ويذكر ابن سينا في آخر «البرهان» أنه فرغ من الطبيعيات والإلهيات خلا كتابي الحيوان والنبات في عشرين يوما من غير رجوع إلى كتاب وهذا هو أحدها في التأليف، الاعتماد على النظر والاجتهاد دون رجوع إلى المصادر.
6
تمثل موسوعات ابن سينا الثلاث: الشفاء، والنجاة، والإشارات والتنبيهات التحول من العرض الجزئي عند الكندي أو الكلي عند الفارابي إلى العرض الكلي النسقي عند ابن سينا وإخوان الصفاء.
وتدل أسماء موسوعات ابن سينا الثلاث على الغرض غير المعلن، وتكشف عن المسكوت عنه. فلفظ «الشفاء» من لغة الطب، الشفاء من الأمراض ، ولكنه يعني في الفلسفة شفاء النفس بعلوم الحكمة كما أن الطب هو شفاء الجسد بالدواء، وقد يعني اللفظ معنى أعمق وهو نهاية التعلم من الوافد وتكرار الموروث، وبداية التحول من النقل إلى الإبداع. كما يعني لفظ «النجاة» الانتقال من الطب بمعنى نجاة البدن من الموت إلى الدين، نجاة النفس من الهلاك وإنقاذها بعد الموت ونيلها الخلود. ولكنه قد يعني معنى أعمق وهو التحول من القديم إلى الجديد، من التقابل بين الوافد والموروث إلى استعمالها معا كأداة للحكمة. فإذا كان الوافد أقرب إلى علوم الوسائل والموروث أقرب إلى علوم الغايات فإن كليهما قد أصبحا عند ابن سينا علوما للوسائل من أجل تأليف مستقل هو علوم الغايات تحولا من النقل من الأوائل أو من الأواخر إلى الإبداع حتى ولو كان في صيغة عرض نسقي. أما لفظا «الإشارات والتنبيهات» فهما لفظان صوفيان يكشفان عن تحول النسق العقلي المنطقي المجرد إلى إبداع ذوقي صوفي خالص، وأن الوافد والموروث كليهما لهما مصدر واحد في القلب بالإضافة إلى مصدريهما في التاريخ.
فإذا كان الكندي والفارابي قد حولا علم الكلام إلى الفلسفة فإن ابن سينا قد حول الفلسفة إلى تصوف والتصوف إلى فلسفة كما حول ابن رشد أصول الفقه إلى فلسفة، والقاضي إلى حكيم، ومن ثم تصبح الفلسفة هي الوعاء الذي تصب فيه العلوم العقلية النقلية الأربعة.
وتشبه الموسوعات الثلاث لابن سينا «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» شروح ابن رشد الثلاثة: الأكبر والأوسط والأصغر، من حيث الكم. إنما الخلاف بينهما في العرض والشرح. فابن سينا يعرض مضمون الوافد وهو نوع من التأليف في حين أن ابن رشد يشرح نص الوافد. وقد يقال إن الأوسط يعادل «الإشارات والتنبيهات» في حين أن الأصغر يعادل «النجاة» من حيث الكم. والحقيقة أن النجاة مجرد تلخيص للشفاء في حين أن الإشارات والتنبيهات اتجاه نحو الموضوع مباشرة مثل الجوامع.
والصلة بين الموسوعات الثلاث «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» ليست فقط صلة كمية مثل شروح ابن رشد الثلاثة الأكبر والأوسط والأصغر بل هي علاقة كيفية تدل على التحول من النقل إلى الإبداع. «الشفاء» أقرب إلى النقل نظرا لظهور الوافد فيه، و«النجاة» أبعد عن النقل وأقرب إلى الإبداع نظرا لاختفاء أسماء أعلام الوافد فيه.
7
في حين أن «الإشارات والتنبيهات» أقرب إلى الإبداع؛ لأنها تنبع من الداخل أكثر من صدورها من الخارج. تعتمد على الذوق أكثر مما تعتمد على النظر.
8
صفحة غير معروفة