نثر الورود شرح حائية ابن أبي داود
الناشر
مركز النخب العلمية
رقم الإصدار
الرابعة
سنة النشر
١٤٣٩ هـ - ٢٠١٨ م
تصانيف
المقدمة
الحمد لله الذي جعل العلم النافع طريقًا موصلًا لرضاه، وصراطًا يتبعه مَنْ أراد هداه، ويحيد عنه من ضلَّ واتبع هواه، ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ [القصص: ٥٠]، وأشهد أن لا إله إلا الله، رفع شأن العلم وأهله حتى وصلوا من المجد منتهاه، ومن العِزِّ أعلى ذُراه، فمن سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا؛ سهل الله له به طريقًا إلى جنته وعلاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الهداة التقاة، ومن سار على نهجه إلى يوم لقاه.
أما بعد: فهذا شرح حائية ابن أبي داود بحلته الجديدة، وطبعته الرابعة، وقد كنتُ شرحته مرارًا وطُبِعَ الشرحُ للمرة الأولى عام ١٤٢٩ هـ، وسميته: «نثر الورود شرح حائية ابن أبي داود» وهي منظومة من منظومات العقيدة المتميزة بحسن السبك، وجمال العبارة، جمع فيها الناظمُ ﵀ عيونَ المسائل وأمهات الأبواب في العقيدة، شرحتها شرحًا مقتضبًا يفي بالمقصود، ويصل بالطالب إلى المنشود، سائلًا الله الكريم أن يبارك فيه، وأن ينفع به، ويجزي خيرًا كل من ساهم في إخراجه وسعى في نشره وتعميم فائدته.
د. عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
القصيم - بريدة
1 / 5
منهجية التميُّز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذا الشرح هو الكتاب الثاني (١) من المنهجية العلمية التأصيلية للتميز التي نرجو أن تعين طالب العلم، وتأخذ بيده إلى طريق واضح نَيِّر لينشد غايته من العلم الشرعي الصحيح على ضوء الكتاب والسنة بخطوات ثابتة مدروسة.
ومنهجية التميز تُرَكِّزُ على جوانب غاية في الأهمية في مسيرة طالب العلم نحو هدفه، ومن تلك الجوانب:
- اختيار أبرز وأهم المتون العلمية وشرحها شرحًا مناسبًا يُقرِّب العلم ويُسهِّل إتقانه.
- توفير شروح المنهجية وطباعتها مع وضع خطة للمراجعة المستمرة لجميع الشروح بشكل دوري، عبر برنامج (الإنجاز العلمي).
- رعاية طالب العلم مع متابعته في مسيرته من خلال سجل خاص بكل طالب علم.
- التواصل العلمي مع طالب العلم الملتحق بالمنهجية.
- وضع البرامج والخطط العلمية الإضافية لمن يجد لديه همةً وطموحًا وسعةً من الوقت.
- عرض برامج علمية مساندة تتمثل في:
_________
(١) أصل هذا الكتاب دروس في شرح الحائية ألقاها الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل بجامع العودة ببريدة عام (١٤٢٩ هـ)، فقام الطلاب بتفريغها؛ فلما رأى الشيخ حرص الطلاب عليها؛ قام بأخذ هذه المادة المكتوبة وتهذيبها والزيادة عليها، ثم خرجتْ بهذا الشكل.
1 / 6
o برنامج حفظ المتون العلميَّة أو الصحيحين.
o برنامج إتقان وقراءة المطولات والمناقشة عليها، ككتب ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، وكتاب الشرح الممتع شرح زاد المستقنع لابن عثيمين، وكتاب منحة العلام شرح بلوغ المرام لعبد الله الفوزان.
وهذه البرامج الثلاثة اختيارية، يراعى فيها المستوى العلمي ووفرة الوقت لدى طالب العلم.
- الاهتمام بالجوانب الإيمانية والسلوكية والخُلُقِيَّة من خلال الدروس واللقاءات التربوية المتكررة.
- إعانة طالب العلم وتذليل العقبات أمامه من خلال الجلسات العلمية الدائمة؛ لمعالجة عوائق الطلب، وأدواء الطريق، كالاضطراب في المنهج والتشتت في التلقي مع تقديم المناهج العلمية المُعِينَة على التحصيل في جميع مسارات العلم.
