27
حتى لما كان الجمع أكثر هدوءا، كان ثمة شيء مزعج بشأن حجمه الهائل. حول إحدى حالات الإعدام سحقا على العجلة في عام 1787 أورد أحد زوار باريس من البريطانيين ما يلي: «كانت الجلبة الصادرة عن الجموع الغفيرة كأنما الهدير الذي تصنعه أمواج البحر عندما ترتطم بشاطئ صخري؛ ولهنيهة من الزمن سكن الجمع، وفي صمت مرعب شاهد الجمع الجلاد يتناول قضيبا من حديد ويبدأ المأساة بضرب ضحيته على الساعد.» والأمر الذي كان أكثر إزعاجا بالنسبة لهذا الزائر وكثيرين غيره من المراقبين للأحداث هو العدد الغفير من النساء المشاهدات: «من المذهل أن الجنس الناعم من الخليقة، الذي مشاعره هي في غاية الرهافة والنقاء، يحضر أفواجا لرؤية مثل هذا المشهد شديد الدموية، غير أنها الشفقة بالطبع - تلك العاطفة الطيبة التي تخالج صدورهن - هي التي جعلت القلق يستبد بهن بسبب التعذيب الذي ينزل بإخوان لنا من البشر.» وغني عن القول أن هذا لا يعني «بالطبع» أن هذه كانت المشاعر المسيطرة على النساء؛ إذ لم يعد الجمع يشعر بالمشاعر التي صمم هذا المشهد بغرض إثارتها.
28
بالتدريج فقد كل من الألم، والعقاب، ومشاهد المعاناة العلنية، أساساته الدينية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر؛ غير أن هذه العملية لم تحدث بغتة، ولم تفهم جيدا حينذاك، حتى بيكاريا أخفق في أن يرى كافة نتائج طريقة التفكير الجديدة التي أضنى نفسه في بلورتها؛ لقد أراد أن يقيم القانون على أساس أفكار روسو بدلا من الأساس الديني؛ وأكد أن القوانين «ينبغي أن تكون اتفاقيات بين أشخاص يتمتعون بالحرية». ولكن مع أنه نادى باعتدال العقوبة - إذ ينبغي أن تكون «أقل عقوبة ممكنة في القضية المطروحة»، و«متناسبة مع الجريمة» - فإنه ظل مصرا على أنها ينبغي أن تكون علنية؛ فقد رأى أن العقاب العلني يكفل شفافية تطبيق القانون.
29
من وجهة النظر الفردانية والعلمانية الناشئة، كانت الآلام تخص صاحبها وحده في الزمان والمكان الحاليين. لم يتغير التوجه الذهني نحو الألم بسبب تطورات طبية في علاج الألم. لقد حاول الأطباء بالطبع تخفيف الألم في الحال، غير أن الطفرة الحقيقية في علم التخدير لم تحدث إلا في منتصف القرن التاسع عشر مع استخدام الإيثير والكلوروفورم. إنما حدث التغيير في التوجه الذهني نحو الألم كنتيجة لإعادة تقييم جسد الفرد وآلامه. ولما كان الألم والجسد نفسه يخصان الفرد وحده، وليس المجتمع ككل، لم يعد ممكنا التضحية بالفرد من أجل مصلحة المجتمع أو من أجل غاية دينية أسمى. وكما أكد المصلح الإنجليزي هنري داجي فإن: «خير وسيلة لتعزير مصلحة المجتمع هي احترام الأفراد.» وبدلا من أن يكون العقاب بمنزلة تكفير عن الخطيئة، حري بنا أن ننظر إليه على أنه سداد «دين» للمجتمع، ومن البديهي أنه ما من سداد يمكن أن ينتج عن جسد مشوه. وفي حين كان الألم يرمز إلى الإصلاح في ظل النظام القديم، بدا في ذلك الوقت عائقا أمام أي إبراء ذي معنى من الدين. ومن أمثلة هذا التغير في وجهات النظر أن كثيرين من القضاة في المستعمرات البريطانية بأمريكا الشمالية بدءوا في فرض الغرامات المالية في جرائم التعدي على الممتلكات بدلا من الجلد بالسياط.
30
من ثم، كانت وجهة النظر الجديدة تعتبر العقوبات القاسية التي تنفذ في مكان عام هجوما على المجتمع لا تعزيزا له؛ فقد جرد الألم الفرد - والمشاهدين أيضا من خلال التوحد معه - من إنسانيته، وجعله وحشا همجيا بدلا من أن يفتح الباب أمامه إلى الخلاص من خلال التوبة. وعليه استهجن رجل القانون الإنجليزي ويليام إيدن عرض الجثث فقال: «نترك بعضنا نتحلل كأننا خيال المآتة عند سياج الشجيرات؛ وقد عجت مشانقنا بالجثث البشرية. هل من شك في أن الألفة الجبرية بهذه الأشياء لا يمكن أن يكون لها أي تأثير سوى أنها توهن المشاعر وتدمر النزعات الطيبة لدى الناس؟» وبحلول عام 1787، استطاع بنجامين راش أن ينحي جانبا آخر شكوكه، وأكد صراحة قائلا: «لا يمكن أن يتحقق إصلاح المجرم أبدا بالعقاب العلني.» فالعقاب على الملأ يقضي على أي إحساس بالخجل، ولا يسفر عن أي تغييرات في الموقف الذهني، وبدلا من أن يقوم بدور الرادع يكون له أثر معاكس في نفوس المشاهدين. ومع أن دكتور راش وافق بيكاريا الرأي بشأن معارضة عقوبة الإعدام، فإنه اختلف معه عندما نادى بأن يكون العقاب في الخفاء، خلف جدران السجن، غايته إعادة التأهيل؛ بمعنى عودة المجرم إلى المجتمع وإلى حريته الشخصية، «العزيزة جدا على البشر جميعا.»
31
السكرات الأخيرة للتعذيب
صفحة غير معروفة