أقول: لا يا أحبائي! العلم الذي يفرقه عليكم أساتذتكم بمقدرة نادرة وإخلاص لا يعرف الملل إن هو إلا منارة تنير بحر حياتكم، ولكن العلم لا يضيع المجذاف في يدي البحار، ولا يجر القارب إلى المرفأ الأمين. العلم لا يشدد عضلات الرجال، ولا يقوي نفوسهم الخائرة ليصادموا ويقاوموا عجاج الزوابع العاصفة، يقول هوراس في قصيدة:
يقتضي أن يكون ذا قلب مدرع بثلاثة دروع من الفولاذ ذلك الرجل الأول الذي اقتحم غضب البحار على قارب ضئيل.
ولكن الشاعر تناسى أن أول بحار جابه الأمواج كان من أبناء صور أو صيدا، وأن قلبه المدرع إنما كان قلبا فينيقيا، وأن درعه المثلث كان تلك الإرادة الفينيقية التي لا تغلب.
أيها السادة، عندما نرى قواعد هيكل بعلبك، تلك الأصلاد المرمرية القائمة إلى علو عشرين مترا بثخن أربعة أمتار، عندما نفتكر أن هذه الصخور قطعت أولا من أماكن بعيدة، ثم رفعت عشرة أمتار فوق الأرض ، عندما نتأكد - وذلك بحسب تقدير العلماء - أنه يقتضي لجر إحدى هذه القواعد مسافة متر واحد جهود أربعين ألف رجل يشتغلون معا، نتساءل إذا كان هذا الهيكل صنعه شعب جبار، أو صنعه رجال فوق الرجال.
أمام هذه الخرائب يقف كاتب إفرنسي ويعترف - مجبرا - أن القوة المادية إنما هي نتيجة القوة الروحية، وأن الجهود التي صرفها عمال هيكل بعلبك إنما كانت تتناسب مع قوتهم الأدبية، ثم يتساءل هذا الكاتب عما إذا كان يمكن لشعوب هذا العصر الضعيفة الأعصاب أن تأتي بمثل هذه العبقرية المولدة لهذا الغرائب.
من العبث أيها السادة أن نبحث إذا كان أجدادنا استعانوا بالبخار أم بالكهربائية. إن القوة التي حركت ورصفت بهذا التوازن هذه الأعمدة العظيمة لم تكن قوة مادية فحسب، فهيكل الشمس ومدينة تدمر المشيدة في قلب الصحراء هما شاهدان قائمان يشيران إلى الأوج الذي بلغته الإرادة السورية.
وقد قدس أجدادنا إرادتهم الحرة ففضلوا الهجرة، كما يفعل أولادهم من بعدهم، على الإقامة في ظل سلطة مقيدة، معتقدين أن ظلاما يقيدون إرادة البشر، وأشرارا ينكرون عليهم وجودها، إنما هم رجال سقطوا عن مستوى الرجال.
تعرفون حكاية طاليس الفينيقي، أحد حكماء اليونان السبعة، الذي بحسب قول أرسطوطاليس كان أبا الفلسفة. كان طاليس هذا مدعوا إلى مائدة أماسيس، مغتصب عرش مصر، فأخذ الحضور يتكلمون عن طبيعة الحيوانات، ولما سئل طاليس عن رأيه أجاب:
إن أشر الحيوانات البرية هو المستبد، وأقدر الحيوانات الداجنة على الأذى هو المداهن.
الإرادة تكيف الكائن البشري وتميزه عن الحيوانات والنباتات التي لا تعيش إلا لنفسها، بالإرادة يقاوم الإنسان أمياله، ويسير مستقبله في طريق حرة، يقولون: إن من يريد ينال، بل ينال كل شيء.
صفحة غير معروفة