، والمهيمن، والصادق، والمصدق، والهادي، وسيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وحبيب الله، وخليل الرحمن، وصاحب الحوض المورود، والشفاعة، والمقام المحمود، وصاحب الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة، وصاحب التاج والمعراج، واللواء والقضيب وراكب البراق والناقة وصاحب الهراوة والنعلين.
وأما شرفه (صلى الله عليه وسلم) وما خصه الله به من كرامته وأجراه على يده فهو أكثر من أنه يحصره عد عاد أو يحيط بها العباد، لكننا نأتي ببعض ما ورد في ذلك تنويها بذكره وقياما ببعض شكره (صلى الله عليه وسلم) قال الله: ورفعنا لك ذكرك (4) أي لا أذكر إلا ذكرتك معي، وأقسم الله بحياته
صفحة ٢٧