81

النسمات

تصانيف

إن لهذا الانحطاط أسبابا لن أتوسع في البحث فيها كي لا أتعدى دائرة بحثي، على أن أكبرها هو كوننا عشنا في بلادنا غرباء لا نشعر بالوطنية ولا بالقومية، فكيف يسأل من لا عقار له عن تعهد عقاره؟ أما نتائج انحطاطنا فواضحة عم بلاؤها سوريا ولبنان في الحرب، وبعد الحرب، فرأى العالم مبلغ فهمنا للحياة، ومبلغ تقديرنا للقومية وللحياة القومية.

انحطاطنا أساسي لا يزيله جلاء «الأتراك» ولا الاحتلال الإنكليزي ولا الفرنسي، حتى ولا احتلال الملائكة! إن حريتنا الاقتصادية هي الأساس الذي تبنى عليه بناية الوطن، فأين المشتغلون في هذه البناء! أين الدوائر الاقتصادية تأتينا بالإحصاءات عن حركة الصادر والوارد؟ أين هذه الدوائر تظهر لمجموعنا بالأرقام أن البلاد التي تصدر إلى الخارج 1 وتستورد 6 مصيرها الخراب؟ لقد أوجدت لنا المفوضية العليا «دائرة اقتصادية»، ولكن هذه الدائرة مهما قيل فيها فقد أنشئت بجهاد الفرنسيين واجتهادهم. هذه الدوائر هي ككل المشاريع في بلادنا أجنبية، هي كشركة الترام والماء والمرفأ والخطوط الحديدية وكل شيء ... هذه الدائرة أنشئت لأن الفرنسيين شعروا بالحاجة إليها. الذي يحس بالحاجة إلى أي أمر من الأمور ربما يكون قد تعود على استعماله، وبما أننا ما شعرنا إلى اليوم بضرورة دخول التجارة من أبوابها، فنحن لم نزل أطفالا فيها.

سيقول بعضهم: ما هذا الادعاء؟ ألا يوجد عندنا تجار؟ وفلان وفلان وفلان؟ من أين جمعوا هذه الثروة؟

جوابي على هذا: إن التاجر الذي يشتغل لنفسه ليس بتاجر. التاجر الحقيقي هو الذي يشتغل لنفسه وللأمة، التاجر الحقيقي يحسب أن الذي لا ينبع يفرغ، وأن الأمة التي تدفع لأوروبا - مثلا - ستة ملايين، وتقبض منها مليونا واحدا ستفلس بعد سنين معدودة. وما ربح التجار المعدودين المشتغلين ببيع البضائع الأوروبية إلا كربح القرد الذي كان يلحس المبرد متوهما أن فيه الحياة، وهو بالحقيقة لم يكن يلحس إلا دماء قلبه!

لا أزال أذكر يوم انتهت الحرب كيف كان فرح الناس يوم بدءوا ينظرون جبال البضائع الأوروبية مكدسة في الجمارك. إنهم فرحوا لدرجة جعلتني أعتقد أنها تأتينا مجانا! وإنني أقابل الآن بين تأخرنا وتقدم الأوروبي عندما أقرأ أسبوعيا في التلغرافات الفرنسية هذه العبارة:

استوردت فرنسا في الشهر الماضي كذا وكذا من المواد الأولية الفلانية؛ أي بنقص كذا عن الشهر الذي مثله من العام الماضي.

ولقد قامت إنكلترا وقعدت يوم اعتصب المعدنون، واضطرت الحكومة إلى شراء الفحم من الخارج، فكان العالم يتتبع أخبار ذلك الاعتصاب الأسود بنفس الأهمية التي كان يتتبع بها أخبار الحرب. •••

لقد مات منا في الحرب جوعا مائة وثمانون ألفا، فلو كنا نفهم ماهية الاقتصاديات في حياة الأمم لفكرنا يوما أن قوام الاقتصاديات هو الإنتاج، وأن الإنتاج يرتكز على اليد العاملة، وأن موت اليد العاملة هو نذير الموت لمن لم يمت!

لو كنا نفهم معنى القوة الاقتصادية لحولنا اهتمامنا بعد الهدنة إلى وضع الأسس المالية لحياتنا المقبلة، ولانصرفنا عن الاهتمام بالسياسيات - هذه السياسيات التي لا أفتكر بها إلا وأغرب في الضحك، وهو ضحك كالبكاء - وأسسنا الأحزاب الاقتصادية بدل الأحزاب السياسية.

نعم لو أننا نعرف ماهية الحياة لدخلناها من أبوابها، وبدلا من تأليفنا الوفود للاحتجاج على تعيين هذا الحاكم، وعلى تأليف تلك الإدارة، وذلك النظام؛ كنا نرسل الوفود إلى أوروبا للتوسل إليها بإنهاء المسألة الشرقية التي بانتهائها تنتهي الحرب، وبانتهائها تعود العصابات إلى السكينة، وبانتهائها يستبدل المدفع في سهولنا بالآلات الزراعية.

صفحة غير معروفة