قالوا: إن خوفه من الرأي العام واحتفاظه بطيب السمعة لدى السفراء ورؤساء الدين الذين كان يسمعهم كل يوم خبر نصر جديد، ورغبته في الظهور لدى أوروبا، كل ذلك حمله على اجتناب الفضيحة وستر الأمر. ولقد يكون هذا صحيحا، ولكن هناك قولا آخر لا ريب فيه وهو أن حب نابوليون كان حائلا كبيرا دون عقاب جوزفين، وأن نابوليون كان من جهة أخرى يأبى الإضرار بها حتى بعد زوال الحب وبعد الطلاق، فإن رسائله كلها تدل على أن هذا الغرام تحول إلى صداقة قديمة ساكنة، وأن نفسه أبت عليه أن يتذكر حينئذ خيانتها وبرودتها في معاملته وقلة اكتراثها لما أبداه من الرجاء والتضرع والتذلل.
وإليك حكاية صغيرة تدلك على أن ذاك الرجل الذي كان يسير ألوف الأبطال بكلمة لم يكن يستطيع أن يخرج كلبا صغيرا من بيته؛ قال نابوليون يوما لأرنو عندما رأى الكلب الصغير فورتينه يتسلق أحد المقاعد: «انظر إلى هذا السيد فهو ندي ومنافسي، ولما تزوجت جوزفين كان فراشها ملكا له من قبلي، وقد أردت يوما أن أخرجه منه، فقيل لي: أنت بين أمرين؛ إما إن ترضى بالنوم معه وإما أن تنام في محل آخر، فاضطررت أن أقبله معي.» ثم أشار نابوليون إلى أثر عضة في فخذه، ويظهر أن هذا الكلب نفحه بها تلك الليلة، وهو ما جعل نابوليون يكتب إلى جوزفين بعد حين قائلا: «ألف قبلة لك ولفورتينه وإن كان شريرا ...»
ولما توفي فورتينه جلبت جوزفين كلبا آخر برغم نابوليون، فانظر إلى البطل الذي كان يسوق الجيوش أمامه كيف يعجز عن سوق كلب إلى خارج بيته، واعجب لبطل يفتح البلدان والعواصم ولا يجسر على فتح كتاب لامرأته!
الفصل الثامن
نابوليون مع أسرته
كثرت الأقاويل عن سجية نابوليون في وسط أسرته، فقيل إنه كان في الغالب معبس الوجه راغبا في الجد. وقيل بل كان يسترسل في أحيان كثيرة إلى المزح والمداعبة. على أن هناك حقيقة لا ريب فيها، وهي أن نابوليون كان يجد لذة كبيرة في الحياة بين أهله، وهو ما حصل عليه مدة من الزمن بعد صلح كامبو فورميو، فإنه كان وقتئذ يعيش عيشة عيلية تحيط به أمه وأختاه إليزا وبولين، وأخواه جوزيف ولويس، ومعهم أوجين ابن محبوبته وزوجته، وقد جعله ياورا خاصا، وليس يدلنا على حقيقة عيشته في ذاك الوقت مثل أقوال شهود العيان، قال مارمون: «إن نابوليون كان يظهر في بيته كثيرا من الانبساط والطلاقة وبساطة المعاشرة ما كاد ينتفي معه كل تكلف، وكان يحب المزح، ويجتنب في مزحه الكلام المر، واتفق له غير مرة أن شاركنا في ألعابنا، وحمل المفوضين النمسويين على الخروج من رزانتهم لمشاركة اللاعبين.»
وروى أرنوك أن «نابوليون نفسه كان يدبر أمر اللهو بعد خروجنا من غرفة الطعام إلى الردهة، وكان إذا رأى الحديث مائلا إلى السكون حركه بالأقاصيص والحكايات الملفقة الغريبة التي كان يجنح إليها.»
ولما كان في مونتبللو زف أخته بولين إلى الجنرال لكلريك ابن أحد تجار الدقيق، وبعد أشهر قليلة تزوج الضابط باشيوشي إليزا أخته الثانية، وليس من الغلو أن نستنتج من قبوله هذين الرجلين أن نابوليون لم يكن يحلم وقتئذ بالتيجان لأسرته.
وانتقد بعض المؤرخين على نابوليون في ذاك الحين أنه كان يتطلب المبالغة في إكرامه واحترامه ويستقبل الناس على وجه لم يألفوه، بيد أن المنصف لا يسعه أن يوافق على هذا الانتقاد؛ لأن منصب نابوليون في ذاك الحين كان يقتضي ذاك السلوك، ألم يكن قائد جيش كبير يحتاج إلى احترام الناس؟! ألم يكن صاحب علم منصور تتحدث بنصره الدنيا من أقصائها إلى أقصائها؟! ألم يكن الرجل الذي دان له أرباب التيجان وملك بلاد الطليان؟! أولم يكن فوق هذا كله ممثل دولة عظيمة الشأن؟!
نعم إن نهوض ذاك الرجل الذي كان في ظلام النسيان قبل هذا المجد ببضعة أعوام لم يكن مألوفا عند الأقوام، ولكن كل عجيب وعظيم غير مألوف لدى العوام ...
صفحة غير معروفة