[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
(وبه نستعين) وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم (تسليما كثيرا رب يسر وأعن يا كريم).
الحمد لله الذي لا تراه العيون، ولا توارى منه الستور، ولا تجن عنه مافي قعورها البحور، الذي ظهر برصين خلقه، وبين حكمته، وآثار صنعه للناظرين، متجليا بما فطر من ذلك وأنشأه (لهم) منورا، فكل ذلك دال عليه، وشاهد بالواحدانية له، وموضح أن المبدأ منه، والمعاد إليه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، شهادة مقر بالعبودية له، دائن بأزليته، معترف أن لا باقي غيره، ولا دائم سواه.
وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وعلى أخيه ووصيه، والقائم بالحق بعده، وعلى سبطيه، وأهل بيته إنه على ما يشاء قدير.
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: اختلف الناس في معاني كتاب الله، وتفسير مافيه على فرق يكثر ذكرها، ويطول شرحها ، وخاصة في ناسخه ومنسوخه، فألفت ووضعت كتابي هذا قاصدا فيه لذكر الناسخ والمنسوخ من المفروضات، غير أني أحببت ذكر جملة ما فيه من المعاني مبهمة، وأنا مفسرها إن شاء الله تعالى في كتاب غير هذا؛ لما أردت من إفراد كتابي هذا بذكر ناسخ القرآن ومنسوخه، وإني عند ذلك، نظرت في كتاب ربي، فأعملت الفكر في تنزيل خالقي، مع ما كان عندي من علم مشائخي، حتى وقفت من ذلك على ما أملته وظفرت منه بما [60ب-ب] طلبت، وإذا جميع [1ب-أ] ذلك يدور على معان كثيرة منها: ناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وحلال وحرام، ومقدم ومؤخر، وظاهر وباطن، وأقسام، وأمثال، وفرائض، وقصص، وخاص وعام، وإشارة ودلالة، وعطية لخاص يراد بها العموم ، ومعان غير ما ذكرت كثيرة.
صفحة ٢٩
وأنا بعون الله مبين ذلك، وشارح جميعه في كتاب غير هذا، ومبتدئ في كتابي هذا بما ذكرت من ناسخ ذلك ومنسوخه، أطلب ثواب الله والدار الآخرة، مستعينا بالله عليه، ضارعا إليه في عوني على ذلك وتسديدي الصواب فيه.
(قال الله تعالى سبحانه) ?ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا? [البقرة:269] .
فزعم ابن عباس (رضي الله عنهما وكثير) من العلماء أن تفسير هذه الآية وما ذكر الله فيها من الحكمة هي: المعرفة بجميع معاني القرآن التي ذكرناوأسبابه.
صفحة ٣٠
[فضيلة علم الناسخ والمنسوخ وحكم تعلمه]
[1/1] ولقد بلغني عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -صلوات الله عليه- أنه سمع رجلا يعظ الناس ويقص عليهم.
فقال له: هل علمت ناسخ القرآن ومنسوخه؟
قال: لا، قال له عليه السلام:هلكت وأهلكت.
صفحة ٣١
[حقيقة النسخ ]
قال الله تعالى: ?ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها? [البقرة:106] .
وقد ذكرت تفسير هذه الآية في تفسير سورة البقرة، ولا بد من ذكر بعض ذلك في هذا الموضع.
قال الله عز وجل: ?ما ننسخ من آية? أي ما نبدل من حكم قد مضى في آية بالتخفيف مثاله في الفرض أوبالتثقيل بالزيادة في فرضها، أو ننسها، أي: نتركها بحالها لا نغير شيئا مما حكمنا به فيها.
وكذلك قال في موضع آخر: ?يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب? [الرعد:39] يقول الله سبحانه:?يمحوا الله ما يشاء? من فرضه، وحكمه في آياته بالنسخ له، ويترك العمل بما فيها منه، مما قد مضى وأمر بترك الحكم به، ويثبت ما يشاء مما حكم به في آيات أخرى، ولا يبدل، وفرضها لا بعمل لم يدع الحكم بها بعد [2أ-أ] ولم يمض.
