في طريق خروجنا من المسجد، مررت بفتاة تحدث صديقاتها وهي تريهن صورا في جوالها: «... وهذا مفتوح من الظهر، وهذا مع ذيل، وهذا لونه رائع وقماشه فخم لولا أن تصميمه رديء ...» سيدة أخرى كانت تقول لجارتها: «متى ذهبتم؟ لم لم تعزمني أم محمود؟» وترد عليها جارتها: «ما عليك منها إنها قليلة أصل، ولم ننبسط عندها أبدا.» أما تلك العجوز فسمعتها تتكلم عن «أولاد الكلب» الذين باعوها الزيت مغشوشا و«دبس البندورة» بائتا. أخذت أضحك في سري، منذ دقائق فقط، دقائق يا مؤمنات كنتن تذرفن الدموع وتنادين: يا الله. ماذا حصل الآن؟ أين إيمانكن؟ ودموعكن؟ هل جفت مع التسليمة الأخيرة؟
عدت إلى البيت وأنا نادمة على الذهاب إلى المسجد، ليتني صليت في البيت! قضيت ما بقي لي من هذه الليلة المباركة أصلي في غرفتي، كما أني أعدت صلاة الوتر والدعاء. بعدها جلست لقراءة القرآن، فمررت بالآية:
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا (الإسراء، 110)، توقفت أتأملها وقد اقشعر جسدي، شعرت أنها نزلت الآن إلي أنا وحدي، وكأنها أتت لتطمئنني، لتربت على كتفي، وتقول لي: لا بأس، أنت في الطريق الصحيح؛ فالآية صريحة: لا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها، سبحان الله!
الآن فقط وقفت أقرأ القرآن بصوت هادئ، وأناجي الله بما أجده مريحا لقلبي. شكرت الله الذي هداني ووهبني هذه الآية؛ فالله قريب، ولست أدري لم نرفع أصواتنا بدعائه وكأننا ننادي أصم!
وهكذا انتهى رمضان، ثلاثون يوما وليلة، أنهى الناس صيامه وقيامه، ختموا القرآن مرتين أو خمس مرات أو أكثر، صلوا القيام، وأحيوا ليلة القدر، دعوا مع الإمام، بكوا ورفعوا أيديهم عاليا قائلين «آمين.» رافعين بها أصواتهم. هكذا أصبح رمضان، وقت مستقطع من العام، نسير فيه مع الموجة السائدة من عبادة وقرآن. هكذا يفعل كل الناس، وكذلك نفعل نحن، نتحمس للصلاة، ربما نقف ساعات ونتعب ونجتهد، حتى إننا قد نفوت صلاة الظهر والعصر من اليوم التالي ونحن نائمون متعبون، نؤمن على دعاء الإمام، نبكي، نقرأ الختمات، ونخرج من رمضان بنشوة المنتصر، بخدر لذيذ من العاطفة الإيمانية الواهمة، وتكبر الأنا وتتضخم إلى درجة القداسة فلا تكاد تسعنا الدروب؛ فقد أدينا ما علينا، ونحمل الله المنة، لم لا؟ فقد صمنا وتعبنا في عز الحر، وقمنا كل الليالي عشرين ركعة، فعلنا ما علينا، وعلى الله أن يقبلنا ويغفر لنا، ثم ننصرف متملصين من رمضاننا لنعود إلى دوامة عيشنا، إلى عاداتنا اليومية التي تهزأ بنا، إلى تفاصيل حياتنا التي تسحقنا، من كذب، وتباه، وتكاثر، وسرقة، وتحاسد، وبغض. نولي ظهورنا رمضان الذي يدعو علينا، ونغلق القرآن على آياته التي تلعننا، ثم نهنئ بعضنا: طاعتكم مباركة!
كتبت على صفحتي في «الفيسبوك»:
انتهى رمضان، لكن رب رمضان هنا لا يرحل. انتهى رمضان، والآن فقط ابتدأ العمل.
