79

النسمات

تصانيف

كذلك تبعت نساء الغزاة رجالهن إلى ساحات القتال لطبخ الطعام، وجلب الماء، وشحذ السلاح، وتاريخ الغزوات القديمة ملآن بأخبار النساء اللواتي ما قيل لهن مرة: ابقين في الحي فبنيتكن النحيفة لا قبل لها بالأسفار المضنكة.

وهكذا نرى النساء في المجتمع كله خاصعات - ككل الكائنات الحية - لأحكام الظروف، فامرأة الجندي تشحذ سلاحه، وامرأة الفلاح تغرس كرمه، وابنة الراعي تجوب البراري أمامها سائقة مئات الأنعام.

حدثني أديب عن سياحة له في نواحي الأردن قال:

رأيت مرة في صحراء خاوية مقفرة؛ فتاة في الخامسة عشرة من العمر تسوق مئات من النوق، فكانت على ظهر ناقتها كأحد كبار الفرسان بقوام منتصب كالرمح، ووجه عزيز فخور.

أما ثوبها فكان شبه قميص مفتوح من العنق إلى أسفل الصدر ينم عن تكوين لم تر العين أبدع منه، فعجبت من وجود الفتاة منفردة في قلب تلك البادية، واقتربت منها أطارحها السلام وأسألها عن حالها، فكانت تجيبني بحرية ولطف ورقة وكياسة لم أرها في امرأة غربية أو شرقية.

وما يقال عن نساء البداوة يقال عن نساء الحضارة، فنساء الطبقة الفقيرة في بلادنا قد زاولن منذ زمان المهن الأولية - ولا أقول: المهن الحقيرة؛ فليس من عمل حقير على الأرض - كالخياطة والكوي والرضاعة والخدمة في البيوت، ثم نزلت نساء الطبقة المتوسطة إلى ميدان العمل، فكان منهن المعلمات، ثم الممرضات والصحافيات وبعض الطبيبات، ولا تزال دائرة العمل تتسع أمام من تضيق بوجههن اقتصاديات الحياة، فلا يمر علينا عشر من السنين إلا ونرى النساء الوطنيات مهتمات بمسائل الاقتصاد، مقتنعات أن الحرية الاقتصادية هي أم كل حرية بشرية.

نرى مما تقدم أن حكم العالم الاجتماعي على المرأة وحصره إياها ضمن دوائر ضيقة ليس من الشرائع التي لا تزول قبل أن تزول الأرض والسماء، فحالة المرأة خاضعة دائما وأبدا لحالة الإقليم، ولحالة المحيط، ولحالة الظروف؛ أي أنها نسبية في كل زمان ومكان، تابعة لناموس التطور ككل التقاليد وكل الشرائع التي اتبعها الإنسان منذ وجد إلى اليوم، وليس لكائن أن يقول: «هذا يعني المرأة وذاك لا يعنيها»؛ إذ كل ما يهم الأمة يهم المرأة.

فكل الأبحاث التي يطرقها الرجل معتقدا أن الوقوف عليها يفيده ويفيد الأمة يمكن للمرأة أن تطلع عليها، وتدرس جزئياتها، وتلقنها لأولادها، وتباحث بها صديقاتها.

إن العراك الناشب اليوم في العالم هو عراك اقتصادي، والأمم تدافع عن اقتصادياتها - رجالا ونساء - بشدة تشابه الكلب، فلا ندري لماذا تبقى المرأة عندنا بمعزل عما يجري حولها، ولماذا ينفرد نصف الأمة في هذا العراك، بينما يقف النصف الآخر متفرجا وهو قادر أن يؤدي مساعدة كبرى لذلك النصف الذي يناضل وحده في أزمة تقصم الظهور، وتقضي على الأنفاس.

أقول هذا ناظرة إلى الوجهة المادية من هذه المسألة التي لها وجهة أدبية لا يجب إغفالها؛ إن باطلاع الرجل وحده على معلومات نافعة، واحتفاظه بها لنفسه ظلما للولد عميما.

صفحة غير معروفة