وهناك احتمالات ثلاثة للاختلاف بين الحكيمين؛ الأول أن يكون حد الفلسفة غير صحيح، وهو العلم بالموجود بما هو موجود، أي وجود موضوع تتلاقى عليه الآراء، وجود حقيقة موضوعية يتفق عليها العقلاء. أما إذا كانت الفلسفة مجرد هوى أو رأي فما أكثر الأهواء والآراء، أي النسبية التي تضحي بالموضوعية، المعرفة التي تغفل الوجود حتى تبقى المعرفة وحدها مجرد شكوك وظنون دون معيار للتصديق بينها. والحد صحيح، مطابق الصناعة الفلسفة. ويتبين ذلك من إحصاء جزئيات هذه الصناعة؛ فالعلوم إما إلهية أو طبيعية أو منطقية أو رياضية أو سياسية، والفلسفة هي المستنبطة لها حتى إنه لا يوجد علم إلا وللفلسفة فيه رأي بمقدار الطاقة الإنسانية عن طريق القسمة المأثورة عن أفلاطون. ولما رأى أرسطو أن أفلاطون قد أكمل القسمة فإنه أخذ منهجا آخر هو القياس وهذبه في البرهان ليتمم القسمة؛ ومن ثم كان المنطق هو المدخل للطبيعيات والإلهيات. قصد الحكيمان إذن معرفة العالم على ما هو عليه دون زخرفة أو إغراب أو تكلف. حد الفلسفة إذن صحيح؛ إنها العلم بالموجود بما هو موجود.
والاحتمال الثاني أن يكون رأي الجميع أو الأكثرية في هذين الفيلسوفين سخيفا غير معقول ودخيل. وهو احتمال بعيد. فقد أجمع العقلاء على أن هذين الحكيمين مبرزين. وليس أقوى من شهادة الجميع على شيء واحد؛ فكما أن العقل حجة فإن إجماع العقلاء حجة، وهو إجماع عن عقل لا عن تقليد. قد يخطئ عقل واحد إذا لم يتدبر الرأي ولم يتحقق من صدقه أو أهمل في البحث مما قد يغطي ويعمي ويخيل. ولكن لا تخطئ عقول الجميع بعد اتفاقها وتأملها. لذلك اتفقت الألسنة - أي الشعوب المختلفة - على تقديم هذين الحكيمين. ويضرب بهما المثل على التفلسف، وإليهما يساق الاعتبار، وعندهما يتناهى الوصف العميق والعلوم والاستنباطات والغوص في المعاني.
والاحتمال الثالث أن يكون هناك تقصير في معرفة الظانين بأن بينهما خلافا في الأصول، وهو الاحتمال الأقرب. ولكل تقصير في الظن والنظر دوافعه وأسبابه. ويمكن القضاء على هذا الظن أو التقصير بمعرفة طرق اليقين؛ فاليقين في العلوم الطبيعية والشرعية والأخلاقية؛ ومن ثم يمكن استقراء الجزئيات التي يبدو عليها الخلاف بين الحكيمين حتى يصح الحكم بالاختلاف أو الاتفاق.
17
ويحصي الفارابي اثني عشر موضعا للاختلاف الظاهري بين أفلاطون وأرسطو ويبدده ويبين اتفاقهما فيها؛ فالحقيقة مزدوجة، ذات جانبين. أخذ كل منهما جانبا ليكمل الآخر في رؤية متكاملة متزنة متعادلة عند الفارابي وسابقة على رأي الحكيمين. أخذ كل حكيم رأيا أحادي الجانب وجمع الفارابي الرأيين الأحادي الجانب الذي يغلب على ثقافة الوافد في رؤية متكاملة تغلب على ثقافة الموروث. العقل اليوناني أحادي والوحي الإسلامي تكاملي، على النحو الآتي : (1)
لكل من الحكيمين سيرة وأفعال مختلفة مما أدى إلى أقوال متباينة لما كانت السير والأفعال والأقوال تابعة للاعتقاد. وهو منظور إسلامي، ربما كان الاختلاف بينهما أعمق في أصول الاعتقاد؛ فقد تخلى أفلاطون عن كثير من الأمور الدنيوية وحذر من غوائلها، في حين أن أرسطو تفحص فيها وامتلك وتزوج واستوزر للإسكندر. ولا خلاف في ذلك؛ فقد اعتنى أفلاطون بالسياسة، وهذب السير العادلة والعشرة الإنسية المدنية، وأبان فضائلها، وكشف عن مفاسدها بترك العشرة وإيثار العزلة، وهو ما تدرسه الشعوب حتى اليوم، ابتدأ بالنفس ثم انتهى بالجماعة، طبقا للأولويات في الأهمية؛ فالأخلاق قبل السياسة، والنفس قبل العالم. أما أرسطو فقد بدأ بالسياسة وبالعالم. ولما اطمئن إليها توجه إلى النفس والأخلاق؛ فنقطة البداية عند أفلاطون هي نقطة النهاية عند أرسطو، ونقطة النهاية عند أرسطو هي نقطة البداية عند أفلاطون. الخلاف بينهما في إدراك الأولويات طبقا لتباين القوى الطبيعية بين الحكيمين، زيادتها في أحدهما ونقصها في الآخر، وهو تصور إسلامي إيثارا للنفس على العالم، وللأخلاق على السياسة
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
أو في قول المسيح ماذا تكسب لو كسبت العالم وخسرت نفسك؟ (2)
آثر أفلاطون عدم تدوين العلوم وتأليف الكتب، وفضل إبقاءها في الصدور والعقول. ولما خشي عليها من النسيان عبر عنها بالرموز والألغاز حتى لا يطلع عليها إلا أهلها ومستحقوها، وهي طريقة «المضنون به على غير أهله»، وسبب استعمال الصوفية أيضا رموزهم وألغازهم حماية لأنفسهم وإبعادا لأهل الظاهر عنها. أما أرسطو فقد دون الكتب ورتبها وبينها وأوضحها لإيصالها للناس. والحقيقة أن هذا الاختلاف ليس كليا مطلقا؛ فعند كل من الحكيمين بعض مآثر الآخر. ألغز أرسطو وأخفى بعض علومه، وحذف كثيرا من المقدمات الضرورية في القياسات الطبيعية والإلهية والخلقية، وكان يقول الحقائق إلى المنتصف حتى يدرك الناس بعقولهم النصف الآخر. استعمل هذه الطريقة في رسائله مع الإسكندر «وكل لبيب بالإشارة يفهم». يعطي المقدمات كي يستنبط الإسكندر النتائج أو يعطي النتائج حتى يستنبط الإسكندر المقدمات. يذكر مقدمات ويستنبط منها نتيجة أخرى حتى ينبه القارئ على نتيجة القياس. يذكر الجزئيات حتى يستقريها القارئ ويصل إلى الكليات أو يعطي الكليات حتى يستنبط السامع منها الجزئيات أو يقيس عليها جزئيات أخرى قياسا تمثيليا. وقد يغمض في كلامه حتى يقوم القارئ بالإيضاح بنفسه وإعمال الجهد في العلم والتعلم. رتب الكتب ونظمها، وكأن ذلك طباع له ثم تحول عنها في رسائله، وكما وضح ذلك في رده على أفلاطون في رسالته التي يعذله فيها على تدوين العلوم وإخراجها للناس بأن ترتيبها لا يفهمه إلا من يستحقها؛ فالظاهر أن الحكيمين مختلفان. والحقيقة أن مقصودهما واحد.
18 (3)
صفحة غير معروفة