فاقمت الإمبريالية هذه التطورات أكثر فأكثر؛ فحتى فيما ألغت القوى الأوروبية الرق في مستعمراتها، فقد وسعت نطاق هيمنتها في أفريقيا وآسيا. غزا الفرنسيون الجزائر في عام 1830، ثم ضموها أخيرا إلى فرنسا، واستولى البريطانيون على سنغافورا عام 1819، ونيوزيلاندا عام 1840، ثم أحكموا سيطرتهم على الهند، وبحلول عام 1914 كانت أفريقيا مقسمة بين فرنسا، وبريطانيا العظمى، وإيطاليا، والبرتغال، وبلجيكا ، وإسبانيا، ولم تكد تسلم من براثنهم أي دولة أفريقية. ومع أن الحكم الأجنبي قد ضاعف في بعض الحالات من «تخلف» البلدان؛ من خلال تدمير الصناعات المحلية لمصلحة الاستيراد من المركز الاستعماري، فإن الأوروبيين خرجوا من غزواتهم بعبرة واحدة بصفة عامة، ألا وهي: أن لهم حق - وعليهم واجب - «جلب الحضارة» إلى لأماكن الأكثر تخلفا التي حكموها.
ولم يكن جميع من أيدوا هذه المشاريع الاستعمارية يشجعون العنصرية الصريحة؛ فقد رفض جون ستيوارت مل - الذي عمل لسنوات عديدة في «شركة الهند الشرقية» البريطانية، وكان هو المدير الناجح للحكم البريطاني في الهند حتى عام 1858 - التفاسير البيولوجية للاختلاف، لكن حتى مل نفسه كان يعتقد أن المناطق الهندية الأصلية كانت «همجية، وليست لديها قوانين، أو أن لديها قدرا أدنى من القانون»، وتعيش في حالة «لا ترقى إلا قليلا فوق حالة أكثر الحيوانات تطورا». وبالرغم من رغبة مل، كون الاستعمار الأوروبي وعلم الأعراق علاقة تكافلية: فاستعمارية «الأعراق الغازية» جعلت مزاعم العنصرية أكثر مصداقية، وساعد علم الأعراق على تبرير الاستعمار. وقد تبنى المستكشف البريطاني ريتشارد برتون، في عام 1861، الخط الذي سرعان ما أصبح اتجاها شائعا في ذلك الوقت؛ إذ صرح أن الأفارقة: «يتقاسمون في الأغلب الأعم أسوأ صفات أنماط الشخصيات الشرقية الأدنى؛ من ركود ذهني، وخمول جسدي، ونقص أخلاقي، ومعتقدات خرافية، وعاطفة طفولية.» وبعد سبعينيات القرن التاسع عشر، وجدت هذه التوجهات الفكرية جمهورا عريضا في الصحف الجديدة الرخيصة، والمجلات الأسبوعية المصورة، والمعارض الخاصة بوصف الأعراق البشرية، وحتى في الجزائر، التي كانت تعتبر جزءا لا يتجزأ من فرنسا بعد عام 1848، لم يحصل السكان الأصليون على الحقوق إلا على المدى الطويل جدا. وفي عام 1865، أعلن الجزائريون الأصليون بموجب مرسوم حكومي رعايا وليسوا مواطنين، في حين أنه في عام 1870 جعلت الحكومة الفرنسية اليهود الجزائريين مواطنين حاصلين على الجنسية الفرنسية، ولم يحصل الذكور المسلمون على حقوق سياسية متساوية إلا في عام 1947، فلم تكن «حملة إدخال الشعوب إلى الحضارة» مشروعا قصير المدى.
18
لم يعتبر جوبينيو اليهود حالة خاصة في شرحه لعلم الأعراق، على أن أتباعه اعتبروهم كذلك. مزج هيوستن ستيوارت تشامبرلين في كتابه «أساسات القرن التاسع عشر» الذي نشر في ألمانيا عام 1899، أفكار جوبينيو حول العرق والصوفية الألمانية بالهجوم العنيف على اليهود، ذلك «الشعب الأجنبي» الذي استعبد «حكوماتنا، وقوانينا، وعلمنا، وتجارتنا، وأدبنا، وفنوننا». ولم يطرح تشامبرلين سوى حجة جديدة واحدة فحسب، غير أنه كان لها تأثيرها المباشر على هتلر: فالآريون واليهود وحدهم دون كل الشعوب هم الذين حافظوا على نقائهم العرقي، وعليه لا بد أن يتقاتلوا حتى الموت. في أوجه أخرى، حشد تشامبرلين مجموعات متنوعة من الأفكار الآخذة في الانتشار.
