مقدمات:
مقدمة المحقق:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله الذي اصطفى، وعلى آله وصحبه أهل الوفا؛ وبعد:
فلقد تأملت الطبعات السابقة موازنا بينها في الأصول والهوامش فوقعت منها على أخطاء نحوية وإملائية وتاريخية الأمر الذي حفزني إلى طبعتنا هذه قصدا إلى تصويبات الأخطاء المشار إليها سلفا مع زيادة بعض الهوامش وحذف بعضها الآخر مما لا يحتاج إليه طلبة العربية فحققت نصوصا وصوبت أخرى، ثم أضفت بعض الإشارات والعناوين التوضيحية كالأقواس والخطوط المستقيمة تحت الجماعات والأعلام لما فيها من تيسير التحصيل وتحقيق المراد، والله أسأل أن ينفع بها ويثيب عليها وهو المستعان.
أ. د/ أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل
1 / 5
أهم مراجع الكتاب:
مراعى فيها الترتيب الزمني بحسب وفيات المؤلفين
١- الكتاب لسيبويه المتوفى "سنة ١٨٠هـ".
٢- أدب الكاتب، وعيون الأخبار، والشعر والشعراء لابن قتيبة المتوفى "سنة ٢٧٦هـ".
٣- الكامل لأبي العباس المبرد المتوفى "سنة ٢٨٥هـ"، وشرحه رغبة الآمل للمرصفي المتوفى "سنة ١٣٤٩هـ".
٤- الأمالي لأبي القاسم الزجاجي المتوفى "سنة ٣٣٧هـ".
٥- مراتب النحويين لأبي الطيب عبد الواحد اللغوي المتوفى "سنة ٣٥١هـ": مخطوط بالخزانة التيمورية رقم "١٠٢٥".
٦- أخبار النحويين البصريين للسيرافي المتوفى "سنة ٣٦٨هـ".
٧- طبقات النحويين واللغويين للزبيدي المتوفى "سنة ٣٧٩هـ".
٨- التصحيف والتحريف لأبي أحمد العسكري المتوفى "سنة ٣٨٢هـ".
٩- الفهرست لابن النديم المتوفى "سنة ٣٨٥هـ".
١٠- الخصائص لأبي الفتح بن جني المتوفى "سنة ٣٩٢هـ".
١١- الصاحبي لأحمد بن فارس المتوفى "سنة ٣٩٥هـ".
١٢- المفصل للزمخشري المتوفى "سنة ٥٣٨هـ"، وشرحه لابن يعيش المتوفى "سنة ٦٤٣هـ".
١٣- نزهة الألبا في طبقات الأدبا "النحاة"، والإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين لكمال الدين الأنباري المتوفى "سنة ٥٧٧هـ".
1 / 7
١٤- التبيان: شرح ديوان المتنبي لأبي البقاء العكبري المتوفى "سنة ٦١٦هـ".
١٥- معجم الأدباء، ومعجم البلدان لياقوت المتوفى "سنة ٦٢٦هـ".
١٦- إنباه الرواة على أنباه النحاة للقفطي المتوفى "سنة ٦٤٦هـ".
١٧- الكافية والشافية لابن الحاجب المتوفى "سنة ٦٤٦هـ"، وشروحهما وحواشيهما.
١٨- الألفية لابن مالك المتوفى "سنة ٦٧٢هـ"، وشروحها وحواشيها.
١٩- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان المتوفى "سنة ٦٨١هـ"، وفوات الوفيات لابن شاكر المتوفى "سنة ٧٦٤هـ".
٢٠- أوضح المسالك إلى ألفية بن مالك، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام المتوفى "سنة ٧٦١هـ"، وشروحهما وحواشيهما.
٢١- المقدمة لابن خلدون المتوفى "سنة ٨٠٨هـ".
٢٢- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني المتوفى "سنة ٨٥٢هـ".
٢٣- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي المتوفى "سنة ٩٠٢هـ".
٢٤- الاقتراح في أصول النحو، وهمع الهوامع على جمع الجوامع، والأشباه والنظائر، والمزهر، وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، وحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطي المتوفى "سنة ٩١١هـ".
٢٥- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب للمقري المتوفى "سنة ١٠٤١هـ".
٢٦- شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي المتوفى "سنة ١٠٨٩هـ".
1 / 8
٢٧- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب: شرح شواهد الرضي على الكافية، وشرح شواهد شرحي الشافية للرضي والجاربردي كلاهما للبغدادي المتوفى "سنة ١٠٩٣هـ".
٢٨- خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر للمحبي المتوفى "سنة ١١١١هـ".
٢٩- عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي المتوفى "سنة ١٢٤٠هـ".
٣٠- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني المتوفى "سنة ١٢٥٠هـ".
1 / 9
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف:
الحمد لله الذي أنزل الكتاب على خير الخلق، وأفصح من نطق بالضاد، صلاة الله وسلامه عليه وعلى عترته الأمجاد، وأصحابه الألى بذلوا مهجهم في سوح الجهاد فنالوا الزلفى عند ربهم يوم التناد.