- لطالب العلم الراغب في الالتحاق بالمنهجية إمكانية اللحاق واستدراك ما فاته وذلك بالتواصل مع الإخوة عبر الجوال الخاص بالمنهجية، أو التواصل المباشر مع د. عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل، ويفضل الحضور لأجل المتابعة بشكل دوري ثابت حسب ظروف المشارك، ويمكن طالب العلم الذي لا يتمكن من الحضور - سواء في منطقة القصيم أو خارجها أو خارج المملكة - الالتحاق بالمنهجية وذلك بتوفير شروح المنهجية له، ومتابعته في قراءتها وإتقانها من خلال التواصل عن طريق جوال المنهجية.
أمدنا الله وإياكم بالعلم النافع، ووهبنا من لدنه رحمة وفضلًا.
1 / 7
القسم العلمي
بمركز النخب العلمية - بريدة
غرة ربيع الأول ١٤٣٦ هـ
بريد إلكتروني:
nokhba.much@gmail.com أو al_khaleefa@hotmail.com
جوال:
(٠٥٣٠١٢٣١٢٧) أو (٠٥٠١٥٣٦٠٦٢) أو (٠٥٠٦٥٤٣٠٩٠)
1 / 8
نظم الحائية
١ - ... تَمَسَّكْ بِحَبْلِ الله وَاتَّبِعِ الْهُدَى ... وَلَا تَكُ بِدْعِيًّا لَعَلَّكَ تُفْلِحُ
٢ - ... وَدِنْ بِكِتَابِ الله وَالسُّنَنِ الَّتِي ... أَتَتْ عَنْ رَسُولِ الله تَنْجُو وَتَرْبَحُ
٣ - ... وَقُلْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَلامُ مَلِيكِنَا ... بِذَلِكَ دَانَ الأَتْقِياءُ وأَفْصَحُوا
٤ - ... وَلا تَكُ فِي الْقُرْآنِ بالوَقْفِ قَائِلًا ... كَمَا قَالَ أَتْباعٌ لِجَهْمٍ وَأَسْجَحُوا
٥ - ... وَلَا تَقُلِ الْقُرْآنُ خَلْقٌ قَرَأْتُهُ ... فَإِنَّ كَلَامَ الله بِاللَّفْظِ يُوضَحُ
٦ - ... وَقُلْ يَتَجَلَّى الله لِلْخَلْقِ جَهْرَةً ... كَمَا الْبَدْرُ لَا يَخْفَى وَرَبُّكَ أَوْضَحُ
٧ - ... وَلَيْسَ بِمَوْلُودٍ وَلَيْسَ بِوَالِدٍ ... وَلَيْسَ لَهُ شِبْهٌ تَعَالَى الْمُسَبَّحُ
٨ - ... وَقَدْ يُنْكِرُ الجهْمِيُّ هَذَا وَعِنْدَنَا ... بِمِصْدَاقِ مَا قُلْنَا حَدِيْثٌ مُصَرِّحُ
٩ - ... رَوَاهُ جَرِيرٌ عَنْ مَقَالِ مُحَمَّدٍ ... فَقُلْ مِثْلَ مَا قَدْ قَالَ في ذَاكَ تنْجَحُ
١٠ - ... وَقَدْ يُنْكِرُ الجهْمِيُّ أَيْضًا يَمِينَهُ ... وَكِلْتَا يَدَيْهِ بالْفَوَاضِلِ تَنْفَحُ
١١ - ... وَقُلْ يَنْزِلُ الجَبَّارُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ... بِلَا كَيْفَ جَلَّ الْوَاحِدُ الْمُتَمَدَّحُ
١٢ - ... إِلَى طَبَقِ الدُّنْيَا يَمُنُّ بِفَضْلِهِ ... فَتُفْرَجُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُفْتَحُ
١٣ - ... يَقُولُ أَلا مُسْتَغْفِرٌ يَلْقَ غَافِرًا ... وَمُسْتَمْنِحٌ خَيْرًا وَرِزْقًا فَيُمْنَحُ
١٤ - ... رَوَى ذَاكَ قَوْمٌ لا يُرَدُّ حَدِيثُهُمْ ... ألَا خَابَ قَوْمٌ كَذَّبُوهُمْ وقُبِّحُوا
١٥ - ... وَقُلْ: إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... وَزِيرَاهُ قِدْمًا ثُمَّ عُثْمَانُ الارْجَحُ
١٦ - ... وَرَابِعُهُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ بَعْدَهُمْ ... عَلِيٌّ حَلِيْفُ الخيْرِ بِالخَيْر مُنْجِحُ