8 - كيف حالك؟ - الحمد لله بخير، وأنتم؟ - «نحن» كلنا بخير. - هههههه. - أشعر أني أسمع ضحكتك وكأنك هنا أمامي، وأنا فخور بنفسي لأني رسمت ابتسامة على وجهك الذي لا أراه. - شكرا. - على الرحب والسعة آنستي. - . - كيف هم أهلك؟ - الحمد لله، لقد فاجأنا سعيد منذ يومين بقدومه من قطر. - جميل، أحب المفاجآت السعيدة. - نعم، لقد كان هذا أروع شيء حدث لنا منذ زمن. - حمدا لله على سلامته. - الله يسلمك، وأنتم؟ كيف عملكم؟ - جيد، نغلق كثيرا ونفتح قليلا. - بسبب الحرب. - تماما، تعرفين، كل ما في المتحف محط أنظار اللصوص الذين يتكاثرون هذه الأيام، وعلينا أن نكون حذرين. - وهل يشكل هذا خطرا عليكم أنتم أيضا. - طبعا. - طيب هل أنتم مستعدون لحماية أنفسكم؟ بأسلحة؟ بأي شيء؟ - تخافين علي؟ - ... - لم تجيبي. - هل لي أن أسألك كيف تقضي على الملل في عملك؟ - تهرب آخر! لكن مع ذلك سأجاريك، ومن قال لك إن عملي ممل؟ - هذا معروف؛ فماذا تفعلون طوال النهار؟ غير الجلوس مع تاريخ منته، وركام بائد، ومنحوتات خرساء؟ - يؤسفني سماع ذلك منك. - هل زعلت؟ - نعم. - حقا؟ - بالتأكيد. - آسفة. - ... - قلت آسفة، أعتذر منك، أسحب كلامي. - ... - هيا، قل شيئا، كيف ترضى؟ - أنا أعرف. - كيف؟ - هل زرت المتحف يوما؟ - لا. - إذن عليك أن تزوريه وتشاهدي ما فيه، ثم احكمي بنفسك، وبغير ذلك لن أرضى، وبإمكاني التطوع لأرافقك في زيارته! - هذا اسمه ابتزاز. - سمه كما تشائين، عليك أن تدفعي الثمن، أم أن من طبعك أن تجرحي الناس وتمضي بلا اعتذار؟ - لقد اعتذرت بالفعل. - لم أقبله. - أنت مراوغ. - أنا شادي. - حسنا، سأفعل، وغدا صباحا. - سأكون بانتظارك في التاسعة، لا تتأخري. - لكن انتظر، ربما نؤجلها قليلا، بعد أسبوع ما رأيك؟ هل تعتقد أنه من الصائب فعل ذلك؟ أقصد أن نلتقي؟ دعنا نتحدث هنا فقط. - ... - ماذا؟ أنا أفكر وحسب. - سما، هل ستحضرين غدا أم لا؟ أنا حازم. - ظننت أنك شادي!
9 «سلمى حبيبتك تكون صديقتي التي طالما حدثتك عنها يا سعيد!» ضرب على جبهته مصدرا صفيرا طويلا. أشرت له بيدي حتى لا يصل صوته إلى أمي خارج الغرفة، قام وأمسكني من كتفي وقال: كيف عرفت؟ - رأيتكما يوم أمس معا.
أمسك رأسه بيديه وقال: كيف حدث ذلك؟ - سعيد، سلمى صديقتي منذ زمن، تعرفت إليها في دروس الدين التي كنا نحضرها، وتقاربنا كثيرا، ويوم أمس طلبت مني أن أذهب معها وذهبت . لم أكن أعلم أنها على موعد معك أنت بالتحديد أخي الكبير سعيد. لقد كانت مفاجأة، لطالما حدثتني عنك. - حقا؟ ماذا كانت تقول عني؟ - كانت متعلقة بك كثيرا فأنت في رأيها أول من أشعرها أنها متميزة وذات قيمة. - طيب، جميل أكملي. - لكنك تركتها وتخليت عنها بحسب رأيها في أصعب الأوقات.
صفحة غير معروفة