فإن علم النحو من أسمى العلوم قدرا، وأنفعهما أثرا، به يتثقف أود اللسان١، ويسلس عنان البيان، وقيمة المرء فيما تحت طي لسانه لا طيلسانه ولقد صدق إسحاق بن خلف البهراني في قوله:
النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها منها مقيم الألسن٢
وبه يسلم الكتاب والسنة من عادية اللحن والتحريف، وهما موئل الدين وذخيرة المسلمين، فكان تدوينه عملا مبرورا، وسعيا في سبيل الدين مشكورا.
وبه يستبين سبيل العلوم على تنوع مقاصدها وتفاوق ثمارها٣ فإن الطالب لا يسلكها على هدى وبصيرة إلا إذا كان على جد من هذا العلم موفور، على أن المتحادثين في أي جزئية علمية إنما يعتمدان عليه في تحديد
_________
١ أي يتقوم به معوج اللسان.
٢ راجع البيتين في عيون الأخبار "كتاب العلم والبيان" الإعراب واللحن، ج٢ ص١٥٧، والكامل مع الرغبة ج٤ ص١٣٢، والعقد الفريد "كتاب الياقوتة في العلم والأدب باب في الإعراب واللحن" ج٢ ص٤٧٩ طبع اللجنة، وإسحاق شاعر عباسي مدح الحسن ابن سهل.
٣ يفوق بعضها بعضا.
1 / 11
المعنى الذي يتحادثان بشأنه، فهو الذريعة لتقريب تفاهمهما، وأداة الحكم الصحيح بينهما، قال ابن خلدون: "إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر، ولولا هو لجهل أصل الإفادة"١.
وإن من يحاول إقامة الدليل على فضله بالبرهان كان كمن يتكلفه على إشراق الشمس وضياء النهار، فلذا قدر المؤرخون للنحويين جهودهم، ورفعوا لهم أعلام الحمد، وخلدوهم في صحائفهم بمداد التبجيل والتكريم.
وخليق بمن يدلف٢ إلى روضة هذا الفن النضير أن يعرف سبب وضعه وكيف نشأ؟ والمراحل التي اجتازها حتى استوى قائما، وأن يقف على تاريخ مشاهير رجاله الذين عبدوا مهيعه٣ وأقاموا صوى الهداية على حفافيه٤ خوف الدثور والضلال، وعلى طبقاتهم في عصورهم المختلفة وأوطانهم المتغايرة وعلى ما شجر بينهم من خلاف في الآراء رغبة منهم في استكناه الحقيقة، وأن يلم بمؤلفات هذا الفن الكثيرة وبتنوع اتجاهاتها، وبترتيبها الزمني، وبالصلة بينها نقلا أو تعليقا أو نقدا، ففي الحق أن هذا العلم قد أربى على سائر العلوم في مصنفاته.
لقد غبر كثير من طلابه يدرسونه آمادا متطاولة ونفوسهم تواقة إلى تعرف هذه النواحي التي لا ينتظمها سفر خاص، بل تشتت في بطون الكتب، فلا ننال منها إلا بشق الأنفس.
هذا الذي حفزني إلى وضع هذا الكتاب، والله سبحانه أستعين في السداد والتوفيق ...
_________
١ المقدمة: الفصل السادس في العلوم إلخ، فصل في علوم اللسان العربي.
٢ يسير أو يتوجه.
٣ المهيع: الطريق الواسع.
٤ جوانبه.
1 / 12
تمهيد:
نشأت اللغة العربية في أحضان جزيرة العرب خالصة لأبنائها مذ ولدت نقية سليمة مما يشينها من أدران اللغات الأخرى.
لبثت كذلك أحقابا مديدة كان العرب فيها يغدون ويروحون داخل بلادهم على ما هم عليه من شظف العيش، غير متطلعين إلى نعيم الحياة وزخارفها فيما حولهم من بلاد فارس والروم وغيرها، وإن دفعتهم الحاجة إليها حينا، وتبادل المنافع حينا آخر.
على أنه كان في أسواقهم الكثيرة التي تقام بينهم طوال العام غناء أي غناء في عيشتهم البدوية القانعة، ومن أشهرها عكاظ "بين نخلة والطائف" كانت تقام شهر شوال١، وبعده مجنة "بمر الظهران" من أول ذي القعدة إلى عشرين، وبعده ذو المجاز "خلف عرفة" إلى أيام الحج.
ولقد كان في هذه الأسواق فوق ما تضمه من مرافق الحياة ومتطلبات المعيشة منتديات للأدب، يعقدون فيها المجامع ذات الشأن يتبارى فيها مداره الخطباء٢، ومفوهو الشعراء من القبائل المتنائية الأصقاع، يعرضون فيها مفاخراتهم ومنافراتهم ومعاظماتهم وكل ما يعن لهم في جيد الخطب وبديع الشعر٣.