1 / 9
١٧ - ... وإِنَّهُمْ لَلرَّهْطُ لا رَيْبَ فِيهِمُ ... عَلَى نُجُبِ الْفِرْدَوْسِ بالنُّورِ تَسْرَحُ
١٨ - ... سَعِيدٌ وَسَعْدٌ وَابْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةٌ ... وَعَامِرُ فِهْرٍ وَالزُّبَيْرُ المُمَدَّحُ
١٩ - ... وَقُلْ خَيْرَ قَوْلٍ فِي الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ ... ولا تَكُ طَعَّانًا تَعِيبُ وَتَجْرَحُ
٢٠ - ... فَقَدْ نَطَقَ الْوَحْيُ المبِينُ بِفَضْلِهِمْ ... وَفِي الْفَتْحِ آيٌ للصَّحَابَةِ تَمْدَحُ
٢١ - ... وَبِالْقَدَرِ المقْدُورِ أَيْقِنْ فَإِنَّهُ ... دِعَامَةُ عَقْدِ الدِّينِ، والدِّينُ أَفْيَحُ
٢٢ - ... ولا تُنْكِرَنْ جَهْلًا نَكِيرًا وَمُنْكَرًا ... ولا الحوْضَ وَالْمِيزَانَ إِنَّكَ تُنْصَحُ
٢٣ - ... وقُلْ: يُخْرِجُ الله الْعَظِيمُ بِفَضْلِهِ ... مِنَ النَّارِ أجْسَادًا مِنَ الفَحْمِ تُطْرَحُ
٢٤ - ... عَلى النَّهْرِ فِي الفِرْدَوْسِ تَحْيَا بِمَائِهِ ... كَحِبِّ حَمِيلِ السَّيْلِ إذْ جَاءَ يَطْفَحُ
٢٥ - ... وإِنَّ رَسُولَ الله للخَلْقِ شَافِعٌ ... وقُلْ في عَذابِ القَبْرِ حَقٌّ مُوَضَّحُ
٢٦ - ... ولاَ تُكْفِرَنْ أَهلَ الصَّلاةِ وإِنْ عَصَوْا ... فَكُلُّهُمُ يَعْصِي وذُو العَرْشِ يَصْفَحُ
٢٧ - ... ولَا تَعْتَقِدْ رَأْيَ الخوَارِجِ إِنَّهُ ... مَقَالٌ لَمَنْ يَهْوَاهُ يُرْدِي ويَفْضَحُ
٢٨ - ... ولا تَكُ مُرْجيًّا لَعُوبًا بِدِينِهِ ... ألَا إِنَّمَا المُرْجِيُّ بِالدِّينِ يَمْزَحُ
٢٩ - ... وَقُلْ: إِنَّمَا الإِيمَانُ: قَوْلٌ وَنِيَّةٌ ... وَفِعْلٌ عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ مُصَرَّحُ
٣٠ - ... وَيَنْقُصُ طَوْرًا بِالمعَاصِي وتَارَةً ... بِطَاعَتِهِ يَنْمِي وَفِي الْوَزْنِ يَرْجَحُ
٣١ - ... وَدَعْ عَنْكَ آرَاءَ الرِّجَالِ وَقَوْلَهُمْ ... فَقَوْلُ رَسُولِ الله أَزْكَى وَأَشْرَحُ
٣٢ - ... وَلَا تَكُ مِنْ قَوْمٍ تَلَهَّوْا بِدِينِهِمْ ... فَتَطْعَنَ فِي أَهْلِ الحدِيثِ وَتَقْدَحُ
٣٣ - ... إِذَا مَا اعْتَقَدْتَ الدَّهْرَ يَا صَاحِ هَذِهِ ... فأَنْتَ عَلَى خَيْرٍ تَبِيتُ وتُصْبِحُ
1 / 10
ترجمة موجزة للناظم
- اسمه ونسبه:
هو: عبد الله بن سليمان بن الأشعث بن إسحاق، أبو بكر الأزدي السجستاني، المعروف بـ (ابن أبي داود)، وأبو داود: هو صاحب السنن.
- مولده ونشأته:
وُلِدَ ابن أبي داود بسجستان سنة (٢٣٠ هـ)، في بيت علم ودين، وقد اعتنى به والده عناية خاصة منذ الصغر فطاف به الأرض شرقًا وغربًا؛ ولهذا سمع عن جم غفير من أهل العلم، وبلغ ﵀ شأوًا كبيرًا في العلم، وكان صاحب همة عالية من الصغر، ومن علامات هذه الهمة قوله عن نفسه: «دخلت الكوفة ومعي درهم واحد فاشتريت به ثلاثين مُدَّ بَاقِلاء، قال: فكنت آكل منه مدًّا وأكتب عن أبي سعيد الأشج فكتبت عنه ألف حديث يعني في يوم واحد فلما كان الشهر حصل معي ثلاثون ألف حديث ما بين منقطع ومرسل» (١).
