من شادي هذا؟ لا بد أنه أخطأ العنوان، وهممت أن أرسل له رسالة توضيحية وأخبره أنه أخطأ، لكن شيئا ما منعني من ذلك، فأقنعت نفسي بأن أؤجل ذلك ليوم غد، وخلدت إلى النوم.
استيقظت صباح اليوم التالي باكرا، وشيء واحد يشغل تفكيري: سأبحث عن رائد اليوم حتما، وأعرف تماما أين أبحث. ارتديت حجابي وخرجت متوجهة صوب طريق الجامعات، هناك الكثير من المكتبات لا بد أنه انتقل إلى إحداها حين ترك حارة بيتنا، كانت هناك مكتبتان فقط تبيعان الكتب أما البقية فهي للأدوات القرطاسية. اتجهت نحو أول مكتبة وقلبي يرتعد، هل يعقل أن أجده هنا؟ في أول مكتبة أدخل إليها؟ ماذا سأفعل إذا رأيته؟ ماذا سأقول له؟ ربما لن يتذكرني وقد مضى أكثر من عام على آخر مرة رأيته فيها. على أية حال، فلأجده أولا ثم سأرى ما سيحدث بعدها. فتحت الباب ودخلت، كانت المكتبة مكيفة من الداخل فسرت رعشة خفيفة من البرد في جسدي، وتقدمت إلى الأمام أفحص وجوه البائعين أبحث عنه، لكنه لم يكن هنا! «تفضلي يا آنسة»، التفت إلى مصدر الصوت وإذا به أحد الباعة يعرض خدماته، ارتبكت قليلا واعتذرت وخرجت. يا لحماقتي! ماذا أفعل؟ كم أنا واهمة! هل يعقل أنني أبحث عن شخص لا أعرف عنه شيئا في هذه المدينة الكبيرة؟ ولا دليل يقودني إليه سوى عمله في مجال الكتب؟ حسنا، علي ألا أفقد الأمل سريعا.
ذهبت إلى المكتبة الثانية واكتفيت بالنظر من خلف الزجاج لكنه لم يكن هناك أيضا! يا للخيبة! توجهت فورا إلى الحافلة المتوجهة إلى المدينة القديمة؛ فهناك الكثير من المكتبات التي تبيع الكتب. استغرقت في التفكير وأنا أراقب الأبنية كيف تتبدل من الحارات الجديدة إلى الحارات الأكثر قدما. أصبحت المباني أقصر وشبابيكها أضيق، لكنها أكثر دفئا وحميمية، أشعر بها ترمقني بنظرات حانية فأنا ابنتها التي ولدت في أحضانها، ولعبت على شوارعها المرصوفة التي كانت تقودنا إلى بيت جدي في حارة «باب قنسرين» العتيقة التي تعبق برائحة صابون الغار الشهير. جميلة هي مدينتي القديمة ! على الرغم من سواد الأدخنة الذي علق بجدرانها على مر السنين، كم شهدت هذه الجدران أناسا وقصصا وحكايا؟ بالتأكيد مر شاب أحلامي من جوارها يوما ما، ليتها تخبرني أين أجده! كانت الحافلة تتوقف مرات عند كل محطة ويصعد أناس وينزل آخرون، وبقيت أنا حتى نهاية الخط تقريبا.
نزلت وواصلت رحلتي سيرا على الأقدام حتى وصلت حارة باب النصر. كانت الشمس قد توسطت كبد السماء، والحياة تضج في كل ركن وزاوية، والحارات تنبض أناسا وباعة وبضائع وخليطا من مختلف الروائح؛ خبز طازج، وكباب مشوي، وأدخنة الحافلات، وعطور نسائية وأخرى رجالية. وصلت حي باب النصر وهناك وجدت المكتبات، كان علي، لأرفع الحرج عن نفسي، أن أختلق شيئا لأسأل عنه، دخلت مكتبتين أو ثلاثة وكلما سألت أحدا كان يدلني على «شيخ الكار»، كما يقولون، وهو «الحاج إبراهيم» الذي يعمل في هذه المصلحة منذ زمن؛ فهو يعرف كل شيء عنها وعن أصحابها. توجهت إليه ودخلت مكتبته، كانت بالفعل أكبر مكتبة كتب رأيتها، بطابقين واسعين وكتب تملأ الأرفف حتى السقف. لم يكن هناك من حاجة إلى السؤال عن «الحاج إبراهيم»؛ فبمجرد دخولي وجدت رجلا كبيرا في العمر يجلس وراء مكتب خشبي في زاوية المكتبة، ويرتدي نظارة طبية تدلت حتى أرنبة أنفه. توجهت إليه مباشرة، كان يتحدث على الهاتف، رمقني بنظرة من خلف عدسات نظارته، وأكمل حديثه وحين وضع السماعة قال لي: ها يا بنتي، ما طلبك؟ - في الحقيقة أود أن أسأل عن شخص لا عن كتاب. - ما اسمه؟
فقلت له مستحضرة الحبكة التي اختلقتها: اسمه رائد، لكنني لا أعرف كنيته، القصة أنه كان يعمل في مكتبة بجوار بيتنا، وكنت أستعير منه الكتب، وقد استعرت كتابا وتأخرت في إعادته، ولما ذهبت إلى المكتبة وجدتها مغلقة، ولم تفتح من يومها، وأريد أن أعيد الكتاب إلى صاحبه، فهل تعرفه؟
ابتسم الحاج إبراهيم وأخذ ينظر إلي رافعا حاجبيه وكأنه اكتشف كذبتي، ثم قال: عندي فكرة لك أيتها الشابة الأمينة، أقترح عليك أن تضعي الكتاب في إحدى المكتبات العامة ليستفيد منه الجميع، وبهذا تكونين قد برأت ذمتك منه، ما رأيك؟ - لكن الكتاب ليس لي حتى أهبه للمكتبة العامة، إنه ملك لصاحبه وعلي أن أبحث عنه، فضلا أتمنى أن تساعدني. - حسنا، صفيه لي.
وأخذ يراقبني متفحصا، فأحسست بحرارة في وجهي وقلت: إنه شاب طويل بشعر داكن، وجبهة عريضة، وشفتين رقيقتين، وحاجبين كثيفين، وندبة واضحة في يده اليمنى، وثيابه في العادة غير رسمية، و...
قاطعني الحاج بضحكة عالية لفتت الأنظار إلينا، عندها تمنيت أن أذوب في ثيابي لأختفي عن الجميع، أو تنشق الأرض لتبتلعني. وبعد موجة الضحك قال الحاج: طيب، طيب، انظري إلي جيدا يا بنتي، أنا خبرت الحياة طويلا، ولدي شيء من فراسة، ولما أنظر إليك أرى فيك فتاة طيبة ذكية متمردة، سأسألك سؤالا أجيبيني عليه بصدق: هل يعجبك هذا الشاب؟
لست أدري ماذا أصابني حين سمعت كلماته؛ فقد زال عني الحرج دفعة واحدة، نظرت مباشرة في عينيه وقلت: وما دخل هذا بالموضوع؟
وكأنما نزل جوابي كالصاعقة على رأسه، فأخذ يضحك مرة أخرى بصوت أعلى حتى سالت دموعه، وقال: تماما كما وصفتك، ذكية ومتمردة، معك حق، معك حق، لا دخل لهذا بالموضوع. - وهل ستساعدني أم ماذا؟ - لا!
صفحة غير معروفة