_________
١ في القاموس "عكاظ كغراب سوق بصحراء بين نخلة والطائف كانت تقوم هلال ذي القعدة وتستمر عشرين يوما تجتمع قبائل العرب فيتعاكظون أي يتفاخرون ويتناشدون" وفي المصباح "وكان يقام فيها "عكاظ" السوق في ذي القعدة نحوا من نصف شهر ثم يأتون موضعا دونه إلى مكة يقال له: سوق مجنة فيقام فيه السوق إلى آخر الشهر ثم يأتون موضعا قريبا منه يقال له: ذو المجاز فيقام فيه السوق إلى يوم التروية "ثامن ذي الحجة" ثم يصدرون إلى منى" اهـ.
٢ المدره: السيد الشريف، والمقدم في اللسان والسيد عند الخصومة والقتال.
٣ أخبار أسواق العرب وأماكنها مبسوطة في معجم ما استعجم للبكري، ومعجم البلدان لياقوت، وصفة جزيرة العرب للهمداني، ومع التوزيع في أجزاء الأغاني، وفي الجزء الأول من بلوغ الأرب للألوسي فصل ضاف فيها.
1 / 13
عاد ذلك كله على اللغة بتثبيت دعمائها وإحكام رسوخها وجودة صقلها وبقيت كذلك متماسكة البنيان غير مشوبة بلوثة١ الأعجام، إلى أن سطع نور الإسلام على ما حول الجزيرة العربية بالفتوحات الإسلامية ودخل الناس في دين الله أفواجا ثم تتابعت الفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين، فوصلت في عهد سيدنا عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- شرقا إلى نهري السند وجيحون، وغربا إلى الشام ومصر، فكان من الطبعي هبوط العرب ومعهم عشائرهم وعمائرهم٢ إلى هذه الأمصار التي افتتحوها ودخلت تحت حوزتهم، وبحكم الفتح قد كثر تملكهم للموالي في البلاد المفتوحة عنوة.
كما كان من الطبعي تقاطر الوافدين من هذه الأمصار المفتوحة إلى الجزيرة العربية، إذ فيها المدينة المنورة حاضرة الإسلام، ومقر الخلفاء الراشدين وعلية الدولة. وفيها مكة المكرمة، وبها الكعبة المشرفة التي يؤمها كل من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وهكذا ازداد هذا النزوح من الجانبين كلما توالت الفتوحات تترى في عهد بنى أمية، فلقد بلغت الفتوحات في عهدنا شرقا الهند والصين وشمالا سيبريا، وغربا ما وراء جبال البرانس بالأندلس، وجنوبا السودان، كما امتدت إلى جزائر البحر الأبيض المتوسط، فهذه المملكة المترامية الأطراف كانت تخفق عليها الراية الإسلامية التي تآخى تحت ظلها الجميع "الأحمر والأسود"، وامحت بينهم فوارق الجنس والوطن، ودينهم الإسلام وكتابهم القرآن ولغتهم العربية.
وكان أثرا لهذه الفتوحات من لدن كانت أن اختلط العرب بغيرهم اختلاطا مستمرا في البيوت والأسواق، والمناسك والمساجد، وتصاهروا واندمجوا في بعضهم حتى تكون منهم شعب واحد اجتمع فيه الصريح
_________
١ اللوثة بالضم الحبس في اللسان.
٢ العمائر: جمع عمارة، والعمارة: أصغر من القبيلة، أو الحي العظيم.
1 / 14
والهجين، والمقرف١ والعبد، اقتضى كل أولئك أن يستمع بعضهم من بعض وأن يتفاهموا في كل ما يتصل بهم ولغة التخاطب الوحيدة بينهم في كل ما يحيط بهم هي العربية، فكان لزاما على غير العربي أن تكون لغته العربية مهما عالج في ذلك وعانى، كما كان لزاما على العربي أن يترفق بغير العربي ويتريث معه في التخاطب، ضرورة التعاون بين الطرفين فكل منهما يسمع من الآخر، والسمع سبيل الملكات اللسانية فما اللغة إلا وليدة المحاكاة وما يصل إلى السمع.
وبطول هذا الامنزاج تسرب الضعف إلى نحيزة العربي وسليقته، على أن غير العربي كان ينزع قسرا عنه إلى بني جلدته، وإن طال لبثه بين ظهراني العرب، فقد كان في عهد الرسول ﷺ صهيب يرتضخ الرومية، وسلمان الفارسية، وبلال وسحيم عبد بني الحسحاس الحبشية.
وتولد من هذا كله أن اللغة العربية تسرب إليها اللحن، ووهنت الملاحظة الدقيقة التي تمتاز بها وهي اختلاف المعاني طوعا لاختلاف شكل آخر الكلمة، فإن هذه الميزة كانت موفورة لديهم وهم يعبدون عن مخالطة سواهم من ذوي اللغات الأخرى التى خلت منها.
ولقد كان هذا النوع أول اختلال طرأ على اللغة العربية، منذ كان الإسلام، وكان الموالي والمتعربون، وطفق يزداد رويدا رويدا ما طال الزمن وتفسحت رقعة الإسلام.
_________
١ الصريح: من أبواه عربيان، والهجين: من أبوه عربي لا أمه، والمقرف: من أمه عربية لا أبوه، لأن الإقراف من قبل الأب والهجنة من قبل الأم.