?وعنده أم الكتاب?، يقول الله سبحانه: إن عنده أصل ذلك، وجملته مثبتا في علمه [1ب-ج] لا يعزب عنه شيء مما نسخ، ولا مما لم ينسخ، ولا مما وقع الحكم به ومضى، ولا مما لم يقع به بعد ولم يمض.
صفحة ٣٢
[ أقسام الناسخ والمنسوخ ]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: ولم يختلف أحد علمته من العلماء، لا خاص، ولا عام أن الآية الناسخة والمنسوخة (ثابتتان) في المصحف يقرءان جميعا، وأن الآية المنسوخة إنما ترك حكمها، وترك العمل بها، وهذا وجه الناسخ والمنسوخ عندي، والله الموفق للصواب برحمته.
وقد قال غيرنا: أن الناسخ والمنسوخ عندهم على ثلاثة وجوه، منها:
[أولا] : ما قلنا به.
والثاني: نسخ الخط وتحويله من مكان إلى مكان.
والثالث: عندهم رفع السورة وإنساؤها من كان يحفظها، وهذا قول فاسد مدخول، وقد احتجوا في ذلك بحديث [2/1] عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا أراه حقا، ولا أعرفه، غير أني أحببت ذكره؛ كي لا يحتج به محتج جاهل فيجهل به غيره - زعموا أن رجلا من المسلمين كان يحفظ سورة من القرآن، فقام يقرؤها (من الليل) فلم يقدر عليها (ثم قام آخر من المسلمين يقرؤها، فلم يقدر عليها، ثم قام رجل ثالث يقرؤها فلم يقدر عليها) فلما أصبحوا غدوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال بعضهم: يا رسول الله، قمت البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا، فلم أقدر عليها.
وقال الآخر: يا رسول الله ما جئت إلا لهذا، وقال الثالث [61ب-ب] مثلهما.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنها نسخت البارحة)).
وذكروا أيضا قول الله [2ب-أ] عز وجل: ?وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته? [الحج:52] .
والنسخ هاهنا له وجه غير الوجوه الأولى، وتأويل غير التأويل الأول، والمعنى فيهما مفترق، غير أني أحببت ذكره إذ ذكروه.
صفحة ٣٣
[كتاب الصلاة: أول ما نسخ (تحويل فرض القبلة)]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وأول ما نسخ الله سبحانه من كتابه الكريم، وذكره الحكيم تحويل فرض القبلة.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل المدينة أمره الله بالصلاة إلى بيت المقدس وأنزل عليه:?ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله? [البقرة:115] ، فكان عليه الصلاة والسلام يصلي إليه، لما أراد الله من إطناء أهل المدينة ومن حولها، وذلك أن أكثرهم كانوا يهودا، وكانوا يعظمون بيت المقدس، فلما أن صلى -عليه الصلاة والسلام- إليه عظم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندهم، ووقع ما يدعو إليه في قلوبهم.
فصلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، وقيل: سبعة عشر شهرا. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب قبلة أبيه إبراهيم؛ وذلك أنها كانت قبلة جميع الأنبياء -عليهم السلام، غير أنه لم يكن أحد أمره الله ببناء البيت، ولا دله [62أ-ب] عليه، ولا أظهره له إلا إبراهيم (عليه السلام) وأما الأنبياء من قبله صلوات الله عليهم فكانوا يتعبدون بالصلاة إليه والقصد.
وكان عليه السلام يدعوا إلى الله في ذلك، وينظر إلى السماء ويلتفت عند الصلاة إلى البيت العتيق، فأنزل الله سبحانه: ?قد نرى تقلب وجهك في السماء [3أ-أ] فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره? [البقرة:144] أي نحوه، فنسخت هذه الآية التي قبلها (وهي) ?ولله المشرق والمغرب? [البقرة:115] فاشتد ذلك على اليهود.
فقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟
صفحة ٣٤
وقد قال أيضا قبل ذلك مثل هذا القول مشركي العرب، حين صلى صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس وترك قبلة أبيه إبراهيم فأنزل الله سبحانه: ?قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم? [البقرة:142] .
