وإذا ترك ﷺ هدم بناء قريش للكعبة -وقد أخرجوا منها أذرعًا أدخلوها في الحجر- خوفًا من قالة الناس، على ما قاله ابن هبيرة على ما فيه، فترك ما فيه الفتنة مع السلطان الأعظم أولى، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فهذا -لو سلم أن العمارة لما انهدم منه فرض كفاية- مبين أن البعض المبهم المخاطب به هو إمام المسلمين لا بعضٌ غيرُه.
[توجيه كلام النووي في شرح مسلم]:
قال الإِمام النووي في "شرح مسلم": أخبر ﷺ أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم مصلحة، ولكن عارضه مفسدة أعظم منه خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، ويرون تغييرها عظيمًا، فتركها النبي ﷺ.
وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام، منها: إذا تعارضت المصالح أو مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم، لأن النبي ﷺ أخبر بأن إعادتها لقواعد إبراهيم ﵇ مصلحة، تَرَكَها درءًا لمفسدة فتنة حديثي العهد بالإِسلام منهم، أي ردة بعض من أسلم منهم بنقض بنائهم الذي يعدونه من أكمل شرفهم. انتهى ملخصًا (١).
وقال البدر الدماميني في "المصابيح" (٢): في الحديث دليل على ارتكاب
_________
(١) شرح مسلم للنووي: ٩/ ٤٥٤، باب نقض الكعبة وبنائها، كتاب الحج، حديث (١٣٣٣)، ونقل المصنف فيه تقديم وتأخير.
(٢) هو شرح على الجامع الصحيح للبخاري يسمّى "مصابيح الجامع"، لا يزال مخطوطًا، منه نسخة في مجلد ضخم في مكتبة جامع (أدوز) بالسوس، ومؤلفه هو الإِمام العلامة محمَّد بن أبي بكر بن عمر الدماميني المخزومي، مولده بالإِسكندرية سنة ٧٦٣، ووفاته بالهند سنة ٨٢٧ هـ، دخل اليمن ودمشق وغيرها، له مصنفات عديدة: شذرات الذهب: ٧/ ١٨١، والضوء اللامع: ٧/ ١٨٤، والأعلام: ٦/ ٥٧.
1 / 45