1 / 15
وضع النحو وتسميته:
سبب وضع النحو:
قال أبو الطيب ١: "واعلم أن أول ما اختل من كلام العرب وأحوج إلى التعلم الإعراب، لأن اللحن ظهر في كلام الموالي والمتعربين من عهد النبى ﵊، فقد روينا أن رجلا لحن بحضرته فقال: "أرشدوا أخاكم فقد ضل"، وقال أبو بكر: "لأن أقرأ فأسقط أحب إلي من أن أقرأ فألحن"٢.
وقال ياقوت: "مر عمر بن الخطاب ﵁ على قوم يسيئون الرمي، فقرعهم فقالوا: إنا قوم "متعلمين"، فأعرض مغضبا، وقال: والله لخطؤكم في لسانكم أشد علي من خطئكم في رميكم"٣.
وقال ابن جني: "ورووا أيضا أن أحد ولاة عمر -رضى الله عنه- كتب إليه كتابا لحن فيه، فكتب إليه عمر أن قنع ٤ كاتبك سوطا"٥.
وقال ابن قتيبة: "سمع أعرابي مؤذنا يقول: أشهد أن محمدا رسول الله
_________
١ هو عبد الواحد بن علي أبو الطيب اللغوي الحلبي، له تصانيف جليلة منها مراتب النحويين توفي سنة ٣٥١هـ.
٢ راجع مراتب النحويين، ونقل هذا السيوطي في المزهر أوائل النوع الرابع والأربعين، والحديث الشريف مذكور في الخصائص "باب في ترك الأخذ عن أهل المدر إلخ" ج١ ص٤٠٨، ومعجم الأدباء "الفصل الأول فضل الأدب" ج١ ص٨٢، والأثر المذكور نسب في معجم الأدباء الموطن السالف للشعبي.
٣ الموضع السابق في المعجم.
٤ يقال: قنع المرأة: ألبسها القناع، ورأسه بالسوط غشاه به.
٥ راجع الخصائص البحث السابق وقد ذكر النحاة والمؤرخون هذا الأثر مع تغيير في بعض الكلمات ومع تعيين الوالي وهو أبو موسى الأشعري إذ كان واليه بالبصرة، وتعيين اللاحن وهو أبو الحصين بن أبي الحر العنبري كما في ترجمة يزيد بن مفزع الحميري في وفيات الأعيان، وتعيين اللحن هو قول الكاتب: من أبو موسى الأشعري، راجع باب الاستثناء في المفصل وشرحه، وفي شرح الرضي على الكافية، وفي معجم الأدباء ج١ ص٨٠ حادثة أخرى تماثل هذه استشخص عمر فيها العامل وضربه بالدرة.
1 / 16
بنصب رسول، فقال: ويحك! يفعل ماذا١؟ ودخل أعرابي السوق فسمعهم يلحنون، فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون، ونحن لا نلحن ولا نربح!! "٢.
وقال ابن عبد ربه: "ودخل على الوليد بن عبد الملك رجل من أشراف قريش فقال له الوليد: من ختنك؟ قال له: فلان اليهودي، فقال: ما تقول، ويحك؟ قال: لعلك إنما تسألني عن ختني٣ يا أمير المؤمنين، هو فلان بن فلان"٤.
وهكذا انتشرت جرثومة اللحن فأعدت الخاصة حتى صاروا يعدون من لا يلحن، قال الأصمعي: "أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل الشعبي وعبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف وابن القرية، والحجاج أفصحهم" وانتقلت من الحاضرة إلى البادية قال الجاحظ: "قالوا: وأول لحن سمع بالبادية: هذه عصاتي" كل ذلك والدولة الأموية ما فتئت قائمة، والنعرة العربية مستحصدة المرة ومانعة الدرة.
وسترى أمثلة كثيرة من اللحن عند الكلام على واضع النحو اجتزأنا بذكرها ثمة حتى لا يكون الحديث معادا، على أن ما رأيته وما ستراه قل من كثر، وبعض من كل.
لهذا وذاك أهابت العصبية العربية بالعلماء في المصدر الأول الإسلامي
_________
١ كلمة "ماذا" اختصت من بين أسماء الاستفهام بجواز عمل ما قبلها فيها كما هنا خلافا لبعضهم.
٢ راجع عيون الأخبار "كتاب العلم والبيان والإعراب واللحن" ج٢ ص١٥٨ وما بعدها والحادثة الثانية مذكورة أيضا في المعجم الموضع السابق.
٣ الختن بفتحتين كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ. وقال الأزهري الختن أبو المرأة والختنة أمها فالأختان من قبل المرأة والأحماء من قبل الرجل.
٤ راجع العقد الفريد "كتاب الياقوتة في العلم، والأدب والإعراب واللحن" ج٢ ص٤٨٠، ولكن في خزانة الأدب شاهد ٦٥١ نسبة هذه الحادثة إلى عبد العزيز بن مروان.