19
على الرغم من أن مذهب معاداة السامية الحديث يقوم على المعتقدات المسيحية النمطية السلبية بشأن اليهود والتي انتشرت طيلة قرون، فإنه اتصف بصفات جديدة بعد سبعينيات القرن التاسع عشر. وعلى خلاف السود، لم يعد اليهود يمثلون مرحلة أدنى من التطور التاريخي، كما كانوا في القرن الثامن عشر على سبيل المثال؛ بل إنهم تصدوا لتهديدات الحداثة نفسها: المادية المفرطة، وتحرير الأقليات ومشاركتهم في السياسة، والعالمية «المنحطة» «عديمة الجذور» للحياة الحضرية. صورت الرسوم الكاريكاتيرية في الصحف اليهود على أنهم أشخاص جشعون، مراءون، ماجنون؛ وكتب الصحفيون ومؤلفو الكتيبات عن سيطرة اليهود على رأس المال العالمي، والمناورات التآمرية للأحزاب البرلمانية (انظر الشكل رقم
5-1 ). ففي رسم كاريكاتيري أمريكي يرجع إلى عام 1894 - أقل كراهية وغلا من العديد من الرسومات الأوروبية المماثلة - تظهر قارات العالم تطوقها أرجل أخطبوط جالس في موضع الجزر البريطانية، والاسم المكتوب على الأخطبوط هو «روتشيلد»، في إشارة إلى عائلة روتشيلد اليهودية الثرية ذات النفوذ. وزاد من اشتعال محاولات التشنيع المعاصرة هذه «بروتوكولات حكماء صهيون»، تلك الوثيقة الاحتيالية التي يفهم منها أنها تكشف عن مؤامرة يهودية لإقامة حكومة كبرى تهيمن على العالم بأكمله. نشرت هذه البروتوكولات للمرة الأولى في روسيا عام 1903، وفضحت باعتبارها مزيفة عام 1921، وبالرغم من ذلك أعاد النازيون نشرها مرارا وتكرارا في ألمانيا، وتدرس إلى يومنا هذا على أنها حقائق في المدارس في بعض البلدان العربية. وهكذا مزجت معاداة السامية الحديثة بين عناصر تقليدية وأخرى حديثة: ينبغي حرمان اليهود من الحقوق، بل وطردهم من الوطن؛ لأنهم شديدو الاختلاف وأصحاب نفوذ واسع.
شكل 5-1: «الثورة الفرنسية، في الماضي واليوم»، كاران دي أش في «بست ...!» 1898. (كان كاران دي أش هو الاسم المستعار لرسام الكرتون السياسي الفرنسي إيمانويل بوار الذي نشر رسوما كاريكاتيرية معادية للسامية إبان «قضية دريفوس» في فرنسا. تلعب هذه الصورة على وتر فكرة شائعة من أيام الثورة الفرنسية عام 1789، وتصور الفلاح يحمل بشق الأنفس أحد النبلاء (لأن النبلاء كانوا معفيين من بعض الضرائب). وفي الوقت الحاضر، يتعين على الفلاح أن يحمل المزيد من الأعباء؛ فعلى منكبيه يركب أحد الساسة الجمهوريين، وفوقه أحد الماسونيين، وعلى القمة ممول يهودي. نشر كاران دي أش أيضا العديد من الصور التي تسخر من زولا. مأخوذة من «بست ...!» العدد 37، 15 أكتوبر، 1898.)
الاشتراكية والشيوعية
لم تكن القومية هي الحركة الجماهيرية الوحيدة في القرن التاسع عشر، فعلى غرار القومية تبلورت كل من الاشتراكية والشيوعية كرد فعل صريح للقيود المدركة لحقوق الأفراد التي صاغها الدستور، وحين أراد القوميون الأوائل كسب الحقوق لكافة الشعوب، وليس فقط للشعوب التي تملك أوطانا قائمة بالفعل، أراد الاشتراكيون والشيوعيون أن يضمنوا أن الطبقات الأدنى سوف تنعم بمساواة اجتماعية واقتصادية وليس بمجرد حقوق سياسية متساوية. لكن مع أن المنظمات الاشتراكية والشيوعية لفتت الانتباه إلى حقوق لم يمنحها أنصار حقوق الإنسان، فإنها حطت - على نحو حتمي - من أهمية الحقوق باعتبارها هدفا. وكانت وجهة نظر ماركس واضحة تماما: يمكن تحقيق التحرير السياسي عن طريق المساواة أمام القانون في المجتمعات البرجوازية، غير أن التحرير الحقيقي للإنسان يتطلب تدمير المجتمعات البرجوازية والحمايات الدستورية التي تسبغها على الملكية الخاصة. إلا أن الاشتراكيين والشيوعيين طرحوا سؤالين عسيرين حول الحقوق: هل الحقوق السياسية كافية؟ وهل يمكن أن يتعايش حق الفرد في حماية ممتلكاته الخاصة مع حاجة المجتمع إلى توفير العيش الكريم لأفراده الأقل حظا؟
صفحة غير معروفة