وبينما كان الموسيو بونتيكولان جالسا إلى مكتبه في الطبقة السادسة - حتى يخلص من كثرة الرجاء والالتماس - دخل عليه إنسان نحيل ضئيل ممتقع اللون متقوس الظهر - كما قال مونتيكولان نفسه، فدهش لرؤية هذا المخلوق الذي وضعه الموسيو بواسي تحت حمايته، على أنه ما تجاذب معه حديث الحرب الإيطالية التي كانت تهمه حتى رأى أن أفكاره لم تكن مريضة مثل جسمه، ورغب إليه أن يكتب كل ما ذكره في حضرته ثم يعود إليه.
على أن نابوليون أدرك من محادثته للموسيو بونتيكولان أن هذا الوزير الذي فوضت إليه أمور الحرب كان يجهل الأمور الحربية، واعتقد أن المذكرة التي طلبها منه ستطرح كغيرها في محفظة بعض المستخدمين، فأبى أن يرجع إلى بونتيكولان.
وبعد أيام قليلة لقي بونتيكولان الموسيو بواسي فأعرب له عن تعجبه وقال: «إني رأيت رجلك، ويظهر إنه مجنون»، فقال له: «لقد كان يؤمل أن تدعوه للشغل معك»، فقال بونتيكولان: «لا بأس، فليعد غدا.»
فقابل المسيو بواسي نابوليون ونصح له ملحا بأن يكتب مذكرة عن جيش إيطاليا إجابة لطلب بونتيكولان، فكتب بضع صفحات أودعها صفوة آرائه، ثم حملها إلى وزارة الحربية، وعاد بدون أن يقابل بونتيكولان، فلما طالع هذا الوزير مذكرة نابوليون دهش من كفاءة واضعها وسعة معارفه الحربية، وأرسل يطلبه من غرفة الانتظار لظنه أن نابوليون كان منتظرا أوامره، فلم يجد الرسول أحدا، ولكن نابوليون عاد في اليوم التالي ليرى تأثير المذكرة، فاستقبله الموسيو بونتيكولان باسما وقال له: «أتريد أن تشتغل معي؟» قال: «مع السرور والارتياح ...» ثم جلس إلى أحد المكاتب في الديوان، وأخذ يقوم لبونتيكولان بالخدمة التي سجلها التاريخ، فأعجب هذا الوزير بها وسأل نابوليون «عما يريد»، فطلب نابوليون أولا أن يعود إلى فرقة المدفعية، فذهب بونتيكولان إلى الموسيو لتورنور الذي كان موكلا بأمر الترقية، فعرض عليه رغبة نابوليون وهو معتقد أنه يمكن تعيين شاب مثل نابوليون جنرالا ما دام يمكن تعيين شاب مثله وزيرا، ولكن لتورنور كان لسوء الطالع قصير النظر، فأجاب الموسيو بونتيكولان أنه «لا يمكن قبول هذا المطمع من نابوليون؛ لأن رفاقه القدماء في صفوف الفرق العلمية - يريد المدفعية - ما زالوا في رتبة كابتن.»
فانظر كيف عاند الحظ نابوليون في أوائل عهده، فإنه امتاز بدرايته وشجاعته أمام العدو، ونظم وزارة الحربية بعد أن كان الخلل ضاربا قبابه فيها، ثم وضع الخطة الحربية للجيش الذي احتل فادو، ومع هذا كله أبى لتورنور أن يرجعه إلى صفوف المدفعيات، والمظنون أن السبب في تلك المعاكسة هو أن لتورنور نفسه لم يكن له إلا رتبة كابتن في الجيش، فلم يستطع أن يرى نابوليون متفوقا عليه بين حماة الوطن وإن كان هو وزيرا آمرا.
على أن نابوليون لم يضمر له شرا ولم يحمل شيئا من الحقد عليه؛ لأن النفوس الكبيرة تتعالى عن الضغينة وتعفو عند المقدرة، وهذا ما وقع لنابوليون فإنه لما ارتقى إلى ذرى المعالي عين لتورنور مستشارا في وزارة المالية، ثم دعا المسيو بونتيكولان وقال له: «أنت منذ اليوم عضو في مجلس الشيوخ»، فأجابه بونتيكولان: «لا يمكنني قبول النعمة التي تنعمون بها؛ لأن القانون يقضي بأن يكون عمر العضو أربعين سنة، وأنا ليس لي من العمر إلا ستة وثلاثون عاما»، فقال له نابوليون: «إنك تعين مديرا لبروكسل أو لمدينة أخرى إلى أن تبلع الأربعين فتأتي وتستلم منصبك ... أنا أود أن أظهر لك أني لم أنس ما صنعته لي ...»
واتفق بعد سنوات أن المسيو بونتيكولان ضمن صديقا مدينا بثلاث مائة ألف فرنك، وأن هذا الصديق عجز عن الدفع فشدد الدائن على المسيو بونتيكولان في وجوب الوفاء قياما بالعهد، وبينما كان الوزير القديم في أحرج المواقف علم نابوليون بأمره، فدعاه إلى قصر التويلري وعنفه على البقاء نحو ثلاثة أشهر في ذاك المأزق دون أن يخبره بالأمر، ثم قال له: «اذهب إلى الخزينة الخاصة واقبض المبلغ ...»
ولما كان الشيء بالشيء يذكر وجب علينا أن نذكر للحقيقة أن بنتيكولان كان أول الذين عارضوا في بقاء الإمبراطورية البونابارتية في الجلسة التي عقدها مجلس الأمة الفرنسوية في 22 يونيو سنة 1815؛ أي سنة الشؤم على نابوليون. •••
ولما أبى الموسيو لتورنو أن يحقق أمل الجنرال نابوليون بنقله إلى صفوف المدفعيات، استقال نابوليون من وظيفته في وزارة الحربية وعاد بمساعدة بونتيكولان يتذرع بالذرائع اللازمة لتحقيق أمنيته القديمة، نعني السفر إلى تركيا، وجاءت ساعة كان فيها الأمر بسفره مكتوبا معدا، والأمل بنجاحه وطيدا، وما بقي عليه إلا انتظار نتيجة الاستعلام الذي قامت به «لجنة الخلاص العام»، في شأن الضباط الذين اختارهم لتأليف بعثته، على أن الخلل كان متسربا إلى فروع تلك اللجنة؛ فبينما كان نابوليون ينتظر أمر السفر صدر الأمر بعزله؛ لأنه رفض الوظيفة التي عينت له في جيش الغرب، والحقيقة أن نابوليون عزل خطأ وظلما؛ لأنه أقيل على وجه قانوني من الوظيفة التي عينت له أولا في جيش الغرب، ثم عين في وزارة الحربية وقام للحكومة بخدمات جليلة، ولكن سوء الطالع كان ملازما له والدهر الداهر واقفا في صف خصومه.
ولما دهمه أمر العزل فت في عضده، ورأى أن خير وسيلة إلى إلغاء هذا الأمر الذي حرمه من رتبته العسكرية هو أن يذهب إلى أصدقائه وحماته، ويوضح لهم ما جرى له لعلهم يكشفون عنه تلك الظلامة، فنجح أولئك الأصدقاء في مساعدته، وكتب نابوليون في 26 سبتمبر؛ أي بعد أمر العزل بأحد عشر يوما إلى أخيه جوزيف يقول: «إن مسألة سفري هي اليوم أقرب إلى التحقيق منها في كل آن.»
صفحة غير معروفة