1 / 17
أن يصدوا هذا السبيل الجارف الذي كاد يكتسح اللغة العربية بما قذف فيها من لحن تسربت عدواه إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة بما هدوا إليه وسموه علم النحو، غير أنهم لم تتفق كلمتهم على نوع السبب المفضي إلى وضعه، فبعض المصادر التاريخية تذكر وقائع معينة كانت هي السبب عندهم، وهي مع كثرتها لا تتفاوت عند المقارنة بينها قوة وضعفا لا من ناحية الرواية ولا من ناحية اقتضاء الوضع، وبعض المصادر الأخرى لا تقصر السبب على حادثة خاصة بل تعتبره نتيجة لازمة لتلك الحوادث السابقة والآتية منها أمثلة ملتفة بعضها على بعض، وما أشبه هذا الرأي بالصواب، فغير مقبول في النظر أن ينهض العلماء ويستفرغوا مجهودا جبارا يؤرقون فيه عيونهم ولا يطبقون جفونهم الليالي الطويلة لتأسيس فن خطير خالد الأثر على اللغة العربية وأبناء العروبة من جزاء حادثة فردية كان يكفي في درئها إصلاحها وكفى.
ومن جهة أخرى أين المؤهلات التي ترجح كفة حادثة جزئية على مثيلاتها؟
وفي ذلك ترجيح بلا مرجح.
فالحق الذي لا ينبغي الحيود عنه أن وضع هذا العلم إنما كان لهذه الحوادث متضافرة.
قال بن خلدون: "فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول، وخالطوا العجم، تغيرت تلك الملكة بما ألقي إليها السمع من المخالفات التي للمتعربين، والسمع أبو الملكات اللسانية، ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع، وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على المفهوم، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه مثل "أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والمبتدأ مرفوع"، ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعرابا وتسمية الموجب لذلك التغير عاملا، وأمثال ذلك، وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم فقيدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة، اصطلحوا على تسميتها بعلم النحو"١.
_________
١ المقدمة الفصل السادس في العلوم إلخ ... علم النحو.
1 / 18
متى وأين كان وضعه:
عرفت مما سلف أن وضعه في الصدر الأول للإسلام، لأن علم النحو ككل قانون تتطلبه الحوادث، وتقتضيه الحاجات، ولم يك قبل الإسلام ما يحمل العرب على النظر إليه فإنهم في جاهليتهم غنيون عن تعرفه لأنهم كانوا ينطقون عن سليقة جبلوا عليها، فيتكلمون في شؤونهم دون تعمل فكر أو رعاية إلى قانون كلامي يخضعون له، قانونهم: ملكتهم التى خلقت فيهم، ومعلمهم: بيئتهم المحيطة بهم بخلافهم بعد الإسلام إذ تأشبوا١ بالفرس والروم والنبط٢ وغيرهم، فحل بلغتهم ما هول الغير عليها وعلى الدين، حتى هرعوا إلى وضع النحو كما تقدم.
وهذا هو التحقيق الذي عول عليه الجمهور، فقد زعم بعض العلماء أن العرب كانوا يتأملون مواقع الكلام، وأن كلامهم ليس استرسالا ولا ترجيما بل كان عن خبرة بقانون العربية، فالنحو قديم فيهم أبلته الأيام، ثم جدده الإسلام على يد أبي الأسود الدؤلي بإرشاد الإمام علي كرم الله وجهه ومن هؤلاء أحمد بن فارس في أوائل كتابه "الصاحبي"٣، بل غلا غلوا شديدا إذ نسب للعرب العاربة معرفتهم بمصطلحات النحو بتوقيف من قبلهم حتى انتهى الأمر إلى الموقف الأول هو الله ﷿ الذي علم آدم الأسماء كلها.
_________
١ اختلطوا أو اجتمعوا.
٢ النبط بفتحتين: جيل ينزلون سواد العراق ثم استعمل في أخلاط الناس وعوامهم والجمع أنباط كأسباب، الواحد نباطي مثلثة النون ونباط كثمان ونبطي، وتنبط تشبه بهم أو تنسب إليهم.
٣ باب القول على الخط العربي ص٧.
1 / 19
وما من شك أن هذا الرأي ناء عن المعقول، جار وراء الخيال والوهم، نعم. إن تحديد زمن وضعه في الإسلام لا سبيل إليه البتة، وفي تعيين الواضع له في المبحث الآتي تقريب لزمنه.
وقد كان وضعه ونشوءه في العراق لأنه على حدود البادية وملتقى العرب وغيرهم، توطنه الجميع لرخاء الحياة فيه، فكان أزهر بلد انتشر فيه وباء اللحن الداعي إلى وضع النحو١.
وما حاجة عرب البوادي والحجاز إليه وما برحت لغتهم فصيحة؟
_________
١ ويقال: إن أول لحن ظهر في العراق قولهم: حي على الصلاة بكسر الياء والصواب الفتح، وقيل: "لعل له عذر وأنت تلوم".
