في كل من الولايات المتحدة وفرنسا بحالتهما الجديدة، أشار إعلانا الحقوق إلى «الناس»، و«المواطنين»، و«الأمة»، و«المجتمع»، دون تناول الاختلافات في المرتبة السياسية. وحتى قبل صياغة الإعلان الفرنسي، كان المنظر الدستوري البارع، القس جوزيف سييس، قد ناقش الفرق بين الحقوق الطبيعية والمدنية للمواطن من ناحية والحقوق السياسية من ناحية أخرى. ومن وجهة نظره، ينبغي أن تعتبر النساء والأطفال والأجانب، وأولئك الذين لا يدفعون أي ضرائب مواطنين «مذعنين» فحسب، أما «أولئك الذين يساهمون في مؤسسة الدولة العامة فهم وحدهم الذين يمكن اعتبارهم مساهمين فعليين في المؤسسة الاجتماعية العظمى. هم وحدهم المواطنون الفاعلون الحقيقيون».
3
كانت المبادئ نفسها سارية منذ وقت طويل على الجانب الآخر من الأطلنطي؛ إذ أنكرت المستعمرات الثلاث عشرة على المرأة، والأمريكيين من أصول أفريقية، والهنود الحمر، وغير ذوي الممتلكات، حق التصويت. ففي ولاية ديلاوير - على سبيل المثال - كان حق الاقتراع مقصورا على البالغين من الرجال البيض الذين يمتلكون خمسين فدانا من الأرض، وعاشوا في ديلاوير مدة سنتين، أو ولدوا فيها، وأنكروا سلطة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وأقروا بأن العهدين القديم والجديد موحى بهما من الله. وبعد الاستقلال، سنت بعض الولايات أحكاما أكثر تحررا. فولاية بنسلفانيا - على سبيل المثال - بسطت حقوق التصويت لتشمل كافة الرجال الأحرار البالغين الذين يدفعون ضرائب بأي قدر كان؛ وولاية نيوجيرسي أجازت لوقت قصير حق التصويت للمرأة صاحبة الممتلكات؛ غير أن معظم الولايات أبقت على شروط حيازة الممتلكات، والعديد من الولايات تمسكت بإجراء اختبار ديني، على الأقل فترة من الزمن. عبر جون آدمز عن الرأي السائد حينئذ بقوله: «تلك هي نقيصة القلب البشري، فقلة قليلة جدا من الرجال غير أصحاب الممتلكات، هم الذين يكون لهم رأي مستقل خاص بهم.»
4
من الأسهل تعقب التسلسل التاريخي الأساسي لتوسيع نطاق الحقوق في فرنسا؛ نظرا لأن الحقوق السياسية كان يحددها التشريع القومي، في حين أنه في الولايات المتحدة الجديدة، كانت الولايات الفردية هي ما ينظم هذه الحقوق. في الأسبوع الذي امتد من 20 إلى 27 أكتوبر عام 1789، أصدر النواب سلسلة من المراسيم تحكم شروط أهلية التصويت: (1) أن تكون فرنسيا أو أصبحت فرنسيا بالتجنس. (2) أن تكون قد بلغت سن الرشد، التي كانت الخامسة والعشرين حينها. (3) أن تكون قد أقمت في منطقة الدائرة الانتخابية لمدة عام على الأقل. (4) أن تسدد الضرائب المباشرة بمعدل يساوي القيمة المحلية لثلاثة أيام عمل (وكان يفرض معدل أعلى للحصول على أهلية شغل وظيفة حكومية). (5) ألا تكون خادما في المنازل. ولم يأت النواب على ذكر الدين أو العرق أو الجنس عند وضع هذه الشروط، مع أن افتراض حرمان النساء والعبيد كان واضحا تماما.
على مدار الأشهر والسنوات التالية، أثارت جماعة تلو الأخرى نقاشا معينا، وأخيرا حصل معظمهم على حقوق سياسية متساوية؛ فقد حصل الرجال البروتستانت على حقوقهم في الرابع والعشرين من ديسمبر عام 1789، وانطبق نفس الشيء على الرجال من مختلف المهن. وأخيرا حصل الرجال اليهود على نفس الحقوق في السابع والعشرين من سبتمبر عام 1791. وحصل بعض الرجال، وليس الكل، من السود الأحرار على الحقوق السياسية في مايو عام 1791، ليفقدوها مرة أخرى في الرابع والعشرين من سبتمبر من نفس العام، ثم يستردوها مرة أخرى وتطبق بصورة أعم في الرابع من أبريل عام 1792. وفي العاشر من أغسطس من عام 1792، امتدت حقوق التصويت لتشمل جميع الرجال (في الحضر الفرنسي) فيما خلا الخدم وغير العاملين. وفي الرابع من فبراير عام 1794، ألغيت العبودية ومنحت الحقوق المتساوية للعبيد مبدئيا على الأقل. وعلى الرغم من هذا التوسيع للحقوق السياسية الذي يكاد لا يصدق لتنضم جماعات كانت محرومة من حقوق التصويت فيما مضى، فقد كانت حدود هذا التوسع تقف عند المرأة: فالمرأة لم تحصل قط على حقوق سياسية متساوية إبان الثورة، غير أنها حصلت على حقوق إرث متساوية والحق في الطلاق.