ثم قال عز وجل:?وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه? [البقرة:143] يقول (الله سبحانه): ليتبين لك أهل اليقين والتسليم من أهل الشك والارتياب، وكذلك قال في موضع آخر:?فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما? [النساء:65] والتسليم لأمر الله وأمر رسوله، وترك الشك والارتياب، فهو صريح الإيمان، ألا تسمع إلى قول الله عز وجل: ?وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله? [البقرة:143] يعني بذلك تحويل القبلة، ثم قال تقدس [اسمه] مخبرا عن اليهود وغيرهم:?سيقول السفهاء من الناس ما [62ب-ب] ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها...?الآية [البقرة:142] يعني بالسفهاء: اليهود، ومن قال بقولهم. [3/1] وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لما نسخت القبلة )، صعد المنبر فتلى على الناس هذه الآية إلى آخرها: ?قد نرى تقلب وجهك في السماء...? [البقرة:144] ثم نزل عن المنبر فصلى بهم الظهر إلى البيت العتيق، وكان أول صلاة [3ب-أ] صليت بعد النسخ إلى المسجد الحرام.
صفحة ٣٥
[كتاب الزكاة والصدقات ]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وأما الزكاة وما نسخ منها، والصدقة، فقد اختلف الناس في ذلك، وسأذكر اختلافهم، وما بين الخاص والعام، وما به نأخذ من ذلك إن شاء الله تعالى.
قال الله سبحانه في سورة النساء: ?وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه...?الآية [النساء:8] فهذه الآية مما اختلفوا فيها، فقال بعضهم: هي محكمة وعلى أهل الميراث أن يرضخوا للقرابة واليتامى والمساكين، بما طابت به أنفسهم.
وقال آخرون: أنها منسوخة نسختها المواريث والفرائض والقول فيها عندي: أنها منسوخة نسختها المواريث والفرائض، غير أني أستحب لأهل الميراث أن يرضخوا لمن حضر القسمة من مساكين القرابة والأيتام وغيرهم.
واختلفوا أيضا في الآية التي في الأنعام، وهو قوله عز وجل:?كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده? [الأنعام:141] فزعم قوم أنه حق أوجبه الله تعالى في أموال العباد [63أ-ب] ، وفرض عليهم إطعام المساكين منه يوم حصاده، وذلك أنه حق لازم.
وزعم آخرون أن هذه الآية منسوخة (بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليس في المال حق سوى الزكاة ))) ولا أدري ما هذه الرواية!؟ ورووا ذلك عن أبي جعفر وابن عباس وغيرهما.
وقال آخرون: إنها آية محكمة، وإن الحق الذي ذكره الله تعالى في هذا الموضع هو: الزكاة المفروضة، وهذا قولنا وبه نأخذ (ومن تطوع بعد ذلك، وفعل خيرا)يوما، فرضخ منه للمساكين (فحسن، ومن شح) فحظ نفسه أخطأ.
بلغني من حيث أثق [4أ-أ] ، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، -صلوات الله عليهم- أنه قال: (نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن، (ونسخ الأضحى) كل ذبح، ونسخ صوم رمضان كل صوم).
صفحة ٣٦
وبلغني من حيث أثق عن جعفر بن محمد ( عن أبيه محمد بن علي) عن أبيه علي بن الحسين قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جذاذ الليل وحصاده).
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وإنما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظرا لأهله ورحمة لهم، لما لهم من الأجر في إطعام من حضر من الضعفة والمساكين، وخوفا عليهم من هوام الأرض، فهذا معنى الحديث عندي وقد قال غيرنا: أن ذلك إيجابا منه أن فيه حقا سوى الزكاة، وليس هذا عندي بشيء.
صفحة ٣٧
[كتاب الصيام]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وأما ما نسخ من الصيام، وما اختلف فيه من معانيه، قال الله سبحانه: ?كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات? [البقرة:183] يعني بذلك المعدود شهر رمضان.