وضعه عربي محض: نشأ النحو في العراق صدر الإسلام لأسبابه نشأة عربية على مقتضى الفطرة، ثم تدرج به التطور تمشيا مع سنة الترقي، حتى كملت أبوابه، غير مقتبس من لغة أخرى لا في نشأته ولا في تدرجه وقد اختلف العلماء في أول ما وضع منه على رأيين: أحدهما: أن أول ما وضع من أبوابه هو ما وقع اللحن فيه، ثم استمر الوضع فيما بعده على هذا النمط، وذلك ما ذهب إليه جمهور النحاة اعتدادا بالروايات المستفيضة التي اقترن فيها الوضع باللحن، إلا أن تعيين الباب الموضوع أولا منوط بالرواية التي قوي سندها من بين الروايات. والآخر: أن أول ما وضع منه ما كان أقرب إلى متناول الفكر في الاستنباط، لأن وضعه مبني على أساس من التفكير في استخراج القواعد من الكلام لداعي انتشار اللحن، فالموضوع أولا ما كثر دورانه على اللسان ثم ما يليه وهكذا، ولذا قيل: إن الموضوع أولا الفاعل ثم ردفه المفعول ثم المبتدأ والخبر وهكذا. وما تقدم هو ما أطبق عليه علماؤنا خلفا بعد سلف. وزعم بعض المستشرقين: أن علم النحو منقول من لغة اليونان لأن
وضعه عربي محض: نشأ النحو في العراق صدر الإسلام لأسبابه نشأة عربية على مقتضى الفطرة، ثم تدرج به التطور تمشيا مع سنة الترقي، حتى كملت أبوابه، غير مقتبس من لغة أخرى لا في نشأته ولا في تدرجه وقد اختلف العلماء في أول ما وضع منه على رأيين: أحدهما: أن أول ما وضع من أبوابه هو ما وقع اللحن فيه، ثم استمر الوضع فيما بعده على هذا النمط، وذلك ما ذهب إليه جمهور النحاة اعتدادا بالروايات المستفيضة التي اقترن فيها الوضع باللحن، إلا أن تعيين الباب الموضوع أولا منوط بالرواية التي قوي سندها من بين الروايات. والآخر: أن أول ما وضع منه ما كان أقرب إلى متناول الفكر في الاستنباط، لأن وضعه مبني على أساس من التفكير في استخراج القواعد من الكلام لداعي انتشار اللحن، فالموضوع أولا ما كثر دورانه على اللسان ثم ما يليه وهكذا، ولذا قيل: إن الموضوع أولا الفاعل ثم ردفه المفعول ثم المبتدأ والخبر وهكذا. وما تقدم هو ما أطبق عليه علماؤنا خلفا بعد سلف. وزعم بعض المستشرقين: أن علم النحو منقول من لغة اليونان لأن
1 / 20
وضعه في العراق إنما كان بعد اختلاط العرب بالسريان وتعلم ثقافتهم، وللسريان نحو قديم ورثوه عن اليونان.
وزعم بعض منهم آخر رأيا ثالثا، فيه بعض موافقة ومخالفة لكل من الرأيين المذكورين، وافق الرأي الأول فيما وضع منه ابتداء فقط، والثاني فيما أحدث فيه بعد دور التكوين من تنظيم في التقسيم والتعريف والتعليل.
قال ليتمان: "اختلف الأورباويون في أصل هذا العلم، فمنهم من قال إنه نقل من اليونان إلى بلاد العرب، وقال آخرون ليس كذلك، وإنما كما تنبت الشجرة في أرضها كذلك نبت علم النحو عند العرب، وهذا هو الذي روي في كتب العرب من زمن، ونحن نذهب في هذه المسألة مذهبا وسطا.
وهو أنه أبدع العرب علم النحو في الابتداء، وأنه لا يوجد في كتاب سيبويه إلا ما اخترعه هو والذين تقدموه، ولكن لما تعلم العرب الفلسفة اليونانية من السريان في بلاد العراق تعلموا أيضا شيئا من النحو ... وبرهان هذا أن تقسيم الكلمة مختلف فيه، قال سيبويه: فالكلم: "اسم وفعل وحرف جاء لمعنى"، وهذا تقسيم أصلي، أما الفلسفة فينقسم فيها الكلام إلى "اسم وكلمة ورباط" وهذه الكلمات ترجمت من اليوناني إلى السرياني ومن السرياني إلى العربي فسميت هكذا في كتب الفلسفة لا في كتب النحو، أما كلمات "اسم وفعل وحرف" فإنها اصطلاحات عربية ما ترجمت ولا نقلت"١.
تلك هي الأقوال الثلاثة، والمعول عليه منها الأول، إذ الثاني مجرد اختراص٢ لا سر له إلا الولوع بالانتقاص للعرب، والثالث لا يناهض الأول فيما خالفه فيه فإنه غير مسلم أن يكون علماء العرب عيالا على غيرهم فيما يتصل بتنظيمه بعد اهتدائهم إلى اختراعه وابتكاره.
_________
١ محاضرات ليتمان.
٢ اختلاق.