- شيوخه:
تتلمذ على يدي عدد من أهل العلم المشاهير، منهم: والده سليمان ابن الأشعث، وإسحاق الكوسج، ومحمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري، ومحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ صاعقة، ومحمد بن بشار بندار، وغيرهم.
- تلاميذه:
تلاميذه كُثُر ومن أشهرهم: أبو أحمد الحاكم، وابن حبان صاحب الصحيح، وعمر بن شاهين، وأبو الحسن الدارقطني، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وأبو عبد الله بن بطة، وعيسى بن علي الوزير، وغيرهم.
_________
(١) ينظر: تاريخ بغداد (١١/ ١٣٦)، وطبقات الحنابلة (٢/ ٥٢).
1 / 11
- عقيدته ومذهبه:
كان الناظم ابن أبي داود ﵀ على عقيدة أهل السنة والجماعة، ولا أدل على ذلك من نظمه الذي بين أيدينا، الذي أوضح فيه عقيدة السلف الصالح، وقد جاء عنه في بعض نسخ هذه المنظومة أنه قال في نهايتها: «هذا قولي، وقول أبي، وقول أحمد بن حنبل ﵀، وقول من أدركنا من أهل العلم، وقول من لم ندرك من أهل العلم ممن بلغنا قوله، فمن قال عليَّ غير ذلك فقد كذب» (١).
ومما يؤكد سلامة عقيدته شهادة كثير من العلماء له بذلك كالآجري، وابن أبي يعلى، وابن القيم، والذهبي، وغيرهم.
وقد اتُّهِم ﵀ بالنصب - أي: نصب العداء لآل النبي ﷺ ولكن هذه التهمة عرية من الصحة، بل الثابت عنه ﵀ خلاف ذلك، حيث نجده يثني على أهل بيت النبي ﷺ ويذكر فضائلهم ومآثرهم.
وقد برأ نفسه من هذه التهمة في حياته ولم يجعل من رماه في حِل، حيث قال: «كل مَنْ بيني وبينه شيء، أو ذكرني بشيء فهو في حل، إلا من رماني ببغض علي بن أبي طالب» (٢).
وجاء في هذه المنظومة ما يشهد على براءتِه من هذه التهمة، حيث قال في البيت السادس عشر:
وَرَابِعُهُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ بَعْدَهُمْ ... عَلِيٌّ حَلِيفُ الخيْرِ بِالخَيْر مُنْجِحُ
وأما مذهب ابن أبي داود الفقهي فهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ ولذلك ترجم له الحنابلة في طبقاتهم، كابن أبي يعلى، وابن مفلح، وغيرهما.
_________
(١) ينظر: طبقات الحنابلة (٢/ ٥٤).
(٢) ينظر: تاريخ بغداد (١١/ ١٣٦).
1 / 12
- مكانته العلمية وثناء العلماء عليه:
تُعْرَف مكانة الشخص العلمية بشيوخه ومؤلفاته، فالناظم ﵀ تتلمذ على أكابر العلماء في وقته، وقد سبق ذكر بعضهم.
وقد تبوّأ ﵀ مكانة علمية في حياته، فكان فقيهًا عالمًا حافظًا، متمكنًا في علوم القرآن، مع مشاركة في مختلف علوم الشريعة.
قال أبو محمد الخلال: «كان ابن أبي داود إمام العراق، وعلم العلم في الأمصار، نصب له السلطان المنبر فحَدَّث عليه لفضله ومعرفته ... وكان في وقته بالعراق مشايخ أسند منه، ولم يبلغوا في الآلة والإتقان ما بلغ هو» (١).
وقال الخطيب البغدادي: «وكان فهمًا عالمًا حافظًا» (٢).
وقال الذهبي: «كان من بحور العلم بحيث أن بعضهم فضله على أبيه» (٣).
- مؤلفاته:
صنَّف ﵀ جملة من الكتب منها: المصاحف، والقراءات، ونظم القرآن، وفضائل القرآن، والناسخ والمنسوخ، وشريعة التفسير، والمصابيح في الحديث، والبعث والنشور، وغيرها.
- وفاته:
توفي ابن أبي داود ﵀ ببغداد في شهر ذي الحجة سنة (٣١٦ هـ) عن سبعة وثمانين عامًا (٤).