صفحة ٣٨
[الصيام بين الجاهلية والإسلام ]
يعني أمة محمد [2ب-ج] صلى الله عليه وآله وسلم والذين من قبلهم، هم أهل الأديان والكتب الذين كانوا قبلهم، فكانوا يأكلون ويشربون وينكحون ما بينهم وبين أن يصلوا العتمة، وإلى أن يرقدوا وإذا كان ذلك امتنعوا بعد النوم من الأكل والشرب والنكاح إلى مثلها من الليلة القابلة.
ثم إن رجالا من المسلمين أصابوا نساءهم، وطعموا بعد صلاة العتمة والنوم، قيل: أن منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله سبحانه: ?أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم [4ب-أ] وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم?يعني من الولد ?وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر? [البقرة:187] ، فنسخت هذه الآية الآية التي قبلها ?كتب عليكم الصيام? [البقرة:183] .
وأما قوله:?ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد? [البقرة: 187] فإنه بلغني [6/1] أنهم كانوا يعتكفون في المساجد، ثم يخرج أحدهم لحاجته، فيجامع أهله ثم يغتسل، ثم يرجع إلى المسجد، فنهى الله عن ذلك بقوله: ?تلك حدود الله [64أ-ب] فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون? [البقرة:187] .
صفحة ٣٩
وكذلك بلغني [7/1] أنه كان كتب على الذين من قبلهم على ما ذكرنا أن لا يأكلوا، ولا يشربوا بعد النوم، فأما قوله: ?كنتم تختانون أنفسكم...?الآية فإنه بلغني عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أطال السمور ثم دخل على زوجته فوجدها قد نامت فدعاها إلى فراشه، فقالت: إني قد رقدت.
فلم يصدقها وواقعها، فشكى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيمن شكى وقد ذكرت خبرهم بدءا، وقد قيل: إنه عمر بن الخطاب، وإنه قال: يا رسول الله، أعتذر إليك من نفسي هذه الخاطئة.
قال: وما ذاك يا عمر؟
قال: يا رسول الله، إني رجعت إلى أهلي بعد أن صليت العشاء، وقد حرم الجماع، فزينت لي نفسي فأتيت المرأة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لم تك جديرا يا عمر بذلك)).
فقام آخرون فشكوا إلى النبي بمثل ما شكى عمر، فنزلت الآية: ?علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم?. وكان ممن فعل مثل ذلك كعب بن مالك الأنصاري [5أ-أ] ، وكان أيضا شيخا من الأنصار كبير السن يقال له: صرمة بن مالك جاء إلى أهله عشاء، وهو صائم فدعا بعشائه.
فقالوا: امهلنا حتى نصنع لك طعاما سخنا تفطر عليه، فوضع الشيخ رأسه فنام فجاؤوه بطعامه، فقال: قد كنت نمت، فلم يطعمه، فبات ليلته يتصلق ظهرا وبطنا، فلما أصبح أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بخبره فأنزل الله [64ب-ب] سبحانه هذه الآية التي ذكرت أنها نسخت ما قبلها، وقال فيها: ?وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر? [البقرة: 187] .
فلما أن تلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الآية قام إليه رجل فقال: يا رسول الله، رأيت الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ هما الخيطان: الأبيض والأسود.
فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنك لعريض القفى هما الليل والنهار)).
صفحة ٤٠
[الإطاقة ومتى تجب الفدية ولمن ]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وقد اختلف العلماء في هذه الآية على فرقتين سأذكرهما، وما به نأخذ منها إن شاء الله تعالى.
قال الله سبحانه: ?وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين? [البقرة:184] ؛ فقال قوم: إنما كانت الإطاقة عندهم أن الرجل والمرأة كانا يصبحان صائمين، ثم من شاء منهما أفطر [3أ-ج] وأطعم لذلك اليوم مسكينا حتى نسخ الله هذه الآية بالآية التي بعدها وهي قوله: ?فمن شهد منكم الشهر فليصمه? [البقرة:185] فلما نزلت هذه الآية لم يكن لأحد أن يفطر، وهو يطيق الصوم في حضره.
وقالت هذه الفرقة: أن هذه الآية نسخت التي قبلها.