منطق الحقوق: الأقليات الدينية
كشفت الثورة الفرنسية، أكثر من أي حدث آخر أن حقوق الإنسان لها منطق داخلي. ففيما جابه النواب الحاجة إلى تحويل مثلهم الرفيعة إلى قوانين محددة، فإنهم كونوا بدون قصد مقياسا لقابلية التطبيق أو قابلية التصور. لم يدرك أحد مقدما أي جماعة ستناقش حقوقها، أو متى سيثار النقاش، أو ما سيكون الحل لوضعها. لكن سرعان ما أصبح من الجلي أن منح الحقوق لبعض الجماعات (البروتستانت على سبيل المثال) أسهل في التصور من منحها للبعض الآخر (النساء). لقد فرض منطق العملية أنه بمجرد أن يدور النقاش حول جماعة تتمتع بمستوى مرتفع على مقياس قابلية تصور حصولها على تلك الحقوق (الرجال البروتستانت أصحاب الممتلكات مثلا)، فإن من ينتمون للفئة نفسها لكنهم عند مستوى أدنى على مقياس قابلية تصور حصولهم على الحقوق (الرجال اليهود غير ذوي الممتلكات) حتما سيظهرون على أجندة الحقوق. ولم يكن منطق العملية يحرك الأحداث بالضرورة في خط مستقيم للأمام، لكنه كان ينزع إلى ذلك على المدى الطويل. وهكذا، استغل معارضو حقوق اليهود - على سبيل المثال - قضية البروتستانت (فهم مسيحيون على الأقل، بخلاف اليهود) لإقناع النواب بإرجاء قضية حقوق اليهود. ومع ذلك، في خلال فترة لم تتجاوز العامين، حصل اليهود على الحقوق المتساوية، ويعزى هذا جزئيا إلى أن المناقشة الصريحة لحقوقهم جعلت منح الحقوق المتساوية لليهود أكثر قابلية للتصور.
أثناء تطبيق هذا المنطق عمليا، تبين أن طبيعة «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» التي يفترض أنها طبيعة تجريدية ميتافيزيقية، هي أحد الأصول الثمينة للغاية. ولأنه بالتحديد نحى جانبا أي مسائل تتعلق بالتفاصيل، فإن النقاش الذي دار على مدار شهري يوليو حتى أغسطس عام 1789 حول المبادئ الأساسية ساعد في تحفيز طرق تفكير عززت أخيرا ظهور تفاسير أكثر جوهرية للتفاصيل المطلوبة. لقد صمم الإعلان كي يعبر بوضوح عن الحقوق العالمية للبشرية والحقوق السياسية بصفة عامة للأمة الفرنسية ومواطنيها. ولم يعرض الإعلان أهليات محددة للمشاركة الفعالة. فتأسيس حكومة يتطلب الانتقال من التعميم إلى التفصيل؛ وعند الإعداد للانتخابات، بات تحديد أهليات التصويت وتولي المناصب ضرورة ملحة. فميزة البدء بالتعميم غدت واضحة بمجرد طرح التفاصيل.
كان البروتستانت هم أول جماعة هوية دينية ينظر إليها بعين الاعتبار، ومناقشة وضعهم أعطى سمة دائمة للنزاعات التالية، هي أنه لا يمكن أخذ جماعة بعين الاعتبار بمعزل عن الجماعات الأخرى. لا يمكن إثارة قضية البروتستانت دون إثارة قضية اليهود؛ وبالمثل لا سبيل إلى طرح قضية الممثلين للنقاش دون إثارة قضية الجلادين؛ أو حقوق السود الأحرار دون الالتفات إلى العبيد. وعندما تناول مؤلفو الكتيبات حقوق المرأة، حتما قارنوها بحقوق الرجال غير ذوي الممتلكات وحقوق العبيد، بل واعتمدت المناقشات بشأن سن الرشد (التي خفضت من الخامسة والعشرين إلى الحادية والعشرين في عام 1792) على مقارنته بالطفولة. كان وضع وحقوق كل من البروتستانت، واليهود، والسود الأحرار، والمرأة يعتمد بدرجة كبيرة على مكانهم في شبكة الجماعات الأكبر التي تشكل الكيان السياسي للدولة.
صفحة غير معروفة