_________
(١) ينظر: تاريخ بغداد (١١/ ١٣٦)، وطبقات الحنابلة (٢/ ٥٢).
(٢) تاريخ بغداد (١١/ ١٣٦).
(٣) سير أعلام النبلاء (١٣/ ١٣٦).
(٤) ينظر في ترجمته: طبقات المحدثين لأبي الشيخ (٣/ ٥٣٣)، وتاريخ نيسابور ص (٤٨)، وتاريخ أصبهان (٢/ ٢٧)، والإرشاد في معرفة علماء الحديث (٢/ ٦١٠)، وتاريخ بغداد (١١/ ١٣٦)، وطبقات الحنابلة (٢/ ٥١)، وسير أعلام النبلاء (١٣/ ٢٢١).
1 / 13
نبذة مختصرة عن المنظومة
- إثبات نسبة الحائية للناظم:
ثبتت نسبة الحائية لابن أبي داود بالتواتر، كما ذكر ذلك الإمام الذهبي في كتاب العلو (٥)، حيث قال: «هذه القصيدة متواترة عن ناظمها».
وقد رواها عنه عدد من تلاميذه: كالآجري، وابن بطة، وابن شاهين (٦)، ونسبها إليه بعض من ترجموا له، كابن أبي يعلى، والذهبي (٧)، وغيرهم من أهل العلم.
- أسماؤها:
أُطلق عليها عدد من الأسماء، منها: المنظومة الحائية، وحائية ابن أبي داود؛ لانتهاء قافيتها بحرف الحاء، ومنظومة ابن أبي داود، والقصيدة الحائية، وقصيدة ابن أبي داود.
- عدد أبياتها:
عدد أبيات المنظومة الحائية (٣٣) بيتًا، وهو الثابت في أكثر النُّسَخ، ورواها بهذا العدد جماعة منهم: ابن شاهين، والآجري، وغيرهما، وهو الذي اعْتُمِدَ في هذا الشرح، ومشى عليه أيضًا الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد في شرحه للمنظومة.
وقد جاء عددها في رواية (٣٦) بيتًا، وعليه مشى العلامة السَّفَّاريني في شرحه للمنظومة وذكر أن ابن البناء الحنبلي زاد عليها ثلاثة أبيات.
_________
(١) ص (٢١٢).
(٢) ينظر: الشريعة للآجري (٥/ ٢٥٦٣)، والعلو للذهبي ص (٢١٢).
(٣) ينظر: طبقات الحنابلة (٢/ ٥٣)، وسير أعلام النبلاء (١٣/ ٢٣٣).
1 / 14
وجاء عددها في رواية أخرى (٤٠) بيتًا والزيادة فيها من بعض النُّسَّاخ كما في شرح مذاهب أهل السنة لابن شاهين (١)، وعلى هذا العدد مشى الشيخ عبد الرحمن البراك، والشيخ صالح الفوزان في شرحيهما للمنظومة.
- شروحها:
كانت المنظومة الحائية محل عناية عند العلماء وطلبة العلم منذ تأليفها إلى يومنا هذا، وتتمثل هذه العناية في الشروح الكثيرة التي حظيت بها من العلماء المتقدمين والمتأخرين، ومن هذه الشروح:
١ - (شرح الآجري): لمحمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ (ت: ٣٦٠ هـ) (٢)، وهذا الشرح لم يصل إلينا.
٢ - (شرح قصيدة ابن أبي داود في السنة): للشيخ الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء البغدادي الحنبلي (ت: ٤٧١ هـ) (٣).
٣ - (لوائح الأنوار ولواقح الأفكار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية في عقيدة أهل الآثار السلفية): للإمام محمد بن أحمد بن سالم أبي عبد الله السَّفَّاريني (ت: ١١٨٨ هـ).
٤ - (شرح المنظومة الحائية في عقيدة أهل السنة والجماعة): للشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان.
٥ - (توضيح المقصود في نظم ابن أبي داود): للشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك.
_________
(١) ص (٣٢١ - ٣٢٣).
(٢) ذكره الذهبي في العلو ص (٢١٢).
(٣) ذكره ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (٢/ ٥٣).
1 / 15
٦ - (التحفة السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية): للشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر.
ولها شروح أخرى كثيرة بعضها مطبوع، وبعضها غير مطبوع، وبعضها مسموع في دروس صوتية لعدد من العلماء المعاصرين.
