خرج بلال بن أبى بردة في جنازة - وهو أمير على البصرة - فنظر إلى جماعة وقوفا، فقال: ما هذا؟ قالوا: مالك بن دينار يذكر الناس. فقال لوصيف معه: اذهب إلى مالك بن دينار فقل له: يرتفع إلينا إلى القبر. فجاء الوصيف فنادى الرسالة إلى مالك، فصاح به مالك: ما لي إليه حاجة فأجيبه فيها، فإن تكن له حاجة فليجئ إلى حاجة نفسه. فلما وقفوا بينهم قام بلال بمن معه إلى حلقة مالك، فلما دنا منه نزل ونزل من معه، ثم جاء يمشي إلى الحلقة حتى جلس، فلما رآه مالك بن دينار سكت فأطال السكوت، فقال له بلال: يا أبا يحيى، ذكرنا. فقال: ما نسيت شيئا فأذكرك به! فقال: فحدثنا! فقال: أما هذا فنعم، قدم علينا أمير من قبلك على البصرة، فمات فدفناه في هذه الجبانة، ثم أتينا وإذا بفقير قد مات فدفناه أيضا إلى جانبه، فوالله ما أدري أيهما كان أكرم على الله سبحانه. فقال بلال: يا أبا يحيى، أتدري ما الذي جرأك علينا؟ وما الذي أسكتنا عنك؟ لأنك لم تأكل من دراهمنا شيئا، أما والله لو أخذت من دراهمنا شيئا ما اجترأت علينا هذه الجراءة.
الحجاج والرجل
حج الحجاج فنزل بعض المياه بين مكة والمدينة ودعا بالغذاء، وقال لحاجبه: انظر من يتغذى معي واسأله عن بعض الأمر. فنظر نحو الجبل، وإذا براع بين التلال نائما، فضربه برجله، وقال له: ائت الأمير. فأتاه، فقال له الحجاج: اغسل يدك وتغد معي. فقال: دعاني من هو خير منك فأجبته. قال: ومن هو؟ قال: الله تعالى؛ دعاني إلى الصيام فصمت. قال: في هذا الحر الشديد؟! قال: نعم، صمت ليوم هو أشد منه حرا. قال: فأفطر وصم غدا. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد! قال: ليس ذلك إلي! قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه؟! قال: لأنه طيب. قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ، ولكن طيبته العافية.
أبو عقال وأبو هارون
كان أبو عقال علوان بن الحسن من أبناء الملوك، وكان ذا نعمة وملك، فزهد في الدنيا، وتاب إلى ربه ورجع عن ذلك رجوعا فارق معه نظراءه؛ فرفض المال والأهل، وهاجر البناء والوطن، وبلغ من العبادة مبلغا أربى فيه على المجتهدين، ثم انقطع إلى بعض السواحل فصحب رجلا يكنى أبا هارون الأندلسي منقطعا مبتهلا إلى الله تعالى، فرأى منه كبير اجتهاد في العمل، فبينما أبو عقال يسهد ليلة وأبو هارون نائم؛ إذ غالبه النوم، فقال لنفسه: يا نفس، هذا عابد جليل القدر ينام الليل كله فلو أرحت نفسي! فاستلقى قليلا؛ فرأى في منامه شخصا، فتلا عليه:
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات (الجاثية: 21) إلى آخر الآية، فاستيقظ فزعا، وعلم أنه المراد، فأيقظ أبا هارون، وقال له: سألتك بالله؛ هل أتيت كبيرة قط؟ قال: لا يا ابن أخي ولا صغيرة عن تعمد! فقال أبو عقال: لهذا تنام أنت، ولا يصلح لمثلي إلا الكر والاجتهاد. ثم انقطع إلى العبادة ومات وهو ساجد في صلاته.
ابن المعلم الهاشمي
قال عبد الله بن المعلم: خرجنا من المدينة حجاجا، فلما كنا بالرويثة نزلنا، فوقف بنا رجل عليه ثياب رثة ليس له منظر وهيئة، فقال: من يبغي خادما؟ من يبغي ساقيا؟ فقلت: دونك هذه القربة. فأخذها فانطلق، فلم يلبث إلا يسيرا حتى أقبل وقد امتلأ أثوابه طينا فوضعها كالمسرور الضاحك، ثم قال: لكم غير هذا؟ قلنا: لا. وأطعمناه قرصا باردا، فأخذه وحمد الله تعالى وشكره، ثم اعتزل وقعد فأكله أكل جائع، فأدركتني عليه الشفقة؛ فقمت إليه بطعام طيب كثير، فقلت له: قد علمت أنه لم يقع منك القرص بموقع فدونك هذا الطعام. فنظر في وجهي وتبسم، وقال: يا عبد الله، إنما هي فورة جوع فما أبالي بأي شيء رددتها. فرجعت عنه، فقال لي رجل إلى جنبي: أتعرفه؟ قلت: لا. قال: إنه من بني هاشم من ولد العباس بن عبد المطلب كان يسكن البصرة، فتاب، فخرج منها متفقدا، فما عرف له أثر ولا وقف له على خبر. فأعجبني قوله، ثم اجتمعت به وآنسته، وقلت له: هل لك أن تعادلني؛ فإن معي فضلا من راحلتي؟ فجزاني خيرا ، وقال: لو أردت هذا لكان لي معدا. ثم آنس إلي فجعل يحدثني، فقال: أنا رجل من ولد العباس، كنت أسكن البصرة، وكنت ذا كبر شديد وبذخ، وإني أمرت خادمي أن يحشو فراشا لي من حرير ومخدة بورد نثر، ففعل، وإني لنائم وإذا بقمع وردة قد أغفلته عين الخادم، فقمت إليه وأوجعته ضربا، ثم عدت إلى مضجعي بعد إخراج القمع من المخدة، فأتاني آت في منامي في صورة فظيعة فهزني، وقال: أفق من غشيتك، أبصر من حيرتك! ثم أنشأ يقول:
يا خد إنك إن توسد لينا
وسدت بعد الموت صم الجندل
صفحة غير معروفة