1 / 21
واضعه:
علمت إجمالا أن واضعه من رجالات عصر الإسلام على ما تقدم بيانه، لكنهم اختلفوا واضطرب اختيارهم متقدمين ومتأخرين، كابن سلام في طبقات الشعراء، وابن قتيبة في المعارف، والزجاجي في الأمالي، وأبي الطيب اللغوي في مراتب النحويين، والسيرافي في أخبار النحويين البصريين، والزبيدي في الطبقات، وابن النديم في الفهرست، والأنباري في نزهة الألبا، والقفطي في إنباه الرواه، فيمن هو الواضع؟
على أن هذا الاختيار لا يعدو في الواقع أن يكون إما للإمام علي كرم الله وجهه، كما يرى الأنباري والقفطي، أو لأبي الأسود الدؤلي، كما يراه السابقون قبلهما، فأما عزو الوضع إلى نصر بن عاصم الليثي، أو عبد الرحمن بن هرمز فبمعزل عن الاختيار والتأييد، ولا أطيل الحديث بنقل كلام هؤلاء العلماء جميعا مكتفيا بنقل كلام الأنباري لأنه أعناهم بهذا المقام، وقد سرد معظم نقول السابقين عليه مع جودة الترتيب، فذكر مختاره أولا مع روايتين في سبب وضع علي كرم الله وجهه، ثم ذكر مختار غيره مع روايات أربع في سبب وضع أبي الأسود، ولعلك ذاكر ما "وجهنا" النظر إليه سابقا في سبب الوضع من أن الحق عدم الوقوف في سبب الوضع على أي قول عند سبب خاص، ثم فند القولين الأخيرين، ثم عاد مصرحا برجحان اختياره قال: "اعلم أيدك الله تعالى بالتوفيق وأرشدك إلى سواء الطريق أن أول من وضع علم العربية وأسس قواعده وحد حدوده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵇، وأخذ عنه أبو الأسود الدؤلي، وسبب وضع علي ﵇ لهذا العلم ما روى أبو الأسود، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵇ فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء يعني الأعاجم فأردت أن أضع شيئا يرجعون إليه ويعتمدون عليه، ثم ألقى إلي الرقعة وفيها مكتوب: الكلام اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبئ به والحرف ما أفاد معنى، وقال لي: انح هذا النحو
1 / 22
وأضف إليه ما وقع إليك، واعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر، وأراد بذلك الاسم المبهم. قال: ثم وضعت بابي العطف والنعت، ثم بابي التعجب والاستفهام إلى أن وصلت إلى باب "إن وأخواتها ما خلا لكن " فلما عرضتها على علي ﵇ أمرني بضم لكن إليها، وكنت كلما وضعت بابا من أبواب النحو عرضته عليه إلى أن حصلت ما فيه الكافية، قال: ما أحسن هذا النحو الذي قد نحوت! فلذلك سمي النحو".
وروي أن سبب وضع علي ﵇ لهذا العلم أنه سمع أعرابيا يقرأ: "لا يأكله إلا الخاطئين ١ " فوضع النحو.
ويروى أيضا أنه قدم أعرابي في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- فقال: من يقرئني شيئا مما أنزل الله تعالى على محمد ﷺ فأقرأه رجل سورة براءة فقال: "أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ"٢ بالجر، فقال الأعرابي: أوقد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله تعالى برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر -رضى الله عنه- مقالة الأعرابي فدعاه، فقال: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله ﷺ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن فسألت من يقرئني؟ فأقرأني هذا سورة براءة فقال: "أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ" فقلت: أوقد برئ الله تعالى من رسوله إن يكن الله تعالى برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فقال عمر -رضى الله عنه-: ليس هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم، فأمر عمر -رضى الله عنه- أن لا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود الدؤلي أن يضع النحو.
وروى عاصم قال: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى زياد، وهو أمير البصرة،
_________
١ من الآية ٣٧ من سورة الحاقة.
٢ من الآية ٣ من سورة التوبة.
1 / 23
فقال: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال له زياد: لا تفعل، قال: فجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنونا، فقال له زياد: توفي أبانا وترك بنونا، ادع لي أبا الأسود، فلما جاءه قال له: ضع للناس ما كنت نهيتك عنه، ففعل.
ويروى عنه أيضا أن أبا الأسود قالت له ابنته: ما أحسنُ السماء؟ فقال لها: نجومها، فقالت: إني لم أرد هذا وإنما تعجبت من حسنها، فقال لها: إذن فقولي ما أحسنَ السماء، فحينئذ وضع النحو، وأول ما رسم منه باب التعجب.
وزعم قوم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وزعم آخرون أن أول من وضع النحو نصر بن عاصم، فأما من زعم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز أو نصر بن عاصم فليس بصحيح، والصحيح أن أول من وضع النحو علي بن أبي طالب -رضى الله عنه- لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي، فإنه روي عن أبي الأسود أنه سئل فقيل له: من أين لك هذا النحو؟ فقال: لفقت ١ حدوده من علي بن أبي طالب ٢.
ولا ريب أن الاختلاف في المختار من القولين بين الجماعة والأنباري مرجعه إلى الحدس والتخمين، فليس مع أحد المختارين ما يرجحه على الآخر لا من العقل ولا من النقل المتواتر، فما هي إلا روايات يناهض بعضها بعضا غير أن الظنون متفاوتة عند الموازنة بين المتكافئين، ويظهر أن الحق في جانب الجماعة، فإن وضع النحو أمر خطير يتقاضى من القائم به عناية مبذولة إليه خاصة وصدوفا عن مشاغل الحياة عامة، ووقتا طويلا يستنزف في التقصي للكلام العربي، وإعمال الفكر واستخراج القواعد، في
_________
١ لفق بالكسر طفق والشيء أصابه وأخذه وأحاديث ملفقة كمعظمة مزخرفة.