وقالت الفرقة الأخرى: أن هذه الآية محكمة، يعنون الأولى ليست بمنسوخة، وإنما أراد الله [5ب-أ] بقوله: ?وعلى الذين (لا) يطيقونه? فحذف (لا) استخفافا، وكذلك العرب [65أ-ب] تحذفها، وهي تريدها، وتصل بها الكلام وهي لا تريدها.
قال الله عز وجل في صلتها وهو لا يريدها: ?لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم? [الحديد:29] .
وقال الشاعر:
بيوم جدود لا فضحتم أباكم .... وسالمتم والخيل تدمي شكيمها
فقال: لا فضحتم أباكم، وإنما أراد فضحتم أباكم، فجعل (لا)، ها هنا صلة.
وأما ما طرحها منه وهو يريدها فقوله تعالى: ?لا أقسم بيوم القيامة? [القيامة:1] . وقوله: ?لا أقسم بهذا البلد? [البلد:1] . فأسقط الألف وهو يريدها؛ لأن المعنى: آلا أقسم بهذا البلد، وهذا كثير في كتاب الله، وفي أشعار العرب.
قال الشاعر:
نزلتم منزل الأضياف منا .... فعجلنا القرى أن تشتمونا
فقال: أن تشتمونا، وهو يريد: ألا تشتمونا، فحذف (لا) استخفافا.
صفحة ٤١
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: (وهذا كله قولنا، وحجتنا بأن الآية محكمة وليست بمنسوخة وبذلك نأخذ).
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وهذا ما ذكر في ناسخ هذه الآية ومحكمها، وما قالت هاتان الفرقتان.
ثم اختلفوا بعد في القراءة بها، فقرأها بعض الناس: ?وعلى الذين يطيقونه? وقرأها آخرون: ?وعلى الذين لا يطيقونه? فهذا ما اختلف فيه من هذا الباب.
ثم اختلفوا أيضا في معناها على أربع فرق:
فرقة قالت: فرض الصيام لازم لا يجزي غيره للمقيمين، لزمهم ذلك بالآية المحكمة، وهي قوله عز وجل: ?فمن شهد منكم [6أ-أ] الشهر فليصمه? [البقرة:185] . وهذا قولنا وبه نأخذ في كل مقيم، إلا من كان على ما ذكره الله ?لا يطيقه? لعلة في نفسه، أو مخافة لإهلاك غيره، من ولد يرضع أو حامل تطرح، فعلى من كان كذلك الفدية، والصوم إذا أطاق.
وقالت الفرقة الأخرى: لا خيار إلا لمريض أو مسافر، هذا أيضا قولنا، لقول الله عز وجل:?فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر? [البقرة:184] .
وقد بلغني وصح عندي [9/1] أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصوم في السفر.
فقال له: ((إن شئت فصم وإن شئت فافطر)).
(وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صام وأفطر).
وحدثني من أثق به يرفعه إلى ابن عباس قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عام الفتح فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر).
وبلغني من حيث أثق (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صام في السفر وأفطر).
وبلغني من حيث أثق [12/1] أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج مسافرا في رمضان فنادى في الناس ((من شاء فليصم، ومن شاء فليفطر)).
صفحة ٤٢
وبلغني من حيث أثق [13/1] (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [66أ-ب] سافر لثاني عشرة ليلة من شهر رمضان، فأفطر طوائف من الناس، وصام طوائف، فلم يعب أحد منهم على أحد).
وقد بلغني أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [14/1] أنه مر في بعض أسفاره [3ب-ج] فرأى رجلا قد اجتمع الناس فظللوا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما هنا؟
فقالوا: رجل صائم.
قال: ((ليس البر أن تصوموا في السفر)).
والحجة (في هذا ) عندنا قوية كبيرة. قال الله سبحانه في مثل هذا: ?يريد الله بكم اليسر? [البقرة:185] [6ب-أ] . فمن اليسر أن لا يكلف أحد إلا طاقته، والدين كله يسر لا عسر فيه.
وقالت الفرقة الثالثة: أنه ليس على الشيخ الكبير فدية، ولا على الشيخة، وقالوا: إن استطاع الصوم صام، وإن لم يستطع أفطر، ولا شيء عليه.
