24 •••
ولنذكر دائما أن كل ما ذكرناه من نقد لا يصح إلا في ضوء التمييز الأساسي بين الموقفين الطبيعي والعلمي، وهو تمييز لم يكن واضحا في الأذهان في معظم الأحوال، وبعبارة أخرى: فنحن نعترف قطعا بأن العلم كان على حق تماما في استبعاده لفكرة الجوهر وفكرة الشيء من مجاله الخاص عندما وجدها عقبة في طريق تقدمه، وفي هذا الصدد: لا يستطيع أحد أن ينكر حدوث تقدم ملحوظ من العلم القديم - الذي كان يخلط بين الموقفين الطبيعي والعلمي، ويحصر الثاني في حدود الأول - إلى العلم الحديث الذي اتبع لنفسه منهجا لا يتقيد فيه بحدود الموقف الطبيعي، مما أدى به إلى إحلال العلاقات الرياضية محل الكيفيات المفتقرة إلى الاطراد والتجانس، فخروج العلم عن حدود الموقف الطبيعي كان إذن تقدما لا شك فيه بالنسبة إلى العلم ذاته.
وبهذا المعنى يمكن القول: إن «باشلار» كان على حق تماما حين عاب على المشتغلين بالعلم - في الفترة الأولى من العصر الحديث - أنهم كانوا يجسمون صفات ويضفون عليها كيانا قائما بذاته، وأنهم بذلك أسهموا في إعاقة العلم الذي لا يعترف إلا بالصفات أو العلاقات، ولا يؤمن بأية كيانات وهمية تتجسد فيها.
25
ولكن الأمر في الفلسفة يختلف: فعندما وجد الفلاسفة أن العلم الحديث يستغني عن فكرة الجوهر ويحل محلها فكرة العلاقات؛ اتجهوا إلى استبعاد فكرة الجوهر استبعادا تاما، ولم يتنبهوا إلى أن استغناء العلم عن هذه الفكرة لا يعني استغناء الإنسان في موقفه الطبيعي عنها، فالعلم حين شق لنفسه طريقا مستقلا؛ نتيجة لاهتدائه إلى منظورات أخرى للعالم مختلفة عن المنظور المعتاد، قد استغنى عن فكرة الجوهر؛ لأنها لم تعد تلائم هذه المنظورات الجديدة، ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أنها لم يعد لها مكان في تجربة الإنسان؛ إذ إنها - هي وفكرة الشيء الوثيقة الارتباط بها - جزء لا يتجزأ من تجربة الإنسان الطبيعية التي وجدت بعض فروع العلم لزاما عليها أن تتجاوزها، ونقول: «بعض فروع العلم»؛ لأن هناك فروعا تفترض فكرة الجوهر أو الشيء، وذلك مثل علوم الحيوان والنبات والجيولوجيا والجغرافيا إلخ، وهي علوم لن تكف عن معالجة موضوعاتها على أنها «أشياء» بنفس المعنى الذي يدرك به الإنسان موضوعات تجربته في الموقف الطبيعي على أنها أشياء.
وإذن، فلم يكن خطأ الفلسفات القديمة ينحصر في القول بفكرة الجوهر ذاتها، وإنما في الاعتقاد بأن هذه الفكرة - التي تنطبق على مجال الإنسان المعتاد - تنطبق أيضا على المجال العلمي، أما الفلسفات الحديثة فقد ارتكبت الخطأ المضاد، وهو محاولة استبعادها من جميع المجالات.
وربما كان شعور كانت بخطأ الاتجاه الأخير هو الذي دفعه إلى محاولة تبرير فكرة الجوهر تبريرا ترنسندنتاليا، وعلى أية حال فكثيرا ما انتقد كانت على أساس أن احتفاظه بفكرة الجوهر في فلسفته كان يمثل خروجا على الاتجاه العام للعلم الحديث الذي كان قد أخذ يسير بوضوح في طريق العلاقات الرياضية بدلا من الجواهر، وقد لا يكون هذا الانتقاد في واقع الأمر إلا مظهرا آخر للخلط الذي طالما أشرنا إليه؛ إذ إن «كانت» ربما لم يكن يرمي إلى تبرير الفكرة في ميدان العلم (والمثل الذي ضربه ب «فكرة» بقاء الطاقة في كتاب نقد العقل الخاص (ص
B. 228 ) كان مجرد مثل عارض لا يقصد به إلا إيضاح فكرته فحسب)، بل كان يرمي إلى تبريرها على أساس ارتباطها بفكرة الدوام، وهي الفكرة التي يعدها «شرطا ضروريا هو وحده الذي يتيح لنا تحديد المظاهر على أنها أشياء أو موضوعات في تجربة ممكنة.» (
B. 232 )، وهكذا يمكن أن يقال: إن تبرير كانت لفكرة الجوهر كان راجعا إلى كونها عنصرا أساسيا من تلك العناصر التي تجعل التجربة ممكنة، بل إنه يؤكد رسوخ فكرة الجوهر بين الفلاسفة وفي الذهن المعتاد بوصفها العنصر الثابت من وراء التغيرات (
B. 227 )، وربما كانت حالة «كانت» مثلا فريدا لفيلسوف اعترف بضرورة فكرة الجوهر في تجربة الإنسان المعتادة، وسط اتجاه فلسفي عام كان يرمي إلى استبعادها من جميع المجالات. •••
صفحة غير معروفة