- قيمتها العلمية ومكانتها عند العلماء:
للمنظومة الحائية قيمة كبيرة، ومكانة عالية ومنزلة رفيعة عند العلماء وطلبة العلم، وتتجلى هذه القيمة والمكانة فيما يلي:
أولًا: تُعدُّ المنظومة الحائية من أهم وأُولى المنظومات التي بيَّنت عقيدة أهل السنة والجماعة وانتصرت لمذهبهم.
ثانيًا: تلقاها العلماء وطلبة العلم بالقبول سلفًا وخلفًا، واهتموا بها حفظًا وشرحًا وتدريسًا.
ثالثًا: وضوح معانيها وعذوبة ألفاظها، وتماسك أبياتها، وسهولة حفظها.
رابعًا: مكانة الناظم، وعلو منزلته، وسلامة منهجه وعقيدته، وإمامة والده الذي استفاد منه العقيدة الصافية والهمة العالية.
خامسًا: كثرة الاستشهاد بها في كتب العقائد قديمًا وحديثًا، مما يدل على أهميتها وعلو شأنها.
•••
1 / 16
قال ابن أبي داود ﵀:
تَمَسَّكْ بِحَبْلِ الله وَاتَّبِعِ الْهُدَى ... ...................................
•---------------------------------•
•قوله: «تَمَسَّكْ» التمسك هو الأخذ بالشيء بقوة، وإنما عبر بهذا التعبير أخذًا بالسنة فيما رواه الإمام أبو داود والترمذي وأحمد من حديث العرباض ابن سارية أن النبي ﷺ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (١)، والشاهد هنا قوله: «تَمَسَّكُوا بِهَا».
•قوله: «بِحَبْلِ الله»: مأخوذ من القرآن في قول تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣].
ونستفيد من كون الناظم عبر بهذين اللفظين: أن الأوْلى بطالب العلم أن يلتزم في حديثه - لا سيما في باب العقيدة - بألفاظ الكتاب والسنة؛ لأن هذا أسلم له من الوقوع في الغلط، وأفضل في اتباع المأثور من نصوص الوحيين.
• ما المراد بحبل الله؟
الجواب: اختلف فيه، فقيل: المراد القرآن؛ لما جاء عند الإمام الترمذي مرفوعًا في حديث طويل اشتمل على الحث على الأخذ بالقرآن، وذكر فضائله ومنزلته، من حديث الحارث الأعور، قال: «دَخَلْتُ المسْجِدَ فَإِذَا أُنَاسٌ يَخُوضُونَ فِي أَحَادِيثَ، فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ فَقُلْتُ: ألَا تَرَى أَنَّ أُنَاسًا يَخُوضُونَ فِي الْأَحَادِيثِ فِي المسْجِدِ؟ فَقَالَ: قَدْ فَعَلُوهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُولُ: سَتَكُونُ فِتَنٌ، قُلْتُ: وَمَا المخْرَجُ مِنْهَا؟ قَالَ: كِتَابُ الله فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالهزْلِ، هُوَ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ الله، وَمَنِ ابْتَغَى الهدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ الله،
_________
(١) أخرجه أبو داود (٤/ ٢٠٠) رقم (٤٦٠٧)، والترمذي (٤/ ٣٤١) رقم (٢٦٧٦)، وابن ماجه (١/ ١٥) رقم (٤٢)، وإسناده صحيح.
1 / 17
فَهُوَ حَبْلُ الله المتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الحكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ المسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، هُوَ الَّذِي مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، خُذْهَا إِلَيْكَ يَا أَعْوَرُ» (١).
والمقصود أن المراد بحبل الله هو القرآن، وقيل: إن المراد بحبل الله الوحي، والوحي يشمل القرآن والسنة، فالسنة وحي كالقرآن، وهي منزلة كالقرآن، أما كون السنة وحيًا؛ فلقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٣، ٤]، أما كونها منزلة، فلقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [النساء: ١١٣]، فالكتاب هنا هو القرآن، والحكمة السنة.
وبهذا يتبين لنا أن المراد بحبل الله: الوحي سواء كان قرآنًا أو سنةً، وهذا هو الراجح.
•قوله: «وَاتَّبِعِ الْهُدَى» أي: الزم طريق السنة التي بعث بها النبي ﷺ، فهي طريق النجاة، وسلّم الفلاح.
