وبعض القوم إن ملكوا أساؤوا
هم أرض لأرجلكم وأنتم
لأيديكم وأرجلهم سماء
فقلت له: كم أعطى عليها؟ قال: عشرين ألفا.
خزيمة وعكرمة الفياض
كان في أيام خلافة سليمان بن عبد الملك رجل يقال له خزيمة بن بشر من بني أسد مشهور بالمروءة والكرم والمواساة، وكانت نعمته وافرة، فلم يزل على تلك الحالة من الكرم حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يؤاسيهم ويتفضل عليهم، فآسوه حينا ثم ملوه، فلما لاح منهم ذلك أتى امرأته وقال لها: يا ابنة العم رأيت من إخواني غير ما عهدته فيهم وقد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت، ثم إنه أغلق بابه وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد جميعه وبقي حائرا في أمره، وكان يومئذ عكرمة الفياض واليا على الجزيرة. فبينما هو جالس في ديوانه وعنده جماعة من أهل البلد من معارفه إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر، فسألهم عكرمة عن حاله فقالوا له: إنه في أشقى حال من الفقر وقد أغلق بابه ولزم بيته، فقال عكرمة الفياض: أفما وجد خزيمة بن بشر مواسيا أو مكافيا، فقالوا له: لا، فأمسك عكرمة عن ذلك، وكان بمنزلة عظيمة من الكرم وسمي الفياض لزيادة كرمه وجوده، فانتظر إلى الليل وعمد إلى أربعة آلاف دينار جعلها في كيس ثم ركب دابته وخرج سرا من عند أهله لا يصحبه إلا غلام واحد يحمل المال، فلم يزل سائرا حتى وصل إلى باب خزيمة، فنزل عن دابته إلى ناحية وأمسكها لغلامه وأخذ منه الكيس وأتى به وحده إلى الباب وقرعه، فخرج خزيمة فقال له عكرمة وقد أنكر صوته: خذ هذا أصلح به شأنك، فتناوله خزيمة فرآه ثقيلا فوضعه وقبض على ذيل عكرمة وقال له: أخبرني من أنت جعلت فداك؟ فقال له عكرمة: ما جئتك في مثل هذا الوقت وأريد أن تعرفني، فقال له خزيمة: والله لا أقبله ما لم تخبرني من أنت، فقال له عكرمة: أنا جابر عثرات الكرام، فقال خزيمة: زدني إيضاحا، فقال له عكرمة: لا والله، وانصرف، فدخل خزيمة بالكيس إلى امرأته وقال له: أبشري فقد أتى الله بالفرج فقومي أسرجي، فقالت: لا سبيل إلى السراج لأنه ليس لنا زيت، فبات خزيمة يلمس الكيس فيجد خشونة الدنانير، ولما رجع عكرمة إلى منزله سألته امرأته فيم خرج بعد هدأة من الليل منفردا، فأجابها: ما كنت لأخرج في وقت كذا وأريد أن يعلم أحد بما خرجت إليه إلا الله فقط، فقالت له: لا بد لي أن أعلم ذلك، وصاحت وناحت وألحت عليه بالطلب، فلما رأى أنه ليس له بد قال لها: أخبرك بالأمر فاكتميه إذا، قالت له: قل ولا تبال بذلك، فأخبرها بالقصة على وجهها، أما ما كان من خزيمة فإنه لما أصبح صالح غرماءه وأصلح شأنه وتجهز للسفر يريد الخليفة سليمان بن عبد الملك، فدخل الحاجب وأخبر سليمان بوصول خزيمة بن بشر، وكان سليمان يعرفه جيدا بالمروءة والكرم فأذن له، فلما دخل خزيمة وسلم عليه بالخلافة قال له سليمان: يا خزيمة ما أبطأك عنا، قال: سوء الحال يا أمير المؤمنين، قال: فما منعك النهضة إلينا، قال خزيمة: ضعفي يا أمير المؤمنين وقلة ما بيدي، قال: فكم أنهضك الآن، قال خزيمة: لم أشعر يا أمير المؤمنين بعد هدأة من الليل إلا والباب يطرق فخرجت فرأيت شخصا وكان منه كيت وكيت، وأخبره بقصته من أولها إلى آخرها، فقال له: أما عرفته، فقال خزيمة: ما سمعت منه يا أمير المؤمنين إلا حين سألته عن اسمه قال: أنا جابر عثراث الكرام، فتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته وقال: لو عرفناه لكافأناه على مروءته، ثم قال: علي بالكاتب فحضر إليه، فكتب لخزيمة الولاية على الجزيرة وجميع عمل عكرمة وأجزل له العطاء وأحسن ضيافته، وأمره بالتوجه من وقته إلى الولاية فقبل الأرض خزيمة وتوجه من ساعته إلى الجزيرة، فلما قرب منها خرج عكرمة وكان قد بلغه عزله وأقبل لملاقاة خزيمة مع جميع أعيان البلد، وسلموا عليه وساروا جميعا إلى أن دخلوا به البلد، فنزل خزيمة في دار الإمارة وأمر أن يؤخذ عكرمة ويحاسب، فحوسب ففضل عليه مال كثير فطلبه جزية منه، فقال له عكرمة: والله ما إلى درهم منه سبيل ولا عندي منه دينارا، فأمر خزيمة بحبسه وأرسل يطالبه بالمال، فأرسل عكرمة يقول له: إني لست ممن يصون ماله بعرضه فاصنع ما شئت، فأمر خزيمة بقيده وضربه، فكبل بالحديد وضرب وضيق عليه، فأقام كذلك شهرا فأضناه ذلك وأضر به، فبلغ امرأته ضره فجزعت لذلك واغتمت غما شديدا، فدعت جارية لها ذات عقل وقالت لها: اذهبي الساعة إلى باب خزيمة وقولي للحاجب: إن عندي نصيحة للأمير فإذا طلبها منك فقولي: لا أقولها إلا للأمير خزيمة، فإذا دخلت عليه فسليه الخلوة فإذا فعل فقولي له: ما كان هكذا جزاء جابر عثرات الكرام منك بمكافأتك له بالضيق والحبس والحديد ثم بالضرب، ففعلت جاريتها ذلك، فلما سمع خزيمة قولها قال: واسوأتاه جابر عثرات الكرام غريمي، قالت: نعم، فأمر لوقته بدابته فأسرجت وركب إلى وجوه أهل البلد فجمعهم وسار بهم إلى باب الحبس متغيرا وقد أضناه الضر، فلما نظر عكرمة إلى خزيمة ووجوه أهل البلد أحشمه ذلك فنكس رأسه، فأقبل خزيمة وأكب على رأسه فقبله، فرفع عكرمة رأسه وقال: ما أعقب هذا منك، قال خزيمة: كريم فعالك بسوء مكافأتي، فقال له عكرمة: يغفر الله لنا ولك، ثم إن خزيمة أمر بقيوده أن تفك وأن توضع في رجليه نفسه، فقال له عكرمة: ما مرادك بذلك، قال مرادي أن ينالني من الضر ما نالك، فقال له عكرمة: أقسم عليك بالله أن لا تفعل، وبعد ذلك خرجا جميعا وجاء إلى دار خزيمة فودعه عكرمة وأراد الانصراف فلم يمكنه من ذلك، ثم أمر خزيمة بالحمام فأخلي ودخلا جميعا، وقام خزيمة نفسه فتولى خدمة عكرمة، ثم خرج فخلع عليه وحمل إليه مالا كثيرا وسأله أن يسير معه إلى أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك، وكان يومئذ في الرحلة، فسار معه حتى قدما على سليمان، فدخل الحاجب وأخبره بقدوم خزيمة بن بشر، فراعه ذلك وقال في نفسه: والي الجزيرة يقدم علينا بدون أمرنا مع قرب العهد به، ما هذا إلا لحادث عظيم، فلما دخل عليه قال: ما وراءك يا خزيمة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: فما أقدمك، قال: يا أمير المؤمنين إني ظفرت بجابر عثرات الكرام فأحببت أن أسرك لما رأيت من شوقك إلى رؤيته، قال: ومن هو؟ قال: عكرمة الفياض، فأذن له في الدخول فدخل وسلم عليه بالخلافة، فرحب به وأدناه من مجلسه وقال له: اكتب حوائجك وما تختاره في رقعة، فكتبها فقضيت على أتم وجه، ثم أمر له بعشرة آلاف دينار وأضاف له شيئا كثيرا من التحف والظرف وولاه على الجزيرة وإرمينية وما جاورهما، وقال له: أمر خزيمة بيدك إن شئت عزلته، قال: بل رده إلى عمله مكرما يا أمير المؤمنين، ثم إنهما انصرفا جميعا ولم يزالا عاملين لسليمان مدة خلافته.
المرأة الكريمة
بينما كان عبد الله بن عباس قادما من الشام يقصد الحجاز عرج على منزل فطلب من غلمانه طعاما فلم يجدوا، فقال لوكيله: اذهب في هذه البرية فلعلك تجد راعيا أو حيا فيه لبن أو طعام، فمضى بالغلمان فوقعوا على عجوز في حي، فقالوا لها: عندك طعام نبتاعه، قالت: أما طعام البيع فلا، ولكن عندي ما يكفيني وأولادي، قالوا: فأين أولادك؟ قالت: في رعي لهم وهذا أوان عودتهم، قالوا: فما أعددت لك ولهم؟ قالت: خبزة مبتلة بالماء، قالوا: وما هو غير ذلك؟ قالت: لا شيء، قالوا: فجودي لنا بشطرها، فقالت: أما الشطر فلا أجود به وأما الكل فخذوه، فقالوا لها: تمنعين النصف وتجودين بالكل، فقالت: نعم؛ لأن إعطاء الشطر نقيصة وإعطاء الكل كمال وفضيلة، فإني أمنع ما يضعني وأمنح ما يرفعني، فأخذوها ولم تسألهم من هم ولا من أين جاءوا، فلما وصلوا إلى عبد الله وأخبروه بخبرها عجب من ذلك، ثم قال لهم: احملوها إلي الساعة فرجعوا إليها، وقالوا لها: انطلقي معنا إلى صاحبنا فإنه يريدك، فقالت: ومن صاحبكم، قالوا: عبد الله بن عباس، قالت: هو والله عنوان الشرف وأسماه فما يريد مني، قالوا: مكافأتك، قالت: أواه والله لو كان ما فعلت معروفا ما أخذت له بدلا فكيف وهو يجب على الخلق أن يشارك فيه بعضهم بعضا، فلم يزالوا بها حتى أخذوها إليه، فسلمت عليه فرد عليها السلام، وقرب مجلسها ثم قال لها: ممن أنت؟ قالت: من بني كلب، قال: فكيف حالك؟ قالت: أسهر اليسير وأهجع أكثر الليل وأرى قرة العين في شيء، فلم يكن من الدنيا شيء إلا وقد وجدته، قال: فما ادخرت لبنيك إذا حضروا، قالت: أدخر لهم ما روي عن حاتم طيء حيث قال:
ولقد أبيت على الطوى وأظله
حتى أنال به كريم المأكل
صفحة غير معروفة