وممن روى عنه هذا أنس بن مالك، وقالوا: إنما أوجب الله الفدية قبل النسخ على المطيقين دون غيرهم، وخيرهم بين أن يصوموا أو يطعموا.
فقال: ?وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين? [البقرة:184] ، ثم نسخ الفدية عنهم وألزمهم الصوم، وسكت عمن لا يطيق فلم يذكره في الآية، فصار فرض الصيام زائلا عمن لا يطيقه كما زال فرض الحج عمن لا يطيقه، وكما زالت الزكاة [66ب-ب] عن المعدمين.
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وهذا عندي قول فاسد، قاسوه على غير قياس؛ لأن الزكاة والحج لا يقاسان بالصيام، فرق الله بين ذلك في كتابه، وفرقته السنة، وذلك أن الله أوجب في كتابه على كل من حال بينه وبين الصيام بالفدية والقضاء، وكذلك سبحانه جعل التراب بدلا من الماء، لمن حال بينه وبين الماء، ولم يجعل من الزكاة ولا من الحج بدلا، إذا لم يقدر عليهما، فكيف يستوي المعنيان، وتشتبه السنتان؟
صفحة ٤٣
[الفدية ]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وقد اختلفوا أيضا في الفدية، فقال كثير من الناس: يكتفي في الفدية بمدبين الغداء والعشاء، لكل مسكين.
وقال آخرون: مدين: مد للغداء، ومد للعشاء، وهذا قولنا وبه نأخذ.
وأما قوله تعالى: ?فمن تطوع خيرا فهو خير له? [البقرة:184] فهذا حض على التطوع، ودلالة على الخير، وقد قال بعض العلماء: أنه أراد من [7أ-أ] تصدق على مسكين لكل يوم أفطره، فهو خير له، ولعمري إن إطعام اثنين خير من إطعام واحد!
وقالت الفرقة الرابعة في الحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما: عليهما الإطعام، ولا قضاء عليهما، ذكر ذلك عن ابن عباس، وإبراهيم والحسن وعطاء والضحاك بن مزاحم وغيرهم، وقال من خالف هذه [67أ-ب] الفرقة: عليهما القضاء، ولا إطعام عليهما، وبهذا القول نقول، وبه نأخذ، لمعان سأذكرها إن شاء الله تعالى، منها: ما قد أجمع عليه العلماء قالوا جميعا: إنه من دخل عليه شهر رمضان وعليه دين من رمضان أو كله، أن عليه أن يصوم رمضان الداخل، ويطعم لكل يوم مسكينا عدد ما أفطر.
ومن الحجة في ذلك أن الله حكم في التارك للصوم من عذر بحكمين، فحكم بالفدية في آية، وحكم بالقضاء في آية أخرى، فلما أن لم يجد ذكر الحامل والمرضع مسمى في آية واحدة، جمعناهما جميعا عليهما القضاء والإطعام، وكان ذلك الصواب عندنا والاحتياط.
وقد بلغني عن أنس بن مالك أنه قال: [15/1] أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إبل لجار لي أخذت فوافقته وهو يأكل، فدعاني إلى طعامه فقلت: إني صائم، فقال: ادن أخبرك عن ذلك فقال:" إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع"، فكان بعد ذلك يتلهف ويقول: إلا أكلت من طعام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين دعاني.
صفحة ٤٤
وبلغني عن ابن مسعود [16/1] أنه دخل عليه الأشعث بن قيس وهو [7ب-أ] يتغدى [4أ-ج] يوم عاشوراء فدعاه إلى غدائه، فقال: إني صائم؛ فقال ابن مسعود: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم عاشوراء، أو كان الناس تصومه فلما نزل شهر رمضان ترك؛ فمن شاء صامه، ومن شاء تركه، أفطره.
وبلغني أيضا عن قيس بن سعد بن عبادة أنه قال: [17/1] كنا نصوم عاشوراء ونخرج زكاة الفطر، فلما أمرنا بالزكاة وصوم شهر رمضان لم نؤمر بهما ولم ينه عنهما، وكنا نفعلهما.
