ثم مضيت إلى الرشيد وقصصت عليه القصة وأخبرته بجميع ما جرى، فتعجب الرشيد من كرم يحيى وسخائه ومروءته، وخساسة منصور وردائته، وأمر أن ترد الجوهرة إلى يحيى بن خالد، وقال: كل شيء قد وهبناه لا يجوز أن نعود فيه، وعاد صالح إلى يحيى بن خالد وذكر له قصة منصور وسوء فعله، فقال يحيى : يا صالح إذا كان الإنسان مقلا ضيق الصدر مشغول الفكر فمهما صدر منه لا يؤاخذ به لأنه ليس ناشئا عن قلبه، وصار يتطلب العذر لمنصور ... فبكى صالح وقال: لا يجري الفلك الدائر بإبراز رجل إلى الوجود مثلك، فوا أسفاه كيف يتوارى من له خلق مثل خلقك وكرم مثل كرمك تحت التراب، وأنشد هذين البيتين:
بادر إلى أي معروف هممت به
فليس في كل وقت يمكن الكرم
كم مانع نفسه إمضاء مكرمة
عند التمكن حتى عاقه الندم
جعفر البرمكي مع بائع الفول
حكي أن جعفرا البرمكي لما صلبه هارون الرشيد أمر بصلب كل من نعاه أو رثاه، فكف الناس عن ذلك، فاتفق أن أعرابيا كان ببادية بعيدة وفي كل سنة يأتى بقصيدة إلى جعفر البرمكي فيعطيه ألف دينار جائزة على تلك القصيدة فيأخذها وينصرف ويستمر ينفق منها على عياله إلى آخر العام، فجاء الأعرابي بالقصيدة على عادته، فلما جاء وجد جعفرا مصلوبا، فجاء إلى المحل الذي هو مصلوب فيه وأناخ راحلته وبكى بكاء شديدا وحزن حزنا عظيما وأنشد القصيدة ونام، فرأى جعفرا البرمكي في المنام يقول له: إنك قد أتعبت نفسك وجئتنا فوجدتنا على ما رأيت، ولكن توجه إلى البصرة واسأل عن رجل اسمه كذا وكذا من تجار البصرة وقل له: إن جعفرا البرمكي يقرئك السلام ويقول لك: أعطني ألف دينار بأمارة الفولة، فلما انتبه الأعرابي من نومه توجه إلى البصرة فسأل عن ذلك التاجر واجتمع به، وبلغه ما قاله جعفر في المنام، فبكى التاجر بكاء شديدا حتى كاد يفارق الدنيا، ثم إنه أكرم الأعرابي وأجلسه عنده وأحسن مثواه ومكث عنده ثلاثة أيام مكرما، ولما أراد الانصراف أعطاه ألفا وخمسمائة دينار وقال له: الألف هي المأمور لك بها والخمسمائة إكرام مني إليك ولك في كل سنة ألف دينار، وعندما حان انصراف الأعرابي قال للتاجر: بالله عليك أن تخبرني بخبر الفولة حتى أعرف أصلها، فقال له: إني كنت في ابتداء الأمر فقير الحال أطوف بالفول الحار في شوارع بغداد وأبيعه حيلة على المعاش، فخرجت في يوم بارد ماطر وليس على بدني ما يقيني من البرد فتارة أرتعد من شدة البرد وتارة أقع في ماء المطر، وأنا في حالة كريهة تقشعر منها الجلود، وكان جعفر في ذلك اليوم جالسا في قصر مشرف على الشارع وعنده خواصه، فوقع نظره علي فرق لحالي وأرسل إلي بعض أتباعه فأخذني إليه وأدخلني عليه، فلما رآني قال لي: بع ما معك من الفول على طائفتي، فأخذت أكيله بمكيال كان معي، فكل من أخذ كيلة فول يملأها ذهبا حتى فرغ جميع ما معي ولم يبق في القفة شيء، ثم جمعت الذهب الذي حصل لي على بعضه، فقال لي: هل بقي معك شيء من الفول، قلت: لا أدري، ثم فتشت القفة فلم أجد فيها سوى فولة واحدة فأخذها مني جعفر وفلقها نصفين، فأخذ نصفها وأعطى النصف الثاني إحدى نسائه وقال: بكم تشترين نصف هذه الفولة؟ قالت: بقدر هذا الذهب مرتين، فصرت متحيرا في أمري وقلت في نفسي: هذا محال، فبينما أنا متعجب وإذ بالمرأة أمرت بعض جواريها فأحضرت ذهبا قدر الذهب المجتمع مرتين، فقال جعفر: وأنا أشتري النصف الذي أخذته بقدر الجميع مرتين، ثم قال جعفر: خذ ثمن فولك، وأمر بعض خدامه فجمع المال كله ووضعه في قفتين فأخذته وانصرفت، ثم جئت إلى البصرة، واتجرت بما معي من المال فوسع الله علي ولله الحمد والمنة، فإذا أعطيتك في كل سنة ألف دينار من بعض إحسان جعفر ما ضرني شيء، فانظر مكارم أخلاق جعفر والثناء عليه حيا وميتا.
حكم الوادي ويحيى بن خالد والجارية دنانير
قال حكم الوادي: دخلت يوما على يحيى بن خالد فقال لي: يا أبا يحيى، ما رأيك في خمسمائة دينار قد حضرت؟ قلت: ومن لي بها، قال: تلقى لحنك في «ذكرتك إن فاض الفراق بأرضنا» على دنانير، فها هي ذه، وهذا سلام واقف معك ومخرجها إليك، وأنا راكب إلى أمير المؤمنين ولست أنصرف من مجلس المظالم إلى وقت الظهر فكدها فيه، فإذا أحكمته فلك خمسمائة، فقالت دنانير : يا سيدي، أبو يحيى يأخذ خمسمائة دينار وينصرف وأنا أبقى معك أقاسمك عمري كله، فقال لها: إن حفظتيه فلك ألف دينار، وقام فمضى، فقلت لها: يا سيدتي اشغلي نفسك بذا، فإنك أنت تهبين لي الخمسمائة دينار بحفظك إياه وتفوزين بالألف الدينار، وإلا بطل هذا، فلم أزل معها أكدها وأغني ونغني حتى انصرف يحيى، فدعا بماء وطشت، ثم قال: يا أبا يحيى غن الصوت كما كنت تغنيه، فقلت: هلكت، يسمعه مني وليس هو ممن يخفى عليه، ثم يسمعه منها فلا يرضاه، فلم أجد بدا من الغناء، ثم قال: غنه أنت الآن فغنيت، فقال: والله ما أرى إلا خيرا، فقلت: جعلت فداك أنا أمضغ هذا منذ أكثر من خمسين سنة كما أمضغ الخبز وهذه أخذته الساعة وهو بذل لها بعدي وتجترئ عليه وتزداد حسنا في صوتها، فقال: صدقت، هات يا سلام له خمسمائة دينار ولها ألف دينار، ففعل، فقلت له: وحياتك يا سيدي لأشاطرن أستاذي الألف دينار، قال: ذلك إليك، ففعلت فانصرفت وقد أخذت بهذا الصوت ألف دينار.
إسحاق التميمي الشاعر والفضل بن يحيى
صفحة غير معروفة