٢ راجع نزهة الألبا، وقد تركنا رواية أخرى عن زياد.
1 / 24
حياة كلها هدوء واستقرار، يرفرف عليها جناح الأمن والسلام، وحياة الإمام علي كرم الله وجهه تقضت في النضال العنيف، والشجار المستحر، ملأتها الحوادث المروعة، واكتنفتها أمواج الاضطرابات الشاملة، فبعيد أن الإمام عليا يواتيه الوقت الكافي للنهوض بأعباء هذا العمل الجلل، على أنا لا نأبى أن له اليد الطولى على أبي الأسود في الإرشاد له، والإشراف عليه، وتقريره لما صح في استنتاجه، وقد يكون في ذلك تقريب للجمع بين الاختلاف في المختار فللإمام فضل الهداية إلى الأساس، ولأبي الأسود فضل القيام بوضعه على ضوء هدي الإمام.
واضعه أبو الأسود الدؤلي:
فالذي نخاله قريبا إلى الواقع ويرتضيه النظر أن أبا الأسود هو واضع هذا الفن، ونسبة الوضع للفن إنما تعتبر نتيجة لقيام الواضع ببعض الأبواب الأساسية في ذلك الفن، وهذا ما كان من أبي الأسود كما رأيت واختيار الأنباري نسبة الوضع للإمام أول كلامه اعتمادا على تفهيم الإمام أبا الأسود أقسام الكلمة وأقسام الاسم والباقي من النواسخ، إنما يتم لو تظاهر جمهرة العلماء المعنيين بهذا الشأن على الموافقة على هذه الرواية والاعتزاز بها، مع أن الذي قد سبق إليها وهو الزجاجي ساقها على أنها رواية من الروايات فحسب، ونقلها عنه كذلك ياقوت في ترجمة الإمام، أما الباقون فلم يعرضوا لها، وتصريحه آخر كلامه بالاختيار استنادا لرجوع الروايات عن أبي الأسود إلي الإمام في النهاية لا يتم أيضا مع عدم مخالفتها له في رجوع الروايات للإمام، ولا يؤدي ذلك إلى انتماء الوضع له على ما سبق في التقريب بين الاختيارين، ومما يؤيد نسبة الوضع إلى أبي الأسود ما روى بن النديم محمد بن إسحاق في الفهرست أن رجلا بمدينة الحديثة١ اسمه محمد بن الحسين
_________
١ حديثة الفرات: وتعرف بحديثة النورة، وهي على فراسخ من الأنبار وبها قلعة حصينة في وسط الفرات وقد وجد بها عدد كبير من العلماء جيلا بعد جيل.
1 / 25
كان جماعة للكتب، وقد آلت إليه خزانة صديق له كان مشتهرا بجمع الخطوط القديمة، قال ابن إسحاق: "فرأيتها وقلبتها فرأيت عجبا إلا أن الزمان قد أخلقها وعمل فيها عملا أدرسها. ورأيت ما يدل على أن النحو عن أبي الأسود ما هذه حكايته وهي أربع أوراق وأحسبها من ورق الصين ترجمتها: هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمة الله عليه بخط يحيى بن يعمر، وتحت هذا الخط بخط عتيق هذا خط علان النحوي وتحته هذا خط النضر بن شميل"١.
وقد درج على هذا الرأي متقدمو المؤرخين من أصحاب الطبقات والمعاجم، واحتذى حذوهم المتأخرون عدا الأنباري، فمن الغريب بعدئذ أن يستنكر المستشرقون هذه النسبة المتواطأ عليها قديما وحديثا زعما منهم أن عصر أبي الأسود لا يتواءم وهذه الاصطلاحات الوضعية المرتبة التي بأيدينا، وإنما هي وليدة عصر متأخر عنه، تطور فيه التعليم حتى صار مناسبا لهذه القواعد المرتبة، قالوا: "وليس حقا ما يقال إنه "أبو الأسود" واضع أصول النحو العربي"٢.
وقد اقتفى أثرهم بعض علماء العصر الحاضر، ولهذا تخلص الأستاذ أحمد أمين من الموقف بتأويل بعيد تذرع به إلى التوفيق بين الاعتراف بما هو مستفيض شائع وبين هذا الرأي الجديد، وتلمس وجها لنسبة الوضع إلى أبي الأسود بعد تسليم صحتها لكن على وجه آخر فقال: "ويظهر لي أن نسبة النحو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح، وذلك أن الرواة يكادون يتفقون على أن أبا الأسود قام بعمل من هذا النمط، وهو أنه ابتكر شكل المصحف. وواضح أن هذه خطوة أولية في سبيل النحو تتمشى مع قانون النشوء، وممكن أن تأتي من أبي الأسود، وواضح كذلك أن هذا يلفت النظر إلى النحو، فعمل أبي الأسود يسلم إلى التفكير في الإعراب ووضع القواعد
_________
١ راجع الفهرست الفن الأول من المقالة الثانية.
٢ راجع دائرة المعارف الإسلامية المجلد الأول العدد الخامس ترجمة أبي الأسود.
1 / 26