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: فهذا ما ذكر من نسخ الصيام ومنسوخه، وما اختلف فيه منه، ولم أذكر ما ذكرت من الاختلاف الذي لا وجه له إلا مخافة أن يحتج بذلك محتج، ويظن أنه مصيب.
صفحة ٤٥
[كتاب النكاح]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وأما ما ذكر في النكاح وجاء في الكتاب من ناسخه ومنسوخه فأنا ذاكر ذلك إن شاء الله تعالى [67ب-ب] وما اختلف فيه منه.
صفحة ٤٦
[نكاح الكتابيات]
قال الله سبحانه: ?ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن? [البقرة:221] . فزعم قوم أنها منسوخة نسخها قوله تعالى: ?والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان? [المائدة:5] ، وقال آخرون: إنها محكمة، والقول عندنا: إنها محكمة وليست بمنسوخة، وأن معنى الآية: أن الله سبحانه إنما أباح نكاحهن بعد إيمانهن لا ما دمن على كفرهن ولا تمييز عندنا [8أ-أ] بين أهل الكتاب، ولا بين المشركين في النكاح كلهم أهل شرك.
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: أي شرك أعظم من شرك النصارى، وهم يزعمون أن عيسى ربهم، وأن الله ثالث ثلاثة، وغير هذا من الكفر، ويجحدون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من كتاب، وكذلك اليهود يجحدون جميع ذلك ويقولون: أن لله ولدا، وصنوف أيضا من الكفر، ومن قال بما ذكرنا وجحد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أو آية من كتاب الله فكافر عندنا.
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: ومن الحجة على من أجاز نكاحهن، واحتج بالآية، أن نقول له: أليس الله قال في أول الآية: ?والمحصنات من المؤمنات ?!!
صفحة ٤٧
فبين بقوله: (المحصنات) أنهن العفائف، ثم قال: ?من المؤمنات ?، فلم يبح تزويج المحصنات، إلا أن يكن مؤمنات، ولا المسلمات، إلا أن يكن محصنات فكيف يبيح نكاح المحصنات اللاتي غير مؤمنات!؟ هذا من أمحل المحال، هو سبحانه يحرم نكاح من كان متسميا باسم الإسلام إذا كان زانيا [68أ-ب] فكيف يحل نكاح المشركات، وإن كن محصنات، والله سبحانه لم يبح نكاح محصنة إلا أن تكون مؤمنة، ولا نكاح مسلمة إلا أن تكون من المحصنات، فإذا اجتمعا في امرأة جاز نكاحها وإذا افترقا كان النكاح فاسدا. وقد قال الذين زعموا أن الآية التي في البقرة نسختها الآية التي في المائدة [8ب-أ ] أن حذيفة تزوج يهودية، وأن عمر أمره بفراقها على حد التنزيه، وزعموا وذكروا أن طلحة تزوج نصرانية، وهذان خبران لا أدري ما هما غير أني أحببت ذكرهما لما قدمت، وذكروا أيضا أن عثمان تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية، وهي نصرانية، وهذا عندي عن عثمان ليس بصحيح، لأحاديث عارضته يذكر فيها إسلام أبيها (وإسلام أمها) وإسلامها قبل تزويج عثمان لها، ومما يفسد هذه الأحاديث عندي كعب بن مالك ، وما أراد من تزويج امرأة من أهل الكتاب، وسؤاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك ونهيه إياه عنه، وقد قيل: إنه قال له: إنها لا تحصنك، ولا أدري ما هذه اللفظة الزائدة، وزعموا أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [4ب-ج] (رجم يهوديا ويهودية).
وقد بلغني عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره ما يفسد قولهم [18/1] أنهم أجمعوا على تحريم نساء أهل الكتاب إذا كن حربا، والآية التي احتج بها من احتج فإنها جاءت مبهمة لم يبين فيها سلم من حرب، فهذا مما يفسد عليهم قياسهم الأول، إذا كانوا يعملون بظاهر الكتاب ومخرج اللفظ.
صفحة ٤٨