_________
(١) أخرجه الترمذي (٥/ ١٧٢) رقم (٢٩٠٦)، وابن أبي شيبة (٦/ ١٢٥) رقم (٣٠٠٠٧)، والدارمي (٢/ ٥٢٧) رقم (٣٣٣٢). وقال الترمذي: «هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال». فالحديث ضعيف، ومعناه صحيح، فما جاء فيه من ذكر أوصاف القرآن؛ فهو حق.
1 / 18
يقول ابن القيم ﵀ في نونيته:
يَا مَنْ يُرِيد نجاته يَوْمَ الحساب ... من الجحيم وموقد النيران
اتبع رسول الله في الأقوال والـ ... أعمال لا تخرج عن القرآن
وخذ الصحيحين اللذين هما ... لعقد الدين والإيمان واسطتان
واقرأهما بعد التجرد من هوى ... وتعصب وحَمِيَّة الشيطان
واجعلهما حكمًا ولا تحكم على ... ما فيهما أصلًا بقول فلان
والمقصود أنَّ الناظم استفتح هذه المنظومة بالوصية بالأخذ بالقرآن واتباع السنة وقد فعل ذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن هذه هي طريقة القرآن الوصية بالأخذ بالقرآن والسنة كقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣].
وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النور: ٥٤]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: ٣١] وقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النساء: ٥٩]، وقوله تعالى في سورة الأنفال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ [الأنفال: ٢٤]، وغيرها في القرآن كثير.
الأمر الثاني: بيان أن القرآن لا يكفي عن السنة، فهما متلازمان لا يمكن استقلال أحدهما عن الآخر.
1 / 19
فهل يمكن لأحد أن يقوم بالعبادات ويعرف تفاصيلها باتباع القرآن دون السنة؟
الجواب: لا يمكن؛ لأن القرآن أمر باتباع السنة، ولا يمكن أحدًا أن يدخل الجنة إلا باتباع القرآن والسنة، ولهذا ضَلَّت طائفة معاصرة في هذا الباب، حيث اكتفت بالقرآن دون السنة، يُسمون أنفسهم بـ (القرآنيين) ويَدَّعون العمل بالقرآن، وهم أبعد الناس عنه، وهذه الطائفة موجودة الآن ومنتشرة في بعض الدول.
•قوله: «وَاتَّبِعِ الْهُدَى» أي: هدى الحق، والهداية في نصوص القرآن والسنة تأتي على عدة أنواع، ذكرها ابن القيم، فقال ﵀: «اعلم أن أنواع الهداية أربعة:
أحدها: الهداية العامة المشتركة بين الخلق: المذكورة في قوله تعالى: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: ٥٠]، أي أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره، وأعطى كل عضو شكله وهيئته، وأعطى كل موجود خلقه المختص به، ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال، وهذه هداية الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، وهداية الجماد المسخر لما خلق له، فله هداية تليق به، كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به وإن اختلفت أنواعها وصورها، وكذلك كل عضو له هداية تليق به، فهدى الرِّجْلين للمشي، واليدين للبطش والعمل، واللسان للكلام، والأذن للاستماع، والعين لكشف المرئيات، وكل عضو لما خلق له.
وهدى الزوجين من كل حيوان إلى الازدواج والتناسل وتربية الولد، وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه وطلبه، ومراتب هدايته سبحانه لا يحصيها إلا هو، فتبارك الله رب العالمين.
1 / 20
وهدى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتًا، ومن الشجر ومن الأبنية ثم تسلك سبل ربها مذللة لها لا تستعصي عليها، ثم تأوي إلى بيوتها، وهداها إلى طاعة يعسوبها واتباعه والائتمام به أين توجه بها، ثم هداها إلى بناء البيوت العجيبة الصنعة المحكمة البناء.
ومن تأمل بعض هدايته المبثوثة في العالم شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم، وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسر نظر، وأول وهلة، وأحسن طريق، وأخصرها وأبعدها من كل شبهة، فإنه لم يهمل هذه الحيوانات سدى ولم يتركها معطلة بل هداها إلى هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها، كيف يليق به أن يترك النوع الإنساني الذي هو خلاصة الوجود الذي كرمه وفضله على كثير من خلقه مهملًا وسدًى معطلًا لا يهديه إلى أقصى كمالاته وأفضل غاياته، بل يتركه معطلًا لا يأمره ولا ينهاه ولا يثيبه ولا يعاقبه، وهل هذا إلا مناف لحكمته ونسبته له مما لا يليق بجلاله.
ولهذا أنكر ذلك على من زعمه ونزه نفسه عنه، وبين أنه يستحيل نسبة ذلك إليه، وأنه يتعالى عنه، فقال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: ١١٥، ١١٦]، فنزه نفسه عن هذا الحسبان، فدل على أنه مستقر بطلانه في الفطر السليمة والعقول المستقيمة، وهذا أحد ما يدل على إثبات المعاد بالعقل، وأنه مما تظاهر عليه العقل والشرع وكما هو أصح الطريقين في ذلك.
1 / 21
ومن فهم هذا فهم سِرَّ اقتران قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨]
بقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٣٧]، وكيف جاء ذلك في معرض جوابهم عن هذا السؤال والإشارة به إلى إثبات النبوة، وأن من لم يهمل أمر كل دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه بل جعلها أممًا وهداها إلى غاياتها ومصالحها، كيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحكم، فهذه أحد أنواع الهداية وأعمها. النوع الثاني: هداية البيان والدلالة والتعريف لنجدي الخير والشر، وطريقي النجاة والهلاك، وهذه الهداية لا تستلزم الهدى التام، فإنها سبب وشرط لا موجب؛ ولهذا ينتفي الهدى معها، كقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: ١٧]، أي: بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا، ومنها قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢].
النوع الثالث: هداية التوفيق والإلهام: وهي الهداية المستلزمة للاهتداء فلا يتخلف عنها، وهي المذكورة في قوله: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر: ٨].
وفي قوله: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾ [النحل: ٣٧]، وفي قول النبي ﷺ: «مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ» (١)، وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦].
فنفى عنه هذه الهداية، وأثبت له هداية الدعوة والبيان في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢].
_________
(١) أخرجه مسلم (٢/ ٥٩٣) رقم (٨٦٧)، من حديث جابر ﵁.
1 / 22
................ ... وَلَا تَكُ بِدْعِيًّا لَعَلَّكَ تُفْلِحُ
•---------------------------------•
النوع الرابع: غاية هذه الهداية: وهي الهداية إلى الجنة والنار إذا سيق أهلهما إليهما، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [يونس: ٩]، وقال أهل الجنة فيها: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف: ٤٣]، وقال تعالى عن أهل النار: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٢٢، ٢٣]» (١).
ثم قال الناظم بعد ذلك:
• «وَلَا تَكُ بِدْعِيًّا» هذه التسمية (بدعيًّا) نسبة إلى البدعة، وثمة مسائل تتعلق بالبدع، من أهمها:
•المسألة الأولى: في حقيقة البدعة:
البدعة: ما أحدث في دين الله مما ليس له مستند من كتاب ولا سنة.
وقد اختلفت عبارات أهل العلم في تحديد ماهية البدعة وحقيقتها، ومن أشهر مَنْ تكلم في ذلك الإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام حيث قال: «عبارة عن: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه» (٢).
_________
(١) انظر: بدائع الفوائد (٢/ ٤٤٥ - ٤٤٨).
(٢) الاعتصام (١/ ٥٠).
1 / 23
فهذا التعريف للإمام الشاطبي ﵀ من أشهر وأحسن التعاريف الواردة في البدعة، وقد قيدها بثلاثة قيود:
أولًا: أنها طريقة في الدين مخترعة: كابتداع صلوات أو ابتداع أدعية وغيرها من العبادات، وخرج بقوله: «طريقة في الدين» ما كانت طريقة في الدنيا كالصناعات الحديثة ونحو ذلك، فهذه ليست بداخلة في هذا الباب.
وقوله: «مخترعة» أي ليس لها أصل في الشريعة الإسلامية كإحداث الموالد والحوليات ونحوها، وخرج بذلك ما كان له أصل في الشرع كجمع القرآن، وتدوين السنة، وإنشاء بعض العلوم كعلمي الحديث والأصول، ونحو ذلك، فهذه لها أصل في الشرع، وأقل ما يقال فيها: إنها من باب المصالح المرسلة، فخرجت عن كونها بدعًا.
ثانيًا: أنها تضاهي الشرعية: أي تماثل الشرع وتحاكيه، فإذا لم تكن تضاهي الشرع فلا تعد بدعة.
ثالثًا: يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله: فلو لم يقصد بها صانعها التعبد فلا تُعدُّ بدعة كالضرائب والمكوس ونحو ذلك، فهذه ليست بدعة، وإن كانت محرمة لما فيها من أكل أموال الناس بالباطل.
فيتقرر مما سبق أن البدعة لا أصل لها في الشرع، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد قررنا في قاعدة السنة والبدعة أن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب» (١).
_________
(١) مجموع الفتاوى (٤/ ١